رسالة الإمام الصادق واضحة في تجنّب الناس أخطاء غير مقصودة الى جوار مرقد الامام الحسين، وايضاً في المساحة التي تنتمي اليه تحت اسم مدينة كربلاء، و أراها رسالة تستوجب الشكر من قبلنا على هذه الالتفاتة المعرفية والثقافية لاسيما وأنه، عليه السلام، ترك بصمات عميقة في ارض كربلاء...
"من أتى قبر الحُسين، عليه السلام، عارفاً بحقّه كان كَمَن حجّ مائة حجّةٍ مع رسول الله".
الامام الصادق، عليه السلام
من يأتي الى مدينة كربلاء، لابد أن التفت الى أحد معالمها، وهي؛ مقام الإمام جعفر بن محمد الصادق، عليهما السلام، على مسافة غير قليلة من مرقد الامام الحسين من الجهة الشمالية، و اتذكر جيداً أيام الطفولة، كانوا يصطحبوننا الى هذا المقام الجميل المحاط ببساتين النخيل، والمناطق الخضراء الرائعة، مما يوحي باختيار الإمام الصادق مكاناً للإقامة على مسافة بعيدة، ربما تصل الى حوالي ألف متر. لماذا لم يختر الامام لنفسه مكاناً بجوار المرقد الشريف لتكون زيارته أيسر، و يكون أقرب الى الزائرين، كما فكّر بهذا من جاء بعده؟
لماذا المقام بعيداً عن مرقد جدّه الحسين؟
قبل الدخول في الاجابة الافتراضية عن هذا السؤال الكبير، نسترعي الانتباه الى أننا نسجل هذه السطور لإحياء ذكرى استشهاد الامام الصادق، عليه السلام، على يد المنصور العباسي في مدينة جدّه المصطفى التي كانت مثواه الأخير، إنما نؤكد في الوقت نفسه أن الامام الحسين و واقعة عاشوراء، كانت من المحاور الاساسية في أعمال ومشاريع الإمام الصادق خلال فترة إمامته.
ثمة أسباب عديدة يمكن استنباطها من عمق اهتمام الامام الصادق بجدّه الحسين، عليه السلام، وقضيته المدوية، لعلّ ابرزها؛ حرصه، عليه السلام، لإعطاء أهمية خاصة لهذه الأرض التي تحولت فيما بعد الى مدينة اسمها كربلاء، فهو يقطع مسافة طويلة من محل اقامته لزيارة مرقد جدّه ثم يعود الى محل اقامته.
وإذا أقام الامام الصادق، عليه السلام، الى جوار المرقد الشريف، فان الناس سيحذون حذوه، حبّاً بالإمام الحسين، واقتداءً بفعل الامام الصادق، ثم إن الامام، عليه السلام، سيغادر المكان (كربلاء) يوماً ما كما حصل، ويبقى الناس، فاذا كان الإمام العارف حق المعرفة بمن يكون الامام الحسين، وهو الإمام المعصوم من الزلل والخطأ، فهل يكون سائر الناس مثله، رغم كونهم من المؤمنين والموالين والمحبين؟
رسالة الإمام الصادق واضحة في تجنّب الناس أخطاء غير مقصودة الى جوار مرقد الامام الحسين، وايضاً في المساحة التي تنتمي اليه تحت اسم مدينة كربلاء، و أراها رسالة تستوجب الشكر من قبلنا على هذه الالتفاتة المعرفية والثقافية، لاسيما وأنه، عليه السلام، ترك بصمات عميقة في ارض كربلاء تعلمنا وتعلم أهل العالم كيفية التعامل والتصرف على هذه الارض.
عطاءات الامام الصادق لكربلاء
ربما هي الحكمة الإلهية، او الظروف الاجتماعية والسياسية التي جعلت الامام الصادق، عليه السلام، يتحمّل مسؤولية إحياء ذكر وتراث جدّه الامام الحسين على أرض كربلاء، والى اليوم نحن ننعم ببصمات الامام الصادق وأفضاله في تكريس الهوية الثقافية والحضارية لهذه المدينة المقدسة.
نشير الى أبرز ما خلفه لنا، عليه السلام:
1- الزيارة
نقلت لنا كتب الحديث الموثوقة روايات عدّة عن الامام الصادق في فضل زيارة الامام الحسين، ودعائه للزائرين، والأهم من كل هذا؛ تدوينه للزيارات التي نقرأها أمام ضريح الامام الحسين، وأخيه أبي الفضل العباس، عليهما السلام، ومنها؛ الزيارة السابعة المعروفة بزيارة وارث.
ويحثّ الامام شيعته على زيارة الامام الحسين، مؤكداً على الآثار التكوينية والآثار الأخروية على الزائرين، وقال متسائلاً: "ما لكم لا تأتونه –يعني قبر الحسين، عليه السلام- فإن أربعة آلاف ملك يبكونه عند قبره الى يوم القيامة"، يكفي أن نتصور أننا في مكان تحفّه الملائكة بهذا العدد الهائل، وهم يبكون لنعرف قيمة هذا المكان وصاحبه.
وفي احاديث اخرى يؤكد على الزيارة بما يقربها الى الوجوب من الناحية الإيمانية، فقد روي عن إحدى المؤمنات و اسمها؛ أم سعيد الأحمسية: قال لي الإمام الصادق: يا أم سعيد، تزورين قبر الحسين؟ قلت: نعم. فقال، عليه السلام: زوريه، فان زيارة قبر الحسين واجبة على الرجال والنساء.
وفي رواية أخرى قال، عليه السلام: "لو أن أحدكم حجّ دهره ثم لم يزر الحسين بن علي، عليهما السلام، لكان تاركاً حقاً من حقوق رسول الله، صلى الله عليه وآله، لأن حق الحسين فريضة من الله –تعالى- واجبة على كل مسلم".
وللإمام الصادق دعاء طويل تلاه في سجوده لمن يزور قبر الامام الحسين، عليه السلام، منه قوله: "اللهم اغفر لي ولإخواني و زوار قبر أبي عبد الله الحسين، عليه السلام، الذين انفقوا اموالهم، واشخصوا ابدانهم رغبة في برّنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك".
ولابد من الاشارة الى مسألة المعرفة في زيارة الامام الحسين، وأن يكون الزائر عارفاً بحق الإمام ومنزلته عند الله –تعالى- كما جاء عن الامام الصادق في روايات عدّة.
وهذه المعرفة بدورها تترك أثرها المباشر على السلوك والتصرفات الفردية والجماعية بما يحول دون ارتكاب الأخطاء الفاحشة التي تتعارض مع قدسية هذه الأرض، وتقاطع مع مبادئ النهضة الحسينية برمتها، أو لنقل؛ تقلل من هذه الأخطاء حدّ الإمكان.
2- الماء
"اشرب الماء والعن يزيد".
هذه العبارة التي نتداولها فيما بيننا، وقد أخذناها من الآباء والأجداد، في مدينة كربلاء، ثم انتقلت الى مختلف بقاع العالم، وتحولت الى علامة ثقافية فارقة تكشف عن قضية انسانية كبرى تضرب في عمق المشاعر والوجدان الانساني، وهي قضية الموت عطشاً، واستذكار مصاب الإمام الحسين، عليه السلام، وأهل بيته في ظهيرة يوم عاشوراء.
وهذا لم يكن إلا بدعوة من الامام الصادق الى أحد المقربين، وهو داود البرقي الذي رأى الامام يشرب الماء ثم يستعبر، واغرورقت عيناه بالدموع، فقال له: "يا داود، لعن الله قاتل الحسين، عليه السلام، فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين، عليه السلام، ولعن قاتليه إلا كتب الله له مائة ألف حسنة، وحطّ عنه مائة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنه اعتق مائة الف نسمة، وحشره الله يوم القيامة ثلج الفؤاد".
ولا أجدني أجانب الحقيقة إن قلت إن ثقافة السبيل في مدينة كربلاء المقدسة يعود الفضل في نشرها الى الامام الصادق، عليه السلام
3- الشعر
كان الإمام الصادق يشجّع الشعراء كثيراً لرثاء الامام الحسين، عليه السلام، ومن ذلك قوله، عليه السلام: "من قال فينا بيت شعر، بنى الله له بيتاً في الجنة". (ذلكم الإمام الصادق- آية الله السيد هادي المدرسي).
و روي عن زيد الشحام انه قال: كنّا عند أبي عبد الله (الصادق)، عليه السلام، ونحن جماعة من الكوفيين، فدخل جعفر بن عفان على أبي عبد الله، فقربه وأدناه، ثم قال، عليه السلام: يا جعفر، قال لبيك جعلني الله فداك. قال: بلغني أنك تقول الشعر في الحسين، عليه السلام، وتجيد، فقال له: نعم جعلني الله فداك. فقال: قُل. فأنشده ومن حوله حتى سالت دموعه على وجهه ولحيته، ثم قال، عليه السلام: يا جعفر، والله لقد شهدك ملائكة الله المقربين ها هنا يسمعون قولك في الحسين، ولقد بكوا كما بكينا أو أكثر، ولقد أوجب الله –تعالى- لك يا جعفر في ساعته الجنة بأسرها وغفر لك".
ثم قال، عليه السلام: يا جعفر ألا أزيدك؟ قال نعم ياسيدي. فقال، عليه السلام: ما من أحد قال في الحسين، عليه السلام، شعراً فبكى وأبكى به إلا أوجب الله له الجنة وغفر له".
وثمة روايات كثيرة عنه، عليه السلام، في الحثّ والتشجيع على الشعر والخطابة وإقامة المجالس لإحياء مصاب الإمام الحسين، عليه السلام.
إن العناية بالإدب والخطابة وكلما يلامس شغاف القلب ويأسر النفوس من قبل الإمام الصادق، يثمر عن استدرار الدموع والعيش في اللحظة العاشورائية المؤلمة، ثم التمثّل بمشهد الواقعة الفاصلة بين الحق والباطل، وبين كل قيم الفضيلة والانسانية، ومفردات الرذيلة والظلم والضلال، بما يخلق لنا منظومة ثقافية متكاملة نجد تموجاتها تنطلق من هذه المدينة المقدسة منذ عهد الامام الصادق، ومروراً بعهود وفترات زمنية عديدة حتى يومنا هذا، لتكون كربلاء مقدسة في ثقافتها ورسالتها الحسينية، تدعو دائماً الى الإصلاح والتغيير ومحاربة كل اشكال الفساد والانحراف، وفي الوقت نفسه تهب الحياة والحرية والكرامة ليس فقط للمحبين والموالين، بل ولأهل العالم جميعاً.
اضف تعليق