q

على الرغم من الدروس والعبَر المهمة التي يقدمها التاريخ السياسي العراقي للعاملين في حقل السياسة، إلا أنهم حتى هذه اللحظة لم يأخذوا من هذا التاريخ ما يفيدهم ويدعم أفكارهم السياسية وسلوكهم، فهؤلاء الساسة أثبتوا أن مصالحهم المادية (الزائلة) تتفوق على الأهداف الأخرى كافة، فلا شعب يحتل جانبا من اهتمامهم، ولا حاضر أو مستقبل وطن يشغلهم، بقدر انشغالهم بحصد الفرص والفوائد المادية التي تضاعف من ثرواتهم وتعزز سلطتهم!.

إن خبراء السياسة يتفقون على أن قواعد اللعبة تنبني وتتحرك وتعطي نتائجها على الارض، وفقا لحركة السياسيين، وطبيعة خطواتهم العملية المستمدة من درجة ذكائهم أو غبائهم، وقد ظهر في عموم دول العالم سياسيون متميزون يتمتعون بملكة الذكاء السياسي الاستراتيجي، وقد نجحوا في نقل أممهم وشعوبهم الى مصاف الأمم والشعوب الراقية، والأمثلة لدينا كثيرة، يمكن تشخيصها من خلال ما قدمه ساسة عالميون لشعوبهم التي ارتقت من خلالهم، فصارت من الشعوب والأمم المتقدمة.

وعلى العكس من هؤلاء الساسة المتميزون، يوجد في الطبقة السياسية الحاكمة من هم قصار النظر، ولا يتمتعون بخصال ومواصفات القادة، بل هم لا يصلحون للعمل في السياسة، بسبب أنانيتهم، وافتقادهم لموهبة عمق التفكير، لذلك هؤلاء يمكن وصفهم بأنهم ساسة أنانيون أغبياء، لا يتمتعون ببعد النظر ولا بنسبة بسيطة من التفكير الاستراتيجي، إذ أنهم لا ينظرون أبعد من مصالحهم الفردية والعائلية الضيقة والتي غالبا ما تكون ذات طابع مادي.

ونلاحظ أنهم في الغالب لا يفكرون إلا في مجال حماية امتيازاتهم وفي فوائد المقربين منهم، وهم بسبب غبائهم لا يعرفون أن أفكارهم وطباعهم وسلوكهم المنقاد الى غرائزهم، هو الذي سوف يسرّع بسقوطهم وطردهم نحو مزبلة الاهمال والنسيان، فضلا عن الذمّ والكره الذي يلاحقهم وذويهم، كلما ورد ذكرهم في هذا المحفل او في تلك المناسبة، ولنا في سجلات التاريخ شخصيات معروفة في هذا المجال يصلح عليهم هذا المثال.

ولذلك يمكننا أن نلاحظ فوارق كبيرة بين سياسي لا يحمل رؤية ولا فكر ولا سمات قيادية، وبين آخر يكون على النقيض من ذلك، فالأول لديه مشروع كبير ينطلق من خلاله لبناء الدولة المدنية وتغيير المجتمع نحو الافضل، وفق آليات فكرية عملية، يشرف على تنفيذها هو شخصيا، ويساعده مقربون أمناء، في التخطيط والتنفيذ.

فيجعل من مصالحه الفردية والعائلية والشللية في آخر الاهتمامات، بل ربما يلغيها تماما أو يخضعها لضوابط تنطبق على عموم الشعب، بمعنى يجعل من نفسه والمنضوين تحته عائليا او وظيفيا، أناسا لا يختلفون عن غيرهم في الحقوق والواجبات، يتحقق هذا ليس في الادّعاء والقول وحده، بل يتجسد من خلال العمل المرئي والملموس، فالشعب عندما يلمس عملا يتجسد في الواقع سوف يؤمن بالسياسي ويحترمه.

ساسة لا يفقهون شيئا من السياسة

من الملاحظ على الساحة السياسة في العراق، أنها جمعت خليطا غير متجانس من الأشخاص الذين لم يجربوا العمل السياسي، ولم يدرسوه أكاديميا، ولم يثقفوا أنفسهم بصورة جيدة، لذلك نجد كثيرا منهم لا يتحلى بصفات القائد المحنك، أو الخبير، او المقتدر من حيث الادارة والرؤية البعيدة، لذت نلاحظ أن السياسي الغبي لا مشروع له على الاطلاق، سوى انهماكه بجباية الفوائد وتشريع الامتيازات له وذويه وحاشيته، وهو أمر معيب في جميع الأحوال.

كذلك لا يعي السياسيون الذين يفتقرون للخبرة أخطائهم، وحتى لو عرفوها أو بعضها فإنهم لا يتعلمون منها، ولا يبادرون لتصحيحها، لذلك فإن حال هؤلاء كمن يحفر لنفسه بنفسه حفرة تحت قدميه وهو لا يعرف بذلك، أي أنه سوف يسقط حتما، في حفرة الطمع والشراهة والفساد، وحتما هو يجهل أن أساليب المراوغة والخداع التي ينتهجها كطرائق عمل في حياته السياسية، ومنصبه وصلاحيته أيا كان نوعها، هي الداء الذي سينقضّ عليه ويطيح بمستقبله ورأسه، وحتى لو عرف أن هذه الأخطاء ستقوده الى السقوط وخسارة تأييد الناس، فإنه غير مستعد للتنازل عن امتيازاته، لذلك سوف يخسر كل شيء دفعة واحدة.

ولا نغالي عندما نقول أن مثل هذه النماذج العاملة في السياسة موجودة في الساحة العراقية، وموجودة في دول اخرى من المنطقة والعالم، لكننا هنا بصدد الكلام عن الساسة العراقيين، وعدم شروعهم بتصحيح الأخطاء التي وقعوا فيها سابقا، بل نلاحظ اصرارهم على افكارهم وسلوكهم الذي يسيء للشعب ولهم في الوقت نفسه، الأمر الذي جعل منهم عرضة للزوال من المشهد السياسي بسبب احتراق أوراقهم.

ولا ننكر أن الساسة الفاشلين لا يقتصرون على العراق، فهناك ساسة يتحركون على مستوى العالم، وربما لديهم مشاركة في صنع مصير العالم، لكنهم أغبياء أيضا، ولا يسعون الى الاستفادة من أخطائهم أو أخطاء غيرهم، بكلمة أوضح، هناك قادة سياسيون لهم الآن تأثيرهم على صنع القرار العالمي، ولكن الأغبياء وقصار النظر منهم تحديدا، يدفعون العالم أجمع صوب هوّة الخراب، يساعدهم في ذلك ساسة تابعين صغار، يتمتعون بقصر النظر السياسي المطلق لافتقارهم للمشاريع التي ترتفع بشعوبهم على الرغم من ان متطلبات الرقي متوافرة لديهم، ولعل الوقائع التي يمر بها العراق والمنطقة الاقليمية، تؤكد مثل هذه الآراء وتدعم صحة وجودها.

فقدان المشروع الواضح

إن الأمم التي قفزت للصدارة من حيث الاستقرار والتقدم، ما كان لها أن تصل الى المستوى الذي بلغته، لو لا وجود عقول قيادية خبروية متميزة، لا يتعلق الأمر بسياسة الدولة عموما، بل هناك شخصيات مؤثرة يمكنها أن تغير مسار شعب أو أمة برمتها، لذلك نقول، إننا في العراق نفتقر للسياسي صاحب المشروع الواضح، الذي يرقى الى الساسة الدعاة الكبار، الوطنيين العظماء، الذين ارتقوا ببلدانهم وشعوبهم وأوطانهم الى أعلى المستويات، والأمثلة على ذلك كثيرة حاضرا وفي الماضي ايضا.

لذلك لا نخطئ اذا قلنا أن معظم الأدلة الموجودة لدينا، تشير الى غياب السياسي العراقي الذي يسعى للتخطيط بعقلية سياسة لمشروع متفرد، ولا نغبن احدا حين نقول أن ساحتنا السياسية تتوافر على نماذج كثيرة للسياسي الفاشل، الذي لا يرى من الامور إلا ما يقع في حدود مصالحه الآنية، خاسرا بذلك حاضرا ومستقبلا سياسيا يمكن أن يكون متميزا وناجحا فيما لو قدّم السياسي مصلحة الأمة على مصالحه وتعلم من أخطائه.

لذلك على الواعين من الشعب العراقي والمشتغلين بالسياسة، أن يعملوا بجدية وعلمية على متابعة الساسة الأنانيين، وإصلاحهم او إبعادهم عن هذه المهنة التي تبني البلاد وتنصف الشعب، خاصة أننا نتجاوز مرحلة تأسيسية حاسمة في تأريخنا، ولا يصح أن نترك المجال مفتوحا للسياسي المخطئ بإكمال دوره ذي الطابع التخريبي، لأننا نؤسس لبناء دولة، ترقى بالشعب وتبني المؤسسات الدستورية، وتواكب ما يتحقق في العالم في مجمل الأمور.

والسؤال الذي يأتي في خلاصة هذه الآراء، من الذي يكون بمقدوره، معالجة العيوب والأخطاء التي سقط فيها العاملون في الساحة السياسية في العراق، الجواب هناك طريقان للحل، الأول يتعلق بالساسة المخطئين أنفسهم، فهؤلاء عليهم الشروع الفوري بتصحيح أخطائهم، وأي تباطؤ في ذلك سوف يؤذيهم سياسيا ويلقي بهم خارج الساحة، أما الطريق الثاني فهو من مسؤولية العاملين في السياسة ممن لهم الكفاءة والقدرة وهؤلاء مطالبون بتصحيح أخطاء اقرانهم لصالح الشعب والدولة.

اضف تعليق