عليك أن تفهم هذه الرسالة بذكاء الإنسان الذي يسعى أن يكون ناجحا في كل شيء، نعم أنت نجحت في حياتك، جمعت الأموال، والعمارات، والبيوت، والقصور والسيارات، ولكن عليك أن تحقق نجاحا أفضل وأكثر ديمومة، إنه (النجاح في يوم الحساب القادم لا محالة)، هذه هي رسالة...
في طفولتنا لم نكن نعرف ما معنى الموت، ومع تقدم العمر بنا بدأنا نفهم الإشارات والمعاني التي يقدمها الموت للناس، أول مرة فهمت الموت عندما كنت في السابعة من عمري، كنّا نسكن في حي الإسكان، في زقاق يضم دور صغيرة تتقابل وتتجاور مع بعضها، كنا في الزقاق عشرين بيتا، عشرين عائلة، لكن في التصرفات والسلوكيات والتعاون وعلاقات الجيرة، كنّا نبدو عائلة واحدة كبيرة، بحيث جميع العوائل تعرف بعضها، والجميع مسموح له دخول البيوت الأخرى، وتناول الطعام فيها، كنّا عائلة كبيرة فعلا.
في ذلك الوقت كانت هناك طفلة بعمري وأخوها يكبرها بسنة وطفل رابع اسمه جمال، كنّا نلعب معا، نلهو معا، تأخذنا أحلام الطفولة في ربوعها، كانت الأيام تمر كأننا في جنة، وفي لحظة صادمة غابت الطفلة فجأة، ماتت بالمرض الخبيث، وسمعنا البكاء والنحيب، ورافقنا الآباء إلى مقبرة وادي السلام وهم يحملون تابوت الموت الذي سرق منّا طفلة في ربيع العمر.
فجأة صحونا على فقدان الطفلة التي كانت تشاركنا اللعب واللهو والأحلام، وعندما حفروا قبرها، كنتُ أنظر في أعماقه وأشعر بالخوف، كان الجميع في حالة حزن وخوف وسكون، سألت أبي ماذا يفعلون بهذه الحفرة فقال هذا قبر الطفلة، هذا بيتها الجديد، سوف تكون مع ملائكة الله، حملوا الطفلة من التابوت، وتلقفت أيدي الدفان جسدها الصغير، كنت أنظر لما يجري بدقة وأسف وخوف، غاب جسد الطفلة في الحفرة، وسرعان ما بدأ الرمل يتدفق نحو الحفرة، فغابت الطفلة التي كانت تلعب معنا في القبر إلى الأبد.
المكان الأصعب هو القبر
إذًا هذا هو الموت الذي عرفته مبكرا، وصُدِمتُ به منذ سنوات الوعي المبكرة، أتذكر أننا لم نعد نلتقي لنلعب كما كنا نفعل سابقا، مرة أو اثنتين التقينا ثلاثة أطفال غابت عنهم طفلة رابعة، كنا صامتين، لا نستطيع أن نلهو، ولا أن نلعب، ولا حتى أن نحلم، ثم تهدّمت ( لمّتنا ) ولم نعد نلتقي، الموت فرّقنا وأصبحنا كل طفل في مكان، لكن المكان الأصعب كان القبر الذي حُشِرتْ فيه الطفلة التي سرقها الموت.
منذ ذلك الوقت المبكر، ترك الموتُ لي رسالة، تقول لي دائما بأننا راحلون، وفي هذه الرسالة نصيحة واضحة تقول لي، أنت راحل وعليك أن لا تخطئ بحق الآخرين ولا حتى بحق نفسك، فأنت لا تعمّر في هذه الأرض، طفلتكم الرابعة سبقتكم إلى الموت، بعد أن سرقها المرض الخبيث، ودفع جسدها في القبر وغابت عنكم إلى الأبد.
الموت رسالة لنا جميعا، ولكن المشكلة أن التعامل مع هذه الرسالة مختلف من شخص إلى آخر، بعضنا يتأثر ويحزن ويصحوا على نفسه وأعماله لحين، لكنه سرعان ما ينسى رسالة الموت، فتأخذه الدنيا بين أحضانها، ويغيب في مشاغلها وصراعاتها، ويغطس في وحل المنافع، والملذات والمكاسب، وهناك بشر لا يفكر مطلقا بالحلال والحرام، ولا يعنيه شيئا في هذه الدنيا غير المكاسب والمصالح والأموال، وليس لديه أية مشكلة في الكيفية التي تأتي بها هذه الأموال والمكاسب، المهم عنده أن يحصل عليها.
تتحول هذه الأموال خصوصا إذا كان فيها تجاوزا على حقوق الآخرين، تتحول إلى طعام يدخل بطون أولادنا، وملابس تكسو أجسادهم، وبيوت يسكنون فيها، ومدارس ينهلون منها العلم، يكبر الأولاد من فلوس الحرام، وتتضاعف الثروات، في المقابل يزداد الناس الذين تمّ التجاوز على حقوقهم، ويزداد الفقر.
خلود الأعمال والأثر
ويتم نسيان الأيتام، ولا أحد يرعى حقوقهم، ويتم هدر الثروات، ويرفع الفقراء أكفّهم نحو السماء متضرعين إلى الله أن يأخذ بحقهم ممن ظلمهم، وسرق حقوقهم، وحوّل أموالهم إلى جيبه وبطون أطفاله.
ولكن يوم بعد آخر تقترب حفرة القبر من الجميع، لا أحد مستثنى من هذا المصير الذي حدده الله تعالى لكل إنسان، لا يوجد في هذه الدنيا خلود للجسد، بل هناك خلود للأثر والاسم والأعمال التي يتركها الناس وراءهم، أما أن يذكرهم الآخرون بخير ويترحموا على أرواحهم بسبب أعمالهم الطيبة، أو يتذكروهم بطريقة أخرى تقرّبهم إلى جهنم أكثر فأكثر.
هنا لابد لكل إنسان، أن يفهم الموت كرسالة، وأن لا يغمض عنها بصره وبصيرته، ولا يغلق أبواب قلبه، عن فهم إشارات وعلامات رسالة الموت، لذا عليك أن تصحح كلّ شيء فورا إذا كنت من المخطئين، هنا في هذه الحياة يمكنك التصحيح قبل الموت، هذا ما تدعوك إليه رسالة الموت، يمكنك أن تصحح أخطاءك كلها، أو تقلل منها قبل موتك الذي يتربّص بك.
عليك أن تفهم هذه الرسالة بذكاء الإنسان الذي يسعى أن يكون ناجحا في كل شيء، نعم أنت نجحت في حياتك، جمعت الأموال، والعمارات، والبيوت، والقصور والسيارات، ولكن عليك أن تحقق نجاحا أفضل وأكثر ديمومة، إنه (النجاح في يوم الحساب القادم لا محالة)، هذه هي رسالة الموت التي عليك أن تفهمها وتستفيد منها بأسرع وقت، قبل أن تخطفك يد المنون في اللحظة الموعودة.
اضف تعليق