كان له دلالة كبيرة وعميقة، تساؤل أحد الاخوة في حديث جانبي عن سبب وجود بعض المتطوعين من الحشد الشعبي في المناطق ذات الاغلبية السنّية تحت شعار "الحرب ضد داعش"، إنما الافضل التواجد في المناطق القريبة من قضاء بلد وسامراء وتلعفر وآمرلي والقضية والمناطق المهددة بالإبادة العرقية والطائفية في محافظات الموصل وصلاح الدين وضمن مناطق الأقليم الكردي ايضا. بمعنى أن الشهيد الذي ترفعه الأكف، سترفعه قبل ذلك، القلوب والنفوس وهي مطمئنة من وجود التحصينات والدفاعات أمام الجماعات التكفيرية بما يصدّها عن إلحاق الأذى بالسكان الشيعة في المناطق الساخنة.
إنه شعور عفوي يعبر عن رأي عام صنعته التجاذبات السياسية بلغة طائفية، وربما يكون تعبيراً عن وعي المرحلة القادمة، حيث إن المعطيات في الميدان، تؤشر بانتهاء حالة الخطر الداهم الذي استدعى التحشيد والتعبئة العامة في ضوء فتوى "الجهاد الكفائي"، ودخولنا مرحلة الهجوم للقضاء على فلول الارهاب وحرمانهم من المناطق الاستراتيجية، مثل قضاء بيجي ومصفاتها الضخمة، او ناحية الضلوعية جنوب سامراء، والتي يفصلها عن قضاء بلد، نهر دجلة فقط. وايضاً ما يجري الحديث عنه حالياً من استعدادات لتطهير مناطق شمال المقدادية من فلول داعش، ضمن الخطة الكاملة لتحرير محافظة ديالى بالكامل، كما يمكن الاشارة الى تحرير ناحية جرف الصخر الواقعة بين محافظتي كربلاء وبابل.
بيد أن القضية لا تنتهي في تأمين هذه المدينة أو تلك، بقدر ما تشمل الاراضي العراقية برمتها والتي تتشابك فيها مصالح طائفية مع أجندات اقليمية ودولية. فوجود آخر عنصر من "داعش" في الاراضي العراقية، يعني استمرار القتال والحرب الطائفية بتمويل ودعم من اقليمي ودولي لا ينقطع. وحسب القاعدة العسكرية المعروفة؛ أن أفضل الطرق لتحقيق النصر على العدو، إشغاله بأكثر من جبهة وتشتيت قواه وقدراته. وهذا ما لا نجده في القتال مع "داعش"، مع المفارقة المحيّرة، أن الساحة يقف في طرفها جماعة ارهابية واحدة ومحددة باسم و راية، فيما الجهة المقابلة هنالك دول جاءت بأسلحتها وخبراتها وتجاربها وحتى بمستشاريها، تحت راية "التحالف الدولي" الى جانب شعب معبّأ ومؤمن بأحقية القتال ضد هذه الجماعة الارهابية. بيد أن المحصلة على الارض، أن مقاتلات التحالف؛ الامريكية او البريطانية او غيرها، تقصف وتضرب ومعارك ضارية تجري على الارض. بينما مدن الموصل والفلوجة وتكريت تُدار من قبل "داعش" في أجواء طبيعية حيث الحياة هناك عادية كما في مناطق اخرى من العراق، لا تشهد اضطراباً أمنياً او انعكاساً لتلك العمليات العسكرية عليها.
وقد لاحظ مراقبون في الساحة، أن الضربات الجوية التي من المفترض ان تكون سنداً للتحرك البري ضد "داعش" يسفر عن تمحور قوات وامكانات هذه الجماعة في المناطق ذات الاغلبية الشيعية في ديالى وصلاح الدين، فالقصف الجوي استهدف خلال الايام الماضية تجمعات وثكنات وقواعد للتنظيم في مناطق النفوذ الكردي شمال العراق، بعث رسالة واضحة الى وجود الخط الاحمر في هذه المناطق، و ضرورة التخلّي عنها بعد احداث الموصل في شهر حزيران الماضي، مثل قضاء سنجار الذي يتباهى الاكراد بدورهم في تحريره بعد غياب كامل للجيش العراقي هناك، كما يقرأ المراقبون تناغم واضح بين تحركات "داعش" والضربات الجوية وعموم التحركات العسكرية الاميركية، فهي تنقل ثقلها الى محافظتي الانبار وصلاح الدين تحديداً نظراً لوجود الحواضن العديدة متمثلة بالعشائر.
من هنا يتبلور الموقف الاميركي في عدم التفكير بإبادة "داعش" عسكرياً، وهو ما لا يصعب عليها قطعاً. إنما الإبقاء على وجودها في الساحة لتكون العدو الداهم لفترة أطول للغالبية من الشعب العراقي وتحديداً للحشد الشعبي المكوّن من المتطوعين من مناطق وسط وجنوب العراق. وما يعزز هذا الاعتقاد؛ الانباء الوارد من بلد بهبوط شحنات اسلحة وذخائر ومعدات عسكرية من الطائرات، في مناطق "داعش" التي يحاصرها الحشد الشعبي وعلى وشك الاستسلام والهزيمة.
وبالمحصلة؛ استمرار القتال بين هذه الجماعة الارهابية، وبين المقاتلين الشيعة في مناطق محددة، وعندما ترفع المناطق ذات الاغلبية السنّية شعار "محاربة الارهاب" ومطالبتها بالتسليح والامكانات المادية الوفيرة من الحكومة، فمعنى هذا، ان وجود "داعش" في العراق سيكون في ذمة العشائر في محافظات الانبار وصلاح الدين، ويكون الأمر مرهوناً بالوقت وربما بالمجهول من قادم الأيام، لأن هذه العشائر التي فتحت قنوات الاتصال المباشر مع واشنطن، بعد تحالفها المعلن مع السعودية وتركيا والاردن، تحاول خلق فرصة تاريخية لكسب المزيد من الصلاحيات والامتيازات من بغداد، أسوة بالاكراد، وهذا ما يؤدي الى مزيد من إضعاف الحكومة المركزية واستنزاف القدرات المالية للعراق، بل وإفقاره بالكامل. وهذا يعني انتصاراً للأطراف الاقليمية آنفة الذكر على حساب الطرف الأقليمي الفاعل والكبير في الساحة، ألا وهو، ايران... التي تريد دائماً أن يكون العراق، بلداً قوياً وموحداً وصديقاً لايران في آن واحد.
هذا التقاطع من شأنه ان يوفر المزيد من الوقت لـ "داعش" لأن تتحرك بمرونة وتخطط لعملياتها في هذه المنقطة او تلك. وهذا بحد ذاته يجعل الطرف المقابل، وهو الغالبية من الشعب العراقي في حالة حرب دائمة، لاسيما وأننا نلاحظ أجواء الحرب تتوغل في معظم الحياة العامة وتفرض حالة من "العسكرتارية" – أن صح التعبير- كما حصل في بلاد عديدة خلال القرن الماضي، ابتليت بحروب ثم طويت صفحتها دون أن تكسب شيئاً يفيدها للتقدم والتطور على صعيد المستقبل.
ولا يغفل اصحاب القرار في بغداد، أن هذه الحرب – في كل الاحوال- ليست الحرب التي يريدها الشعب العراقي، بقدر ما فرضت عليه، لذا فان قتال "داعش" خطوة أولى تتبعها خطوات على المدى البعيد. فاذا كان هنالك تفكير في البناء والاعمار وفرص التقدم، لابد أن تكون المرحلة الراهنة محطة عابرة لمحطات أخر، لا أن تكون مستنقع الدم الذي يخوضه ابناء العراق الى أمد غير معلوم.
اضف تعليق