الفقد في الرواية يتجاوز فكرة فقدان الإنسان لآخر، ليصل إلى فقدانه الثقة بالعالم من حوله، بل وبالحياة ذاتها. إنها رواية عن الإنسان حين يُخذل مرارًا، فيغدو عاجزًا عن الإيمان بوجهٍ صادق أو وعدٍ صادق، فتشظى داخله الصورة الآمنة للعالم، ويعيش في شكٍ دائمٍ بالآخرين وبنواياهم...
السادة القراء الكرام، نرحب بكم في هذا اللقاء الحواري المميز مع الكاتبة المبدعة ناهدة الجياشي، لمناقشة روايتها المؤثرة "ابك بصمت"، التي أثارت العديد من الأسئلة الجريئة حول الموت، والعدالة، والعلاقات الإنسانية الهشة.
في هذه الرواية، تطرح الكاتبة فكرةً غير تقليدية: "هل يمكن أن يكون الموت خطيئةً في ظروف معينة؟"، متحدّيةً بذلك المفاهيم المجتمعية الراسخة حول القَدَر والمصير. كما تتناول الرواية ثيمةً عميقةً أخرى، وهي تحويل الألم إلى قوة، من خلال شخصية "سماح"، الأم المكلومة التي ترفض الاستسلام.
اليوم، سنحاول مع الكاتبة الغوص في أعماق هذه الأفكار، ونتساءل: كيف يمكن للقارئ أن يفهم هذه المفاهيم في سياق مجتمعاتنا؟ وما الرسائل التي أرادت الكاتبة إيصالها من خلال هذا العمل الأدري المليء بالرمزية والواقعية؟
الرواية تطرح فكرة أن الموت قد يكون 'خطيئة' في ظروف معينة. كيف يمكن للقارئ أن يفهم هذه الفكرة في سياق مجتمعاتنا التي تتعامل مع الموت كقدر محتوم؟ وهل يمكن أن نرى في حياتنا اليومية مواقف تُجسّد هذا التناقض بين 'القصديّة' و'الصدفة' كما في جريمة ابنت سماح؟
لا شك الموت قدر محتوم في جميع المجتمعات، فكل ابن أنثى وإن طالت سلامتهُ، يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ، إنما نعته بالخطيئة لأنه اقترن بالانتحار فكان انتحاراً وليس قدراً، أنا أؤمن أن الحياة أوسع من أن تقتصر على أمور محددة لذلك وبالنسبة لي يمكن جدا أن نرى هذا التناقض يتجسد أمامنا بين القصدية والصدفة خاصة إن كانت صدفة مفتعلة كما حصل مع نبأ.
شخصية 'سماح' تجسّد قوة الأمّ المكلومة التي ترفض الاستسلام. كيف يمكن لهذه القوة أن تكون مصدر إلهام للقارئات/القُرّاء في مواجهة صدماتهم الخاصة؟ وما الرسالة التي أردتِ توصيلها عن تحويل الألم إلى وقود للمواجهة بدل الاكتئاب؟
سماح هي بطلة الرواية سلمتها دور البطولة وانا على ثقة تامة أنها لن تخذلني أبداً فشخصيتها الشامخة خير مثال على أن الإرادة والثقة بالله عز وجل وبالذات بعد الله سبحانه وتعالى هي التي تحول اي الم إلى طاقة تمكنه من مواجهة أشد أزمات حياته والتغلب عليها.
الخزان على سطح المنزل كرمز للغموض والاختناق يحوّل المكان الآمن إلى فضاء للرعب. كيف تتعامل الرواية مع فكرة 'الخيانة المكانية'، وهل يمكن أن نربط هذا بمفاهيم مثل انهيار الأمان الداخلي في بيوتنا أو مجتمعاتنا؟
بالحديث عن الخزان كما تم وصفه (رمزاً للغموض والاختناق) الرواية تتعامل مع عنصر الخيانة المكانية على أنه الشاهد الوحيد بعد كاميرا المراقبة ليصبح سطح المنزل بعد ذلك الفجر المشؤوم تذكار للواقع المرير الذي عاشته العائلة وتعقيباً على مفهوم انهيار الأمان الداخلي في البيت أو في المجتمع فهدف الرواية هو التوعية فقط وأسأل الله تعالى أن يمن علينا جميعا بالاستقرار وأن يبعدنا عن أي انهيارات.
العلاقات الاجتماعية في الرواية تبدو هشّة ومليئة بالأقنعة. هل تعتقدين أن التكنولوجيا والعولمة زادت من هذه الهشاشة في واقعنا، أم أن المشكلة أعمق وتكمن في طبيعة الإنسان ذاتها؟
احييك على مثل هكذا السؤال بالفعل أبرز ما تناولته الرواية هو هشاشة العلاقات الاجتماعية مع الأسف ومن المؤكد أن التكنولوجيا قد ساهمت في ذلك فهي قد فتحت الباب على مصراعيها وجعلت كل شيء ممكناً لكن بالنسبة لي لا ألقي اللوم على التكنولوجيا بل على الأشخاص الذين يستخدمونها بشكل خاطئ ولأهداف خبيثة فالتكنولوجيا بحد ذاتها لا تخلو من الفائدة ويبقى حسب استخدام كل شخص لها وفي الوقت ذاته يبقى جزء من المشكلة يقع على عاتق طبيعة الإنسان أيضاً فالأنانية سائدة والمصالح هي التي تبعد او تقرب الأشخاص من بعضهم.
الحب يُصوَّر في الرواية كـ'وهم' يتبدد مع الأزمات. هل هذا انعكاس لرؤيتك لطبيعة الحب في عصرنا، أم أنه مجرد حالة خاصة لشخصيات الرواية؟ وكيف يمكن للقارئ أن يوازن بين التشاؤم والأمل في علاقاته الخاصة؟
في واقع الأمر وبقناعة تامة أقولها أن الحب أكثر سمواً وقدسية من أن يكون وهماً لكن عندما ينطبق بشروطه التامة و جيء بمفردة وهم في الرواية لأن أي حب من طرف واحد هو وهم خبيث يحبس صاحبه داخل مخيلته الخصبة ليصيبه بالخذلان وقتما استطاع ذلك فهو يقتات على خياله ليبني نفسه على حساب سعادته فيوهبه التعاسة والألم وهو بالتأكيد حالة خاصة لكل من يعيش ظروف مشابهة يستطيع القارئ أن يوازن بين التشاؤم والأمل في علاقاته من خلال كونه عقلاني في التعامل مع مشاعره والتصرف معها.
الرواية تكشف أن الجريمة نتاج صراعات خفيّة (غيرة، كراهية، إلخ). كيف يمكن للقارئ أن يربط هذا بجرائم العنف المنتشرة اليوم، والتي غالبًا ما تُختزل في أسباب سطحية؟
في الرواية، تنكشف الجريمة لا بوصفها فعلاً طارئًا منفصلاً عن السياق، بل بوصفها نتيجةً حتمية لصراعاتٍ خفيّة تتصارع في أغوار النفس البشرية، كالحقد، والغيرة، والكراهية، وأحقادٍ دفينة تنمو بصمتٍ حتى تنفجر على هيئة عنفٍ يختزل في مظهره أسبابًا واهية، بينما تخفي أعماقه جراحًا لم تُضمد.
وهكذا، يمكن للقارئ أن يدرك من خلال النص أنّ ما نشهده اليوم من جرائم عنفٍ متفشٍّ في المجتمعات، ليس سوى امتدادٍ لتلك الصراعات النفسية والآلام المكبوتة، التي كثيرًا ما يُستهان بها أو يُغضّ الطرف عنها. فتبدو الأسباب أمام العيان سطحيّةً، بينما الحقيقة أعمق، موغلةٌ في تعقيدات النفس وندوبها التي لم تبرأ.
لذا، تمكّنت الرواية بحبكتها من أن تعرّي دوافع الجريمة، وتُمهّد للقارئ سُبُل التأمّل في خفايا النفس، مُنبهةً إلى أن العنف ليس وليد لحظته، بل خلاصة صراعٍ طويلٍ يُحسن القاتلُ — أو الضحية — إخفاءه خلف ملامحٍ هادئةٍ أو ابتسامةٍ وديعة.
الوصف الدقيق للحالات النفسية في الرواية يجعل القارئ يشعر بأنه داخل عقل الشخصيات. ما هي التحديات التي واجهتِكِ في نقل هذه المشاعر المعقدة، وكيف يمكن لهذا الأسلوب أن يساهم في فهم أعمق للصدمات النفسية في الواقع؟
الحالة النفسية لكل شخصية هي إحدى أدوات الكاتب التي قد تخدمه وتمنحه نص معبر وآسر أو إن سيء استخدامها قد تجعل القصة معقدة فتعيق وصول الفكرة بالنسبة لي التحدي كان متمثل بتقمصي لكل شخصية وتبني أفكارها ووجهات نظرها وهذا يكمن في خروجي عن ناهدة الكاتبة تماماً الأمر أشبه بالتمثيل بعض الشيء فعلى الممثل أن يتقمص كل دور يقوم بأدائه الكاتب أيضا على حد سواء يقوم بذلك إنما يؤديه على أوراقه.
بغداد في الرواية تبدو شخصيةً بحد ذاتها، تتنقّل بين الأحياء الشعبية والفخمة. هل كان اختيار المدينة محاولةً لتسليط الضوء على التناقضات الطبقية والاجتماعية في العراق تحديدًا، أم في العالم العربي عمومًا؟
بغداد حيث أنتمي حيث جذوري لغتي وحياتي اختيار المدينة وفاءاً لها فهي كما أقول دائماً مصدر إلهام لا ينضب، التناقضات الطبقية موجودة بطبيعة الحال في كل البلدان لكن كوني عراقية أردت تسليط الضوء عليها في بلدي على نحو خاص.
الفقد في الرواية ليس مجرد فقدان إنسان، بل فقدان الثقة بالآخرين وبالحياة نفسها. ما النصيحة التي توجّهينها لمن يعيشون في دوامة الشكّ بعد الصدمات، وكيف يمكنهم إعادة بناء أنفسهم؟
الفقد في الرواية يتجاوز فكرة فقدان الإنسان لآخر، ليصل إلى فقدانه الثقة بالعالم من حوله، بل وبالحياة ذاتها. إنها رواية عن الإنسان حين يُخذل مرارًا، فيغدو عاجزًا عن الإيمان بوجهٍ صادق أو وعدٍ صادق، فتشظى داخله الصورة الآمنة للعالم، ويعيش في شكٍ دائمٍ بالآخرين وبنواياهم.
أما النصيحة التي تهمس بها الرواية لأولئك العالقين في متاهة الشك بعد الصدمات، فهي أن إعادة بناء النفس ليست أمرًا مستحيلًا، لكنها رحلة شاقة تتطلب جرأة الاعتراف بالخذلان، والتصالح مع فكرة أن العالم لا يمنح أمانًا مطلقًا، وأن الثقة لا تولد من جديد إلا حين يُمنح الإنسان فرصة للتصالح مع ذاته قبل الآخرين.
إنها رواية تذكّر بأن الأمل، مهما توارى خلف الانكسارات، يبقى ممكنًا لمن امتلك شجاعة النهوض من رماد قلبه.
كأول رواية لكِ، لماذا اخترتِ أن تتركي نهاية القضية مفتوحة (هل ندم الجاني؟ هل تحققت العدالة؟)، وهل هذا يعكس رؤيتك لطبيعة العدالة في عالمنا، حيث لا تُحلُّ كل الأسرار؟
لم تكن نهاية القضية مفتوحة بل تحققت العدالة كما يجب لها أن تتحقق وعُرف الجاني في الفصل الأخير مع كامل دوافعه وتفاصيل جريمته.
في الختام، نشكر الكاتبة ناهدة الجياشي على هذا الحوار الثري، الذي أضاء لنا زوايا مختلفة من روايتها "ابك بصمت"، وكشف عن طبقات عميقة من التفكير الإنساني والاجتماعي. كما نشكر الحضور الكريم على مشاركاتهم وأسئلتهم الثرية.
أترككم مع رسالة أخيرة من الكاتبة: "الحياة قد تكون قاسية، لكن الألم ليس نهاية الطريق، بل وقودٌ لإشعال إرادتنا".
شكراً لكم، وإلى لقاء آخر مع إبداعات أدبية جديدة.
اضف تعليق