q

عندما أعلن رئيس النظام البائد (صدام حسين) في تموز عام 1979 عن إحباطه محاولة انقلابية للإطاحة به كنائب لرئيس الجمهورية آنذاك، واستغلال الساعات الاخيرة من حياة الرئيس الأسبق (أحمد حسن البكر)، وصف معظم المراقبين – إن لم نقل كلهم- بأن القصة مفبركة من الألف الى الياء؛ ولم تكن سوى ستار تتم من خلفه تصفيات دموية في صفوف الكادر المتقدم لحزب البعث الرافضين لصعود صدام الى قمة السلطة.

ظروف مشابهة واجهت حياة صدام بعد اكثر من عقد من الزمن وتحديداً في شباط عام 1991 في اللحظات التي قرر فيها التراجع عن قراره احتلال الكويت وإصداره الأوامر بالانسحاب، وما جرى من مشاهد مريعة ودامية للجيش العراقي المنكوب والجنود الهاربين، فصدرت تحليلات في حينها بأن من اسباب عدم اتخاذ صدام قرار الانسحاب من الكويت قبل شن الحرب عليه، هو خوفه من انقلاب الضباط والمقربين عليه، او على الاقل شعوره بالضعة والمهانة أمامهم، وهذا بحد ذاته من أعظم ما كان صدام يتجنبه طيلة حياته.

هذا التحليل كانت له مصداقيته عندما تحدث مترجم السفارة السوفيتية – آنذاك- عن جواب صدام للمبعوث السوفيتي؛ يفغيني بريماكوف، على طلبه بالانسحاب من الكويت، بالقول، وبصيغة مازحة: "لو اتخذت هكذا قرار الآن فان ضباط الجيش سيعدمونني في هذا المكان"!

وفعلاً حصل الانقلاب! ولكن ممن؟!.

ليس من قبل ضباط الجيش العراقي وإنما من قبل ابناء الشعب العراقي في الوسط والجنوب لما ألحقه صدام بالجيش، وهم عبارة عن المجتمع العراقي – الشيعي طبعاً- من ذلّ ومهانة وحوله الى كبش فداء لمقاتلات التحالف الاميركي، وحصل ما حصل من مجازر على الطريق السريع بين الكويت والبصرة، فجاء تمكنه من قمع الانتفاضة الشعبانية انقلاباً على أي محاولة انقلاب او خطر يهدد حياته؛ سواءً من المقربين منه او من الأبعدين، وهم الشيعة.

وما حصل في تركيا مساء يوم الجمعة الماضي يمثل نسخة مكررة لأي عقلية ديكتاتورية تخشى الموت من أي حدب وصوب، فالخوف من الخصوم السياسيين او المنافسين على السلطة، لا يمكن ان يكون مبرراً لسيناريو انقلاب عسكري، اذا احتكمنا الى منطق العقل، إنما نوايا الانقلاب العسكري التي كانت تغلي في نفوس كبار القادة العسكريين الاتراك، وتحسسها أردوغان جيداً، هي التي دفعته لتدبير هكذا سيناريو كخطوة استباقية، علماً أن هنالك أنباء تتحدث عن أيادي اسرائيلية في الساحة التركية هي التي سربت نبأ محاولة الانقلاب الحقيقي فتم إحباطه في لحظاته الاولى.

هنالك ثلاث معطيات على الارض تؤكد استشعار أردوغان بالخطر الماحق على حياته السياسية وحتى الشخصية في المرحلة الراهنة، وكان عليه مواجهة هذه المعطيات او الانقلابات القادمة:

الاول: انقلاب الموقف الدولي والاميركي عليه بسبب انغماسه في مستنقع الدم السوري وتورطه أمام العالم بدعم تنظيم داعش بالسلاح والافراد والمعدات وكافة المستلزمات.

وفي الساعات الاولى من وصول جون كيري الى موسكو يوم الخميس الماضي، أي قبل يوم واحد من الانقلاب العسكري، وربما قبل ان يلتقي نظيره الروسي، صرّح اردوغان بشكل مفاجئ بأن "لا فائدة من زوال داعش مع بقاء الأسد"، وهذا يمثل بالنسبة للوزيرين بمنزلة التطاول الفجّ على سلسلة طويلة ومضنية من التفاهمات بين الطرفين لانهاء الحرب في سوريا.

وعلى صعيد العلاقات الثنائية مع واشنطن، فان الانقلاب الاميركي بدت بوادره جلية بارتفاع شدة المخاوف الاردوغانية من قرب انتهاء صلاحية تركيا كحليف عسكري وسياسي اميركي في الشرق الاوسط، وما الاتهامات غير المسبوقة، وما سبقها من تشكيك اردوغان بثقة الاميركان بمساعدته على إسقاط الأسد والتخلي عن المعارضة السورية، وفي الآونة الاخيرة من خلال إثارة قضية وجود المعارض التركي في اميركا؛ فتح الله غولن، حتى تمادى بعيداً عن اللياقة الدبلوماسية باتهام غولن بالوقوف خلف عملية الانقلاب العسكري، ومطالبته واشنطن بأن تسلمه هذا المعارض، أو "تكون في عداد الأعداء"! فجاء الرد سريعاً من كيري مذكراً إياه بأن علاقة اميركا مع تركيا تنحصر حالياً بالعضوية في حلف الناتو، وهذا بحد ذاته يؤكد دلالات عدّة بتحول الموقف الاميركي إزاء تركيا، وأن العلاقات لن تكون كما كانت قبل هذا الانقلاب وقبل الاتفاق النهائي على إنهاء الحرب في سوريا.

الثاني: انقلاب الجنرالات، ففي الفترة الماضية تحول الجيش التركي الى وسيلة تنفيذ صفقة سياسية ومخابراتية، طرفها واشنطن وعواصم غربية معنية، مع السعودية لتغيير النظام السياسي في دمشق، من خلال دعم جماعات مسلحة وأخرى سياسية معارضة، فخرجت النتيجة على غير ما توقعه جنرالات الجيش التركي، حيث اصبحوا على وشك الانكشاف أمام العالم بأنهم اليد التي حملت السلاح والافراد والمعدات وكل المستلزمات، الى تنظيم ارهابي تحول الى وجه كريه ومنبوذ في جميع انحاء العالم، بمعنى أن المرتبط به يكون قريناً له في الاتهام واللعنة، وربما هذه المرة الاولى التي يجد فيها الجيش التركي نفسه اليوم متهماً وفي موقف خطير، يكاد يقترب نحو حافة "الفداء"! وهو الذي طالما انقلب بنجاح، وسيطر وتحكّم وأدار دفة الامور منذ الايام الاولى لتأسيس الدولة العلمانية.

الثالث: الانقلاب الداخلي المنطلق من اللوبيات الداعشية – إن صحّ التعبير- والمنتشرة في مؤسسات الدولة، ومنها المؤسسة العسكرية والامنية وحتى المؤسسة الاقتصادية، فقد ترسّخ في أذهان أهل الحل والعقد في تركيا، أن العلمانية لم تعد المطيّة السليمة والناجحة التي توصلهم الى أحلامهم التوسعية، إنما الشعارات الدينية هي التي تصلح – حسب رؤيتهم- أداة للمواجهة في ساحة التنافس الاقليمي والدولي على النفوذ، لذا فان أي جنوح لاردوغان نحو توافق دولي يتضمن تحويل داعش الى كبش فداء، ربما يكون بمنزلة انتحار سياسي له.

ويعتقد بعض المراقبين في تركيا، بأن الانقلاب العسكري سيكون باباً مفتوحاً لعناصر داعش في العراق وسوريا للتوجه الى تركيا والاندماج بهدوء في المجتمع التركي، و ربما تكون اليهم الحاجة في الوقت المناسب، كما حصل مع الجندي التركي الذي قتل نحراً وسط الشارع على يد افراد غير بعيدين عن تنظيم داعش.

ما كسبه أردوغان من سيناريو الانقلاب في مقابل التهديدات الثلاث؛ التأييد الجماهيري له كونه يمثل "رمزاً للديمقراطية"، بيد أنه بحاجة لأن يكون رجل المستقبل والمرحلة القادمة، وأن يتقن فنّ التكيّف مع المستجدات بإعادة العلاقات مع جميع الاطراف، ربما منها "سوريا الأسد"، ولكن؛ هذا لن يشفع له بمستقبل سياسي آمن بافتقاده لحلفاء واصدقاء حقيقيين، فتكون نهايته مسألة وقت ليس إلا، كما حصل لصدام حسين في العراق، عندما انقلب على الجميع، حتى انتهى الى ولديه الاثنين، فجاء جورج بوش وأمر صراحة بطردهم جميعاً من العراق!.

اضف تعليق