لم يذكر لنا التاريخ السياسي في العراق شيئا مفصلا عن العلاقة بين الدولة العراقية ومؤسساتها، لكن الجانب المؤشَر في هذا المجال، اكتساء مؤسسات الدولة بالضعف والخواء المزمن، وهذا ما جعل العلاقة المتبادلة بين الدولة ومؤسساتها مشوشة متأرجحة بين الثبات والضعف، وهي في الغالب تجعل المؤسسات خاضعة للسلطة فتسحب منها صلاحياتها لتصبح ذات طابع شكلي حيث يخضع القضاء والتشريع والتنفيذ للقائد الفرد، فتكون العلاقة التبادلية بين الدولة ومؤسساتها علاقة تابع لمتبوع وليس علاقة دستورية متكافئة.
تأريخنا السياسي المنظور ينبئ عن تبعية المؤسسات الدستورية للدولة، مع أن الأصح توافر الاستقلالية التامة للمؤسسات، وهذا الشرط من الأساسيات التي تستند إليها الديمقراطية في أية دولة، إذ لا مناص من وجود مؤسسات دستورية قوية ومستقلة، تحمي الديمقراطية من عبث السلطة، والحكومات التي تحاول القفز على الدستور لتجعل منه إلعوبة بيدها، أو عجينة تشكلها كما ترغب وتريد، وفقا لمصالحها، التي غالبا ما تكون بالضد من مصالح الشعب، فالسلطة غير الدستورية تهمش المؤسسات وتشكلها وفق التصميم الذي يدعم مصالحها هي وليس مصالح الشعب، مع أن الجميع يعرف تمام المعرفة بأن الدولة بلا مؤسسات مستقلة تصبح صفرا على الشمال.
وبهذا المعنى تكون المؤسسات الدستورية هي الداعم الاول للديمقراطية، ويمكن الجزم بأن قوة هذه المؤسسات، ودرجة استقلاليتها، تمثل معيارا دقيقا لمعرفة نجاح التجربة الديمقراطية من فشلها، ونستنتج من ذلك، كلما ضعفت تلك المؤسسات وفقدت استقلالتها، كلما ضعفت الديمقراطية، وتحولت الى غطاء مزيّف تحتمي به الحكومات، وتزيّن به وجهها الذي غالبا ما يكون قبيحا عندما تكون العلاقة بين الطرفين (السلطة والمؤسسات) مشوهة.
من البديهيات المتعارف عليها أن أية دولة لا تتمتع بالديمقراطية فهي واقعة تحت سلطة نظام قمعي، ولا وجود لتوصيف وسط في هذا المجال، أي من الصعب أن نقول أن هناك حكومة فردية أو حكومة يقودها حزب واحد بغياب المعارضة، يمكن أن نطلق عليها حكومة ديمقراطية ناجحة تعمل لصالح الشعب، او أنها حكومة تستند الى الشرعية الشعبية، لأن الفردية والدكتاتورية الحزبية، غالبا ما تبني نفسها من خلال التجاوز على الدستور، حتى لو تطلب الأمر، سفك الدماء وإزهاق الأرواح، فتلجأ إلى تصميم مؤسسات منقادة لها مهمشة وفاقدة للاستقلالية.
منهج لدعم التجربة الديمقراطية
لذا من أهم شروط الحكومات الناجحة، اقترانها بالمؤسسات الدستورية القوية والمستقلة، ومنحها الحصانة التي تحميها من نفوذ السلطة، كون هذه المؤسسات هي التي تحمي كيان الدولة وشرعيتها، فهل نحن في العراق نمتلك في نظامنا السياسي، مثل هذه المؤسسات الحامية للديمقراطية؟ وإذا جاء الجواب بالايجاب، سيولد منه سؤال آخر يقول، هل مؤسساتنا الدستورية الحالية قوية ومستقلة، ولها القدرة الكافية على دعم التجربة الديمقراطية في العراق؟، هذه الأسئلة الصريحة هي التي توضح لنا طبيعة العلاقة التبادلية بين الدولة ومؤسساتها في ظل هيمنة الطبقة السياسية الحاكمة على هذه المؤسسات.
إن بعض وقائع ما يجري على الارض يشير الى أن بعض مؤسسات الدولة تعاني من تدخلات الساسة، لذا فإن مؤسساتنا الدستورية التي أَسِّسَتْ لدعم الديمقراطية وحمايتها، هي نفسها تعاني من مشكلة عدم الحماية، فكيف يكون بمقدور هذه المؤسسات أن تؤدي دورها الدستوري في ظل التدخلات، وطالما أنها لا تتمكن من حماية استقلاليتها، فإنها بالضرورة تكون غير قادرة على توفير الحماية القانونية والدستورية لغيرها، ولا احد من السياسيين العراقيين او غيرهم يمكنه أن ينفي عدم استقلالية المؤسسات الدستورية، منذ بدأنا ببناء الديمقراطية الجديدة.
ويمكن أن نجزم بلا تردد أن مؤسسات الدولة العراقية لا تزال ركيكة، وأن التدخل الحكومي يكاد يكون واضحا في عمل هذه المؤسسات، والمشكلة الاخرى التي تعاني منها مؤسسات الدولة العراقية، أنها هي نفسها مصدر إضعاف لنفسها، ذلك أن عدم أدائها لدورها في البناء الديمقراطي، يتأتى أيضا من عمليات الإضعاف التي تطولها ممن يقودها أو يعمل على إدارتها، مثالنا على ذلك مفوضية الانتخابات، وهي مؤسسة دستورية مهمة جدا، يُعدّ دورها من اهم ادوار تعضيد التجربة الجديدة، وبناء الدولة على أسس ديمقراطية، من خلال إقامة دورات الانتخابات النيابية، ومجالس المحافظات، لاختيار أعضاء الحكومة الاتحادية، والبرلمان، ومجالس المحافظات، وهذا دور جوهري لمفوضية الانتخابات، ولا يمكنها القيام بهذا الدور في حالة تعرضها لحالات التدخل والإضعاف، سواء من خارجها كالتدخل في استقلاليتها، أو من داخلها.
إن الدولة القوية المتقدمة ينبغي أن تقوم على علاقة تبادلية رصينة بينها وبين مؤسساتها، وخاصة السلطة التنفيذية وعموم العاملين في الميدان السياسي، يجب أن يكون هناك حرص واضح على إدامة استقلالية المؤسسات، لسبب واضح أن المؤسسة الفاسدة ستعجز حتما عن القيام بالدور المناط بها، ولو جئنا للحديث عن بعض مؤسسات الدولة، فإننا سنجد أنها غير مستقلة بالمعنى الكامل للاستقلال، أي أن الاحزاب القوية وتبادل المنافع وحماية المصالح وادارة الصراع بين الكتل السياسية وما شابه، يؤدي الى التدخل على نحو مباشر او غير مباشر في عمل بعض المؤسسات، وهو أمر يؤدي بالنتيجة الى إضعاف دورها في حماية العملية الديمقراطية، ما يضعف التجربة ويخلخل كيان الدولة بأكمله.
الدور الرقابي لمنظمات المجتمع المدني
وربما تتشابه حالات الركاكة في مؤسسات الدولة العراقية، طالما أنها لا تتحلى بشرط الاستقلال التام، فالحديث عن المؤسسة النيابية التي تمثل شرائح الشعب كافة، لا يبعدها كثيرا عن دائرة الخلل والضعف، وكلنا يعرف نقاط الضعف التي يعاني منها البرلمان، وهو المؤسسة التشريعية التي ينبغي لها أن تمتلك الدور الأكبر في بناء التجربة الديمقراطية الجديدة، لكن تضارب المصالح بين أعضائها الـ (325)، وتعدد انتماءاتهم الى كتل وأحزاب متناقضة في التوجهات والآراء والنيّات أيضا، كل هذا، وربما هناك امور اخرى تجعل من هذه المؤسسة التشريعية الهامة، مصابة بالخلل وغير قادرة على الايفاء بدورها الدستوري الكبير، فيما يخص حماية الديمقراطية وتطوير النظام لدستوري في ظل تخلخل العلاقة التبادلية المتوازنة والمحكومة بضوابط الدستور بين الدولة ومؤسساتها.
وهكذا نحن نعاني من مؤسسات دستورية هي أصلا تعاني من الركاكة، وأسباب ومصادر هذا الضعف واضحة، وفي حال تأكد لنا أن مؤسساتنا الدستورية غير قادرة على حماية الديمقرطية، فإنها ستتحول الى تدميرها، وليس هناك شيء وسط في هذا المجال، أعني أن هذه المؤسسات أما تبني أو تدمّر ولا شيء وسط بين هذين الفعلين، وهذا رأي يقارب المنطق ولا مغالاة فيه، كما أن هذا الاستنتاج يؤكد أننا نحتاج في هذا الجانب الى خطوات إجرائية عملية داعمة لهذه لمؤسسات الدولة العراقية، منها:
- أن يتم تعيين اعضاء مفوضية الانتخابات وخاصة الدرجات الوظيفية العليا بإسلوب الانتخاب، وإبعاد التدخل الحزبي فيها.
- أن يُفسَح المجال كاملا لمنظمات المجتمع المدني في المراقبة والدعم والتطوير لعمل المؤسسات الدستورية.
- أن تتسم جميع نشاطات مفوضية الانتخابات والبرلمان وغيرهما بالشفافية التامة.
- أن تكون هناك اجراءات رقابية حقيقية على عمل هذه المؤسسات، على أن لا تتحول الرقابة الى ابتزاز وتدخّل وإضعاف، ويمكن ان نضمن ذلك بقانون تضعه كوادر مختصة.
- أن يحرص السياسيون والمعنيون جميعا على ضمان استقلالية جميع المؤسسات الدستورية، وأولهم السلطة التنفيذية.
- وأخيرا يمكن أن تكون العلاقة التبادلية المتوازنة المنضبطة بين الدولة بسلطاتها الثلاث وبين المؤسسات معيارا لمدى نجاح النظام السياسي في إدارة الدولة.
اضف تعليق