انه عالم افتراضي، هكذا يقولون في توصيفه، وقد تكون هذه حقيقة، ربما هو عالم غير ملموس، ولكنه أثبت وجوده بجدارة الى جانب العالم الواقعي وتداخل معه، وصار الواقع الحقيقي للإنسان أكثر انشغالا به وتعالقاً معه، فلا أحد يستطيع أن ينكر الدور الذي تلعبه اليوم مواقع التواصل الاجتماعي في حياتنا اليومية، لاسيما الموقع الأكثر شهرة واستخداما من لدن الناس عبر المعمورة كلها، ونعني به (الفيس بوك).
وكما هو متوقَّع، فإن هذا العالم المفترَض، او الافتراضي، سيف ذو حدين، فإذا لم تستخدمه بذكاء وبراعة وحذر، وتصمم على الابتعاد عن الخطأ، وتضع بينك وبين النفس حواجز تصدها عن الانحدار واللهو وما شابه، فإن النتائج من التعامل مع الفيس بوك ومواقع التواصل الأخرى مثل (تويتر، ويوتيوب) قد تكون وخيمة، وقد تكون مؤثرة في الوقع الملموس للإنسان بصورة كبيرة، فهناك من فقد حياته مثلا بسبب احد هذه المواقع، كأن يتم استدراجه واختطافه.
حدثت قصص كثيرة من هذا القبيل وسمعنا عن تفاصيلها، والمشكلة الأكبر أن الأطفال باتوا على علاقة واضحة مع هذه المواقع وباتوا يتعاطون معه باستمرار، حتى بات لكل واحد منهم (غرفته) الخاصة التي لم يستطع الإطلاع عليها حتى الأبوان، وهذه كارثة حقيقية، حيث يقيم الطفل علاقات مختلفة مع بعض الذين يكبرونه في السن، وهنا يوجد مكمن الخطورة، ومنهم من يتعرض الى غسيل دماغ، فيتم زرع الأفكار المتطرفة في دماغه، فكرا وسلوكا، ما يعني أن المتطرفين كسبوا فردا جديدا الى جانبهم.
وفي محاولة جادة لمتابعة هذه الشبكات الاجتماعية، والإطلاع على طبيعة ما يُنشَر فيها من منشورات (وبوستات) وملصقات، وسوى ذلك مما هو متاح للجميع بلا استثناء، صغارا وكبارا، شيبا وشبابا، نساء ورجالا، فإن ما يحدث في هذا العالم الافتراضي قد يفوق ما نتوقعه كثيرا، ويتجاوز تصوراتنا له، ولما يحدث فيه.
ولكننا هنا في هذا المقال نريد أن نسلط الضوء على ظاهرة التطرف، وكيف بدأت تتغلغل بين الناس، قولا وسلوكا، لغة وتفكيرا، وكيف أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي وسيطا ناقلا للتطرف ونشر أفكاره وتوصيلها الى شرائح مختلفة من مجتمعاتنا، حتى باتت لغة التطرف تحرقنا بلهيبها، ورائحة التعصب تزكم أنوفنا على مدار الساعة.
الأمر الذي يستوجب تسليط الاهتمام والضوء على هذه الظواهر الخطيرة، خاصة أن القضاء على العالم الافتراضي بات مستحيلا، كما أن منع أولادنا أو الناس بمختلف أعمارهم عن مواقع التواصل بات شبه مستحيل، أو يعد قمعا للرأي وتكميما للأفواه ومصادرة للحريات، ولهذا أصبحنا بين نارين، نار المخاطر الموجودة في هذه المواقع من جهة، ونار عدم القدرة على منع هذه المواقع من جهة أخرى، كونها مثلما تنطوي على مساوئ فإنها تنطوي على محاسن أيضا.
لغة التعصب والأحقاد
لماذا نهمل ما هو مفيد وجيد، في وسائل الاتصال الحديثة وشبكة الانترنيت، لنتجه إلى الجانب الثاني، ونعني به الجانب السيئ منه، التطرف تحديدا، ألا يمكننا أن نوظف الجانب الايجابي في هذه المواقع لصالحنا، لقد تحقق محاسن كثيرة عندما تم استحداث الانترنيت، وبات من السهل جدا أن تنقل المعلومة او تحصل عليها في ظرف دقائق لا أكثر، بينما كان الحصول على معلومة في كتاب او صحيفة ومراجع ورقية قد يستغرق أسابيع أو شهورا، بينما الآن يمكنك الى تدخل الى محرك البحث في جوجل لتحصل على كل ما تريد في مدة زمنية قليلة.
كذلك خدمة الرسائل تم اختصار زمنها الى دقائق بدلا من شهور، فقد كنت قبل الانترنيت اراسل كاتبا من البحرين، عبر البريد العادي (الورقي) وكانت رسالتي تستغرق شهرا حتى تصل، فيكتب لي رسالة جوابية تستغرق شهرا آخر، وهكذا كنا نحتاج الى شهرين لكي نقرأ الرسائل الورقة التي تحمل معلومات نقدية وسرية وقصصا لبعضنا البعض، أما الآن فبات الايميل او الفيس بوك ينقلها لنا في لحظات لا اكثر، فضلا عن خدمة الصورة مع الصوت في برنامج السكايب وسوى ذلك.
هذه السرعة في تبادل المعلومات والمقالات والعلوم وفنون الكتابة والصور والأفلام وسواها على مدار الساعة، وبوقت قصير جدا، جعل من هذه الخدمات الالكترونية حاجة أساسية للحياة البشرية بحيث بات من المستحيل الاستغناء عنها، خاصة بعد أن تم تجريب فوائدها والجانب الجيد منها، وهذا ما جعل أشد المعارضين للانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي، لا يمكنه الإفصاح عن رأيه او رغبته بالعودة الى الوراء وإلغاء هذه الخدمات الالكترونية، لأننا سوف نعود الى الغرف المغلقة والحواجز والأسوار العالية بعد أن تم تهشيمها ليعيش العالم كله في قرية صغيرة واحدة، وأحيانا تصبح هذه القرية غرفة واحدة.
في جانب آخر هناك ظاهرة تتعلق بطريقة الخطاب والحوار بين الأشخاص المختلفين بالانتماء العرقي او الديني او المذهبي، حيث تنتشر رائحة الكراهية والتعصب لتزكم الأنوف، وهذا ما يشكل خطرا فادحا على الشعوب المتنوعة في مكوناتها، فبدلا أن يتم استغلال هذا التنوع في بناء دولة ومجتمع متماسك وقوي، تصبح حالة التنوع نوع من العبء يسحب الناس الى اختلاف الآراء وإعلانها في الفيس بوك وبقية المواقع الأخرى بلغة لا تحمل شيئا من التوافق او الرحمة والإنسانية، بل كلها كراهية وتطرف، ويمكن بسهولة ان نلاحظ مثل هذه اللغات المتطرفة وهي تغزو مواقع التوصل فتكون عاملا مساعدا على انتشار العنف بدلا من تقليله او تحجيم دوره.
هل ثمة بدائل في الأفق؟
هل يعقل أن تتحول هذه المزايا الإلكترونية للتواصل، إلى عيوب ومشاكل تهدد السلم الأمني والتمساك المجتمعي بسبب الكراهية والتطرف؟، كيف يمكن أن نستثمر مواقع التواصل الاجتماعي لصالح الإنسان، ألا يمكن أن نبتعد عن لغات التطرف والتهديد، أليس بمقدورنا درء خطر الكراهية، ألا يمكن أن نعيش معا، كل يؤمن بعقائده وآرائه، من تجاوز على عقائد وآراء الاخر، ونبقى مسالمين متعاونين في رقعة واحدة، قرية او مدينة او دولة؟.
لماذا باتت تنتشر لغة التطرف والكراهية في الحوار بالفيس بوك مثل النار في الهشيم، ألا يمكن أن نصل الى حلول وسط، تضمن لنا التعايش والسلم مع وجود خدمات مواقع التواصل الاجتماعي والانترنيت بمختلف أنواعها؟، هذه التساؤلات كلها ممكنة جدا، وليست مستحيلة، ولكن يجب أن تكون هناك خطط وخطوات تهدف الى تقريب وجهات النظر المختلفة التي تؤدي الى التناحر والتعصب وإثارة الأحقاد ونشر الكراهية بين أفراد المجتمع الواحد.
وأولى هذه الخطط والخطوات، وضع قواعد ثابتة لتبادل العلاقات الإنسانية في إطار السلم، وعدم التجاوز على أفكار وآراء وعقائد الآخر في أي حال من الأحوال، وأهم خطوة في هذا المجال ينبغي أن تتم في العالم الحقيقي وفي حياتنا الواقعية، بمعنى علينا أن نعتاد ونتعلم كيفية التعامل مع بعضنا بعيدا عن الكراهية والضغينة، وعلينا أيضا احترام القواعد العلاقاتية التي نؤمن بها وننشط ونتداخل فيما بيننا وغفا لهذه القواعد.
ومن ثم ينبغي أن ينتقل هذا الانسجام والسلم الأهلي والتعايش الى العوالم الأخرى، ومن المهم بطبيعة الحال أن نوظف وسائل الاتصال الاجتماعية وجميع خدمات الانترنيت لكي نحد من تأثير وحضور الكراهية والتعصب والتطرف بيننا، وهذا ليس عسيرا اذا وعت النخب دورها والمهمات التي ينبغي القيام بها، كذلك هناك دور مهم للمجتمع ومكوناته كافة، فعلى الجميع أن يستثمروا مواقع الاتصال من اجل زيادة التماسك ونبذ الكراهية وتقليل الأحقاد بين افراد المجتمع الى أدنى حد ممكن للعيش بسلام وانسجان.
اضف تعليق