((إن من الواجب أن نسعى لكي تكون الصحيفة السجادية ورسالة الحقوق مَعْلَماً بارزاً ظاهراً لكل بلاد الإسلام، بل لكافة أنحاء المعمورة)).

قال تعالى: فَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ([1])

أقام الإسلام ركائزه الحضارية على أسس العدالة الإنسانية، المستمدة من نظرة الدين إلى الإنسان كونه خليفة الله تعالى في أرضه، وهي مرتبة لا يرتقي إليها مخلوق، ولا تدركها منزلة في أي فكر آخر. وهذه النظرة الإسلامية للإنسان ناتجة عما يمتلكه الإنسان من أهلية وقابلية لامتثال الأحكام الإلهية، وتطبيق التكاليف الشرعية التي أناطها الله تعالى به كي يقوم بعمارة الأرض والعيش فيها بما يتناسب ورضا المستخلَف الذي هو الله تعالى. قال تعالى(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ([2])

إن مدرسة أهل البيت(ع) قدمت منظومة تشريعية متكاملة تشمل الجوانب النظرية والتطبيقية، والتي من خلالها يصل الإنسان إلى مرتبة (الخليفة على الأرض)، بما صدر عنهم(ع) من أحكام وتشريعات وآداب وسنن، على المستوى القولي والفعلي. وكان للإمام زين العابدين(ع) الحظ الأوفر -في وقته- في توطيد الأسس العقائدية والأخلاقية والسياسية والحقوقية، والتي لا يزال المجتمع الإسلامي – بل الإنساني- يرفد من آثارها ومعالمها وبركاتها.

وسوف يتوزع البحث ضمن ثلاث استضاءات تتعلق كل واحدة منها بجانب من جوانب حياة الإمام علي بن الحسين زين العابدين

الاستضاءة الأولى: السيرة العملية للإمام زين العابدين(ع) ودورها في إصلاح الأمة

عني الإمام زين العابدين(ع)، من خلال سيرته العطرة، ببناء المجتمع الإسلامي بناء عقائديا وأخلاقيا عناية بالغة، سيما في الفترة التي أعقبت فاجعة الطف، بسبب ما وصل إليه حال المجتمع آنذاك من انهيار في الجانب العقائدي والأخلاقي، وابتعاد الناس عن دينهم من جراء سياسات الحكم الأموي التضليلية، التي حملت معول الهدم على القيم الأخلاقية والعقائد الحقة، فانبرى (عليه السلام) إلى إصلاح المجتمع وتثبيت العقائد الحقة وتهذيب الأخلاق بالقول والفعل.

وكان المسلمون يرون في سيرة الإمام زين العابدين(ع) امتدادا حقيقيا لسير جده الرسول الكريم(ص)، وتجسيداﹰ حيّاﹰ لقيم الإسلام، حتى ملكَ حبه القلوب، وانشدت إليه النفوس، بما كان يحمل من الملكات العالية وجوامع الكمالات، التي عزّ وجودها في ذلك الزمان.

وقد استطاع الإمام زين العابدين(ع)، وهو في قيد المرض، ورهن الأسر الأموي والإقامة الجبرية، أن ينشر أهداف الثورة الكبرى التي فجرها أبوه سيد الشهداء(ع)، وذلك بالسعي إلى إصلاح المجتمع الإسلامي، وبث روح التدين والأخلاق الفاضلة فيه. فتمكن –برغم العقبات والصعوبات– أن ينشر الحياة في جسد الأمة الذي دبت فيه أمارات الموت، بسبب ابتعاده عن قيم الإسلام، والاستسلام لسياسة التجهيل والتضليل الأموي لشل حركة المجتمع الإسلامي، وتعطيل تفكيره، وأخلد إلى الراحة وطلب العافية. وكانت الخطة الإصلاحية للإمام زين العابدين(ع) تعطي الأولوية لتدارك ما أصاب الأمة من ابتعاد عن القيم الروحية، وسلوك الاتجاه المادي البعيد عن كل ما يمت للآخرة بصلة. وذلك من خلال:

1) انقطاعه إلى الله تعالى بالعبادة والمناجاة، حتى سمي لكثرة عبادته بـ(زين العابدين) و(سيد الساجدين) و(ذي الثفنات)، ولم يعرف المسلمون في زمانه رجلا أعبد منه ولا أزهد. وظهرت آثار العبادة على جسده الشريف، وكان يطوي كثيرا من لياليه في المسجد الحرام يؤدي نسكه وعباداته، وقد رويت مشاهد كثيرة لعبادة الإمام زين العابدين(ع) أدهشت من حوله، وأعادت إلى الناس صورة عبادة رسول الله(ص) وجده أمير المؤمنين(ع).

وفي إحدى ليالي مناجاته مع ربه، كثر بكاؤه، وعلا نشيجه، حتى خر مغشيا عليه. يقول طاووس اليماني الفقيه (فدنوت منه وشلتُ رأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خده، فاستوى جالسا وقال: من ذا الذي أشغلني عن ذكر ربي؟ فقلت: أنا طاووس يا ابن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثل هذا ونحن عاصون جافون. أبوك الحسين بن علي، وأمك فاطمة الزهراء، وجدك رسول الله؟ قال: والتفت إلي وقال: هيهات هيهات يا طاووس، دع عني حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن أطاعه وأحسن ولو كان حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا، أما سمعت قوله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ). والله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح) ([3]).

وما (المناجاة الخمسة عشر) إلا من رشحات نفسه القدسية، وفيها من فنون الدعوات، وآداب مخاطبة المعبود، ما لم يكن مألوفا لدى عبّاد ذلك العصر، فضلا عن اكتنازها لمطالب عالية في العقائد والأخلاق.

وقد أثرى الإمام زين العابدين المجتمع الإسلامي، بل الفكر البشري، بكنوز العلم والحكمة عن طريق الدعاء، فحينما مُنع من إلقاء توجيهاته ودروسه عن طريق المنبر، تحول إلى المحراب ليبث علومه ومبادئه في الصحيفة السجادية المعروفة بزبور آل محمد، ولم تلك الأدعية للرهبانية والتصوف واعتزال المجتمع، بل هي كنوز معرفية ترسم للمجتمع الإسلامي البرامج العقائدية والأخلاقية.

2) كثرة البر والإحسان للمحتاجين وخصوصا طبقة العبيد، فقد كان(ع) يشفق عليهم كثيراﹰ، وحفظت لنا النصوص التاريخية صورا مشرقة في تعامله مع العبيد، وحرصه على تحريرهم من الرق والعبودية، حتى عدّ ذلك ظاهرة بارزة في حياة الإمام زين العابدين(ع). " وكان إذا دخل عليه شهر رمضان يكتب على غلمانه ذنوبهم، حتى إذا كان آخر ليلة دعاهم، ثم أظهر الكتاب وقال: يا فلان فعلت كذا ولم أوذيك، فيقرون أجمع. فيقوم وسطهم ويقول لهم: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا علي بن الحسين، ربك قد أحصى عليك ما عملت كما أحصيت علينا، ولديه كتاب ينطق بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، فاذكر ذل مقامك بين يدي ربك الذي لا يظلم مثقال ذرة وكفى بالله شهيدا، فاعف واصفح يعف عنك المليك لقوله تعالى: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ويبكي. ثم يقول: اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاء للعفو عني وعتق رقبتي فيعتقهم، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس، وما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين رأسا إلى أقل أو أكثر " ([4])

وفي معرض تفسيره لقوله تعالى (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) ([5])، يقول السيد مرتضى الشيرازي" وقد ورد أن الإمام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه) اذا اعطى سائلا مسكينا مالا، قبّله، حتى لا يرى عليه أثر الذل !!وهذا الفعل منه (صلوات الله وسلامه عليه) في حقيقته، يُعَدُّ قمة القمة في رعاية الحقوق. وهي لفتة دقيقة الى أبعد الحدود ولعله ليس لها نظير، وإن وجد فهو نادر جدا بل إنه من تموجاته (صلوات الله وسلامه عليه). وفي الحقيقة فان الامام عندما يقبل ذلك السائل فإنه يعطيه نوعاً من (العطاء العاطفي) زيادة على (العطاء المادي) ويشعره بالاحترام والتقدير ويجنّبه الشعور بالذلة والانكسار، لأن (المسكين) يشعر بانكسار وذل في قرارة نفسه عادة خاصة حينما يتلقى العطاء.

فالإمام (صلوات الله وسلامه عليه) في الحقيقة أعطاه عطاءين: عطاءاً مادياً، وهو المال، وعطاءاً معنوياً، وهو الاحتضان العاطفي والتقبيل، وذلك لأن الانسان يحتاج الى من يرعاه ومن يعطف عليه ويعتني به، والى من يبرز له أن كرامته مصونة محفوظة. لكن ذلك السائل ذهبت كرامته، وقد يتولد من ذلك الحقد والحسد وأنواع العقد في نفوس الكثير منهم، وبالتالي تتولد الجريمة، فاذا ما تعامل معه المجتمع بالعطف والحنان والانسانية ـ كما يعلمنا الامام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه) ذلك ـ فإن المحبة والعدل سيسودان وستنعدم أو تقل الجريمة الى أبعد الحدود. إن هذا المَعلم وهذا الخلق الإنساني الرفيع يجب أن يتحول الى ثقافة في المجتمع وإلى برنامج عام يهتم بـ(العناية العاطفية بالفقراء والمساكين والايتام) اضافة الى العناية المادية "([6])

وفي التفاتة رائعة من السيد مرتضى الشيرازي في تفسير الآية الكريمة محل البحث، فقد خلص منها –بضميمة نص روائي عن أئمة أهل البيت(ع)– أن المقصود بقوله تعالى (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) هو إتيان رسول الله (ص) ميراثه من العلم ومن اثار النبوة، والوصية إلى أمير المؤمنين(ع). قال (وان المصداق الأجلى للقربى هم أهل البيت (عليهم ازكى الصلاة والسلام) وفي الرواية عن الإمام الصادق عليه الصلاة والسلام (وكان حق علي الوصية التي جعلت له والاسم الأكبر وميراث العلم وآثار النبوة) وهذا يعني بضميمة الآية الشريفة: أن إتيان ذي القربى حقه هو أمرٌ لرسول الله (صلى الله عليه واله) بأن يؤتي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) حقه، من ميراثه من العلم ومن اثار النبوة، والوصية وغير ذلك، وهذا تفسير بالمصداق وهو مما لاشك فيه لأنه المصداق الأجلى، الا ان ذا القربى بالعنوان الاعم يراد به مطلق ذوي القربى لكل انسان) ([7])

3) تفعليه (ع) للتكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، والتي حثت عليها الشريعة المقدسة. والظاهر أن الفرق بين التكافل الاجتماعي ومجرد مساعدة الفقراء والمحتاجين أو إعتاق العبيد، أن الأول لوحظ فيه الكفالة بمعنى الرعاية والتعهد وقضاء ما يحتاج إليه الإنسان، كل بحسبه. وهذه الظاهرة الإسلامية التي أكدت عليها الشريعة المقدسة كادت أن تختفي بفعل سياسات التضييق الاقتصادي للحكم الأموي ضد خصومهم، خصوصا أتباع أهل البيت(ع)، لإضعافهم في ساحة العمل السياسي كقوة مقاومة للحكم الأموي، وذلك من خلال:

أ) بناء قاعدة مالية ضخمة، لحكام بني أمية وأسرهم ومن يليهم، باستيلائهم على موارد الدولة الإسلامية وبيت مال المسلمين وما يجبى إليهم من الفيء، تقوية لمراكزهم في السلطة.

ب) تقريبهم لمناوئي أهل البيت (ع) وأعدائهم، وإغداق العطاء على بطانتهم وجنودهم من المؤيدين له والمنحرفين عن خط أهل (ع)، ليأمنوا جانب الشر فيهم على سلطانهم وحكمهم، وليكونوا عونا لهم في تقوية وتعزيز شوكتهم، وأداة لقمع خصومهم ومعارضيهم. وقد أثرت هذه السياسة الاقتصادية الظالمة بالذات على أتباع أهل البيت (ع) ومواليهم، إذ كانوا المقصودين منها، والواقعين تحت وطأتها.

ونتيجة لهذه السياسات الأموية القائمة على الظلم، والساعية إلى الاستئثار بالحكم، وما رشح عنها من مشكلات اقتصادية عصفت بالمجتمع الإسلامي، تكونت طبقة من المحتاجين، خصوصا من شيعة أمير المؤمنين (ع)، لا يجدون لسد رمقهم سبيلا، ولا إلى من يقوم أودهم كفيلا. وظهرت –في الوقت ذاته- الحاجة إلى تفعيل العطاء المالي، بما يتناسب مع حجم المشكلات الاقتصادية التي أفرزتها سياسة الحكم الأموي الجائرة. ولا بد أن يكون المبادر لهذه المعالجات أهل بيت العصمة المتمثل بعميدها الإمام زين العابدين (ع)، حتى نقلت عنه كتب السير والتاريخ مواقف في الجود والكرم: يقضي الدين، ويعتق العبيد، ويكرم الفقراء، ويواسي إخوانه المؤمنين. وكان (ع) محط أنظار المسلمين عامة، وشيعة أهل البيت بصورة خاصة، يرون ما يقدمه لإسعاف المؤمنين وقضاء حوائجهم، فكان (ع) الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة التي انتهجها المقربون إليه وكانت تلك التدابير من الإمام(ع) الرد العملي على السياسة الأموية الجاهلية

يقول الشيخ الصدوق(قده) (كان(ع) يعول مائة أهل بيت من فقراء المدينة، وكان يعجبه أن يحضر طعامه اليتامى والأضراء والزمني([8]) والمساكين الذين لا حيلة لهم، وكان يناولهم بيده ومن كان له منهم عيال حمله إلى عياله من طعامه. وكان لا يأكل طعاما حتى يبدأ فيتصدق بمثله) ([9])

وحينما أرسل يزيد بن معاوية إلى المدينة قائده مسرف بن عقبة ليستحلها وينتهك حرمتها في واقعة الحرة، عال الإمام زين العابدين(ع) أربعمائة عائلة إلى أن تفرق جيش مسرف بن عقبة. وكان يعول أهل بيوت كثيرة في المدينة لا يعرفون من يأتيهم برزقهم حتى مات([10])

يقول السيد مرتضى الشيرازي " في رواية معروفة ان الامام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه) كان له يوميا في داره مجلس إطعام عام([11]). وتتجلى أهمية ما قام به الامام (صلوات الله وسلامه عليه) إذا لاحظنا انه كانت له مسؤوليات كثيرة، ومراجعات لاتعد ولا تحصى، والإطعام - كما لا يخفى - يكلف المطعِم مسؤولية إضافية، لأنه لابد من الجلوس مع الوافدين، والتحدث معهم وقضاء حوائجهم، ولعل الكثير منهم لا يقدِّرون وضع الانسان، ووقته، وقيمة هذا الوقت، وقد لا يتعاملون بالشكل اللائق أو المناسب، ولكنها الرحمة والإنسانية والأخلاق النبوية.

ولو أن هذه الثقافة اصبحت ثقافة عامة لكل ذي مُكنة، ولم تبقَ منحصرة بشيخ العشيرة لاقتضاء موقعه، أو ببعض من يقوم بذلك رغبة في الثواب؛ لأن الضيف يأتي برزقه ويخرج بذنوب أهل ذلك البيت، لو أصبحت هذه الثقافة ثقافة عامة، لتغيرت أوضاع البلاد والعباد الى أبعد الحدود "([12])

الاستضاءة الثانية: الإمام زين العابدين(ع) القائد الحضاري في مواجهة المشروع الأموي الجاهلي

لم يعرف تاريخ الأمم رجلا كالإمام زين العابدين(ع)، قد احتدمت عليه العلل، وتشابكت عليه الهموم، قد استؤصل الرجال من أهله وقرابته وصحبه، وأخذ أسيرا لدى الأعداء مع أهله والمستضعفين من النساء والأطفال، قد صفدوا بالحديد، وطيف بهم في البلدان، على أقتاب المطيّات، يلفح وجوههم حر الهاجرات، ويتصفح وجوههم القريب والبعيد والدني والشريف، ثم يُفرض عليه المكث والإقامة الجبرية، ويمنع من بيان رأيه على ملأ الناس. وإذا به يؤجج روح الثورة في نفوس الجماهير الإسلامية ضد حكم دكتاتوري جائر، ويقف أمامه بكل جرأة وشجاعة، ويبتكر من طرق الثورة والمقاومة أساليب لم تكن في حساب المتجبرين ولا الثائرين. وذلك من خلال عاملين رئيسين:

(1) الكلمات النورانية التي ألقاها(ع) في خطبه بمجالس الأسر، مع حرائر البيت النبوي في الكوفة والشام، أمام أطغى جبابرة العصر، وأكثرهم تضييعا لحقوق الرعية، وأشدهم على مناوئيه ومعارضيه. فكان لتلك الخطب الأثر العنيف الذي زلزل عروش الظالمين، وأيقظ الضمير لدى جماهير المسلمين الذي بقي فترة طويلة تحت تأثير التخدير الأموي. ووقف حائلا دون تمرير خططه، وإنجاح مهماته وأهدافه، مع قلة الأعوان والأنصار، بما يعد معجزة سياسية تحققت على يد هذا الإمام العظيم.

لقد كان الإمام زين العابدين (ع) من أقوى العوامل في تخليد الثورة الحسينية، وتفاعلها مع عواطف المجتمع وأحاسيسه، وذلك بمواقفه الشجاعة التي لم يعرف لها التاريخ مثيلاﹰ في دنيا الشجاعة والبطولات. فحينما أدخلوا الإمام (ع) مع عماته وأخواته على الطاغية عبيد الله بن زياد، لم يكتف بإظهار الشماتة بهم، حتى التفت إلى الإمام (ع) وقال" من أنت فقال: أنا علي بن الحسين، فقال: أليس قد قتل الله عليا بن الحسين؟ فقال له (ع): قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس. فقال: بل الله قتله، فقال علي ابن الحسين(ع) الله يتوفى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال: وبك جرأة لجوابي وفيك بقية للرد عليّ. اذهبوا به فاضربوا عنقه، فتعلقت به عمته زينب وقالت يا ابن زياد، حسبك من دمائنا. فقال علي بن الحسين عليهما السلام لعمته: اسكتي يا عمة حتى أكلمه، ثم أقبل عليه فقال: أ بالقتل تهددني يا ابن زياد أما علمت (أن القتل لنا عادة وكرامتنا الشهادة)" ([13]). وظلت هذه الكلمات شعار الأحرار ونشيد المقاومين على امتداد الأجيال. وهكذا كان الحال في مجلس يزيد في الشام حين عرَّفَ الرأي العام الشامي والإسلامي بشاعة الجريمة التي ارتكبها يزيد في استئصاله للعترة الطاهرة، وأيقظ فيهم الرأي والشعور والتفكر، مما جعل الناس يتحدثون بإعجاب وإكبار عن خطاب الإمام الذي كان من ثمرات النهضة الحسينية، وصفحة من صفحاتها المشرقة.

(2) وأما في جانب البكاء وإظهار التفجع وآلام المصاب، فلم تكن تمر على الإمام زين العابدين(ع) مناسبة إلا وأظهر ظلامة سيد شباب أهل الجنة وما جرى على أهل بيت الوحي من إرهاب ومصائب. وقد بقي(ع) أكثر من عشرين سنة لا يقدَّم له طعام ولا شراب إلا ومزجه بدموع عينيه، حتى عدّ من البكّائين الخمسة الذين مثلوا الأسى على امتداد التاريخ، وقال له أحد مواليه: جعلت فداك يا ابن رسول الله، إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: " إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله مالا تعلمون " إني ما أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة([14])

ولم تكن تلك الدموع دموع الذل والضعف، بل هي دموع الاستنكار والاحتجاج فهو(ع) من بني هاشم، وذرية أبي طالب الذي قال عنه رسول الله(ص) (لله در أبى طالب، لو ولد الناس كلهم كانوا شجعانا) ([15]). فضلا عن كونه إماما معصوما قد اجتمعت فيه خصال الكمال كلها، ومنها الشجاعة.

وكانت كثرة بكائه من مظاهر وعوامل تخليد الثورة الحسينية، فقد اصطبغت أيامه بألوان الحزن والشجى، وكان التوجع والتفجع على مصائب العترة ديدنه وعادته التي عرف بها في مجتمعه، فغدا ذلك الحزن والبكاء تخليداﹰ لثورة أبيه التي ظلت شعارا يحمل عنوان تحرير الإنسان من الظلم والعبودية والطغيان.

ومن جهة أخرى، أحدث بكاؤه على أبيه لوعة في نفوس المسلمين، إذ إن الإمام زين العابدين(ع) كان يمثل ألمع شخصية إسلامية في ذلك الوقت عند المؤالف والمخالف، وكان البقية الباقية من العترة الهادية لرسول الله(ص)، وأبناء علي وفاطمة(سلام الله عليهما). فكان بكاؤه المستمر لأكثر من عشرين عاما مع تخلله بيان ما جرى من المصائب ورزايا على أهل بيت رسول الله(ص)، من العوامل الرئيسة في تحريك المشاعر وكسب تعاطف المسلمين على اختلاف آرائهم ومبتنياتهم العقائدية. وكان ذلك سببا لاستمرار الذكرى في الأذهان، وحياتها على الخواطر، وبقاء الأهداف حية نابضة في الضمائر ووجدان التاريخ، وتكدس النقمة والنفرة من القتلة الظلمة.

وكان لهذين العاملين دور مهم في تحفيز الجماهير الإسلامية للثورة على الحكم الأموي، فقد انطلقت الشرارة الأولى من مدينة رسول الله(ص)، فأعلن أبناء الصحابة عصيانهم المسلح بقيادة عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة على حكومة يزيد التي استهانت بقيم الأمة ومقدراتها.

إن هذه الإنجازات السياسية الكبرى للإمام زين العابدين(ع) تمت في ظروف لا يمكن لأمة من الناس القيام ببعضها. يقول السيد مرتضى الشيرازي واصفا تلك الظروف "وقد نقل المؤرخون صوراً مشينة من هدر الحقوق وانتهاك الحرمات مما كان يمارسه بنو أمية نذكر منها:

1- من المعروف ان الخيول كانت توسم بوسم على أعناقها كي تكون علامة مميزة لها ولمالكها، وقد ابتدع بني أمية وَسْمَ رقاب المؤمنين بوسم العبودية ليزيد أو غيره من طواغيتهم!!.

2- لم يكتفوا بوسم رقاب المسلمين ـ وهو فعل شنيع مهين وهو امتهان لكرامة الانسان ـ بل كانوا ينقشون على أكفهم نقش العبودية ولعله لأن الرقبة يمكن للإنسان ان يغطيها، لكن اليد من الصعب إخفاؤها.

3- كان بنو أمية يبيعون الأحرار بالدين ويتملكونهم في الدين، فان بني أمية كانوا هم الحكام وكانوا بكثرة كاثرة، وكان لهم من الاموال المغتصبة ما لهم، وكان الكثير من الناس بفعل سياسة بني أمية الفاسدة، محتاجين الى أبسط مقومات الحياة، فكانوا يقترضون منهم بعض الاموال لسد حوائجهم، وكان بعض المقترضين أحياناً من الشخصيات البارزة والمحترمة في المجتمع، فاذا لم يستطع سداد دينه في الوقت المحدد فان ذلك المقرِض من بني أمية كان يتملكه بِدَينه ! فيتحول الى رق وعبد أو أمة!

4- ان بني امية كانوا يتملكون ويسبون ذراري الذين يخرجون عليهم، ويمتهنون كراماتهم بأبشع الطرق والاساليب، ولكم أن تتصورا حكومة تتعامل مع المعارضة بهذا الشكل فتسبي أبناء المعارضين وبناتهم وتعتبرهم عبيداً وارقاء واماء!." ([16])

الاستضاءة الثالثة: التراث الفكري للإمام زين العابدين(ع)

اتجه الإمام زين العابدين عليه السلام ـ بعد واقعة كربلاء ـ إلى إنارة الفكر الإسلامي بشتى أنواع العلوم والمعارف، فترك للأجيال من بعده تراثاً ضخماً من الفكر والأدب والعلوم الإنسانية شيّد على أساسها من بعده أئمة أهل البيت (عليهم السلام) -لا سيّما الإمامان الباقر والصادق (عليهما السلام)- مدرستهم الفقهيّة والحديثيّة.

وقد وجد الإمام زين العابدين توجيه المجتمع نحو التسلح بالعلم والفكر والمعرفة خير وسيلة لأداء رسالته الإصلاحية، في وقت كانت الحياة العلمية شبه معدومة، حيث اقتضت مصلحة الدولة الأموية آنذاك إقصاء الوعي الثقافي في الأمة، وإركاسها في منحدر سحيق من الجهل.

ولأجل ذلك، فقد عني الإمام زين العابدين (ع) بتنظيم الجانب الحقوقي للإنسان برفده، بمنظومة نظرية من الحقوق تستجيب لنداء الانسان، وتتلاءم مع فطرته التي خلق عليها، ويتكفل تطبيقها بسعادة الانسان ورقيه إلى أعلى درجات الكمال ويأخذ بيده إلى ما فيه خيره في عاجله وآجله. فكانت (رسالة الحقوق) التي نظمها الإمام زين العابدين(ع) المنهاج الحقوقي الكامل الممثل لحقيقة الشريعة المقدسة، فقد أحاطت بشبكة علاقات الإنسان الثلاثة: مع ربِّه ونفسِه ومجتمعه. ترسم حدود العلائق والواجبات بين الإنسان وجميع ما يحيط به، وكانت الإنتاج الحضاري للإمام السجاد(ع) لمواجهة ما أصاب المجتمع من ظلم بني أمية. ناهيك عما تحمله من معارف اجتماعية وسياسية وأخلاقية، تمثل دائرة معارف إسلامية كبرى بسبب تعدد جوانبها وتنوع مضامينها، وهذا التنوع والغنى الفكري أكسب هذه الرسالة موقعاً متميزاً في التراث الإسلامي.

يقول السيد مرتضى الشيرازي مبينا لأهمية رسالة الحقوق" ولو أننا درسنا وطبقنا رسالة الحقوق للإمام السجاد(صلوات الله وسلامه عليه) وهي الرسالة التي لا نظير لها على مر التاريخ في إيجازها وشمولها وعمقها وحكمتها ودقتها، لَكُنّا سادة في الدنيا، ومن الفائزين في الآخرة

إن من الواجب أن نسعى لكي تكون الصحيفة السجادية ورسالة الحقوق (مَعْلَماً) بارزاً ظاهراً لكل بلاد الإسلام، بل لكافة أنحاء المعمورة، وذلك أننا لو دخلنا الى أي بلد في العالم، فإن معالم ذلك البلد هي التي ترشد الى ثقافته ودينه، ومستواه العلمي والحضاري، والقضايا الحقوقية معلم من أهم معالم الدين. لكننا – ومع الأسف الشديد – لا نجد هذا (المعْلَم) متجليا في البلاد الاسلامية بشكل واضح، في الوزارات والدوائر والمدارس والشركات والشوارع والازقة، أو حتى في الكتب والمناهج الدراسية. وكان من نتائج ذلك هو ما نراه من هدر الحقوق، وتضييع المصالح العامة، وانتهاك الحرمات، وعلى مختلف المستويات.

إن الامام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه) هو المعلم الحقيقي البارز قولا وفعلا للحقوق بشتى أنواعها وألوانها وأشكالها. إن علينا جميعا أن نقتدي بسيد الساجدين (صلوات الله وسلامه عليه) في كل حركة وكل سكون، وفي كل قول وفعل، وأن نعمل ونروج لرسالة الحقوق السجادية، وأن نهتم أبلغ الاهتمام بحق الأبوين والأولاد والاخوان والأخوات والجار والأقارب والعشيرة وغيرها، وفوق ذلك: حق الله وحق رسوله أهل بيته (عليهم السلام)" ([17])

ما المقصود بـ(الحقوق) في رسالة الحقوق

على الرغم مما تحمله مفردة(الحق) من معنى واضح لدى الأفهام بالنظرة البدوية، إلا أن ورودها واستعمالها في علوم كثيرة جعلها تأخذ الطابع الاصطلاحي في كل علم من تلك العلوم.

وكان الجانب الحقوقي الفقهي الأقرب من بقية الجوانب التي سلطت رسالة الحقوق اهتمامها عليه، في علاقة جدلية مع مفهوم (الحكم). يقول السيد مرتضى الشيرازي في بيان المقصود من مفهوم (الحق) الوارد في رسالة الحقوق " ماذا يعني الحق؟ وماهي النسبة بين الحق والواجب؟ ثم ما هو واجبنا تجاه منظومة الحقوق، على ضوء ما ذكره سيد الساجدين في رسالة الحقوق وغيرها؟

الحق له إطلاقان:

1- ما يقع في مقابل (الواجب)، بل في مقابل (الحكم)، أي هناك(حكم) وهناك(حق). فيطلق ويراد به ما هو قسيم للحكم، كحق الشُفعة وكحق الأخذ بالخيار، كخيار المجلس أو خيار الشرط وغيرهما. وكذلك حق القَسم للمرأة، أو حق حيازة المباحات، وحق التملك، أو الحق في الزواج، أو الحق في الحصول على فرصة عمل، وهكذا وهلم جرا.. الى سائر الحقوق.

2- الأعم من (الواجب) ومن (الحكم). فيطلق الحق ويراد به (الواجب)، كما لو قلنا ان الصلاة واجبة، أو الصوم واجب، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب

وموجز القول: إن الظاهر أن المراد من الحق في الآية الشريفة، وفي سائر الآيات المشابهة لها: هو مطلق الحقوق بالمعنى الفقهائي، أو القانوني المصطلح عليه، إضافة الى كافة الواجبات ونظائرها (أي حتى المستحبات فان لها درجة ومرتبة من مراتب صدق هذا العنوان)." ([18])

وبناء على تفسير السيد مرتضى الشيرازي للحق والحكم، فإن الحق والحكم يمكن أن ينطبقا من حيث المصاديق الخارجية على بعضهما البعض:

(1) أما أن كل حق هو حكم، لأن الحقوق كالأحكام مجعولة من المشرع أو المقنن. ولا يمكن أن نتصور حقا ليس له مشرّع على الإطلاق. كل ما في الأمر أن المشرِّع يختلف، فقد يكون العقل وقد يكون الدين وقد يكون التقليد وقد يكون القانون أو غير ذلك.

(2) وأما أن كل حكم هو حق، فإن الحق إنما كان حقا لكونه في مصلحة المكلف وإرفاقا به. وهذا بنفسه ثابت ووارد في الحكم أيضا، فإنه أيضا موجود ومشرع في مصلحة المكلف وإرفاقا به.

إحاطة الحقوق بكل جوانب حياة الإنسان

إن مما هو بيِّن لدى المعنيين بالفكر الإسلامي أن ليس هناك شعبة من شعب الحياة التي أحاط بها إدراك الإنسان وتصوره، إلا وكان للشريعة المقدسة القول الفصل فيها، لأن الشريعة الإسلامية هي الإطار الشامل لكل أنظمة الحياة وفق المنظور الإسلامي.

وعندما يعالج الفكر الإسلامي القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان، كونه المحور الأساس للتشريع والغاية التي من أجلها خلق الله تعالى الأشياء وسخرها لخدمته، فعندما يعالج تلك القضايا، فإنه يمزج القانون بالأخلاق الإنسانية ليخرج عن ذلك الامتزاج وصفة متكاملة للروح والجسد لا يستغني عنها الإنسان.

وفي صدد بيان شمولية الحقوق لحياة الإنسان يقول السيد مرتضى الشيرازي " إن كل إنسان في هذه الحياة يعيش في بحر من الحقوق المحيطة به. إذ إن هناك الألوف من الحقوق التي تحيط بالإنسان في كل أحواله وظروفه وأوقاته وأمكنته. يقول(صلوات الله وسلامه عليه) في رسالة الحقوق:

اعلم ان لله عزو جل حقوقا محيطة بك، في كل حركة تحركتها: فأية حركة مهما كانت بسيطة فان هناك مجموعة من الحقوق المترتبة لله تعالى علينا.

أو سكنة سكنتها: وهذا أغرب لأن الحركة فعل من الأفعال، وهي أمر وجودي، ومن الواضح أن الوجود تتعلق به الأحكام، أما السكون فقد يتوهم أنه عدم، والعدم لا يكون موضوعا ولا يكون محمولا، لكن الامام يثبت أن للسكون حقوقاً وأحكاما ثابتة.

ومع أن البحث ليس في التحليل الفلسفي لهذه القضية، لكن سنشير إلى وجه الجواب بإيجاز فانه

قد يناقش صغرويا: بأن السكون ليس عدما، بل هو وجود وهو اللبث.

وقد يناقش كبرويا: بأن الأعدام المضافة لها حظ من الوجود، فهي بهذا اللحاظ تكون منشأ الأثر والتأثير والتأثر، على حسب كلام المشهور، كما ان الظلام كذلك، فقد يتوهم أنه عدم، مع أنه موجود، كما أن النور موجود أيضا.

أو حال حلتها: وذلك فيما لو تحوّل الإنسان من حال الى حال، كما لو تحول من حال الغنى الى الفقر او بالعكس، فانه على الفور سوف تحدق به سلسلة جديدة من الحقوق، والحالات المختلفة كثيرة جدا كما لو تحول الشخص من طالب الى أستاذ، أو من عاطل الى موظف، أو من جندي الى ضابط أو عكس ذلك، إلى غير ذلك.

أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها: كما لو حرك الانسان يده فان هذا التحريك والتحرك تحيط به سلسلة من الحقوق.

او آلة تصرفت فيها: كالعمل بجهاز الموبايل أو الحاسوب او الانترنيت او غير ذلك، فان في كل تصرف بأية آلة، توجد هنالك حقوق وحقوق"([19])

استناد القانون الحقوقي إلى الأساس الأخلاقي

إن أهم ما يميز التشريع القانوني الإسلامي، انتهاء القوانين التي يسنها ويشرعها في المجتمع إلى غايات أخلاقية. فينظر إلى الأخلاق على أنّ لها قدسيّة خاصّة، تحكّم على القوانين والمبادئ الحقوقية. ولهذا فقد بنيت القواعد العامة للقوانين الإسلامية على العدل والحق والرحمة واحترام الإنسان. ويكفي الباحث نظرة إجمالية للنصوص القرآنية والحديثية للخروج بهذه النتيجة. فما الكتاب العزيز والسنة الشريفة إلا تعبير صادق ولسان ناطق لهذه المبادئ.

إن الأصل الفقهي لحقوق الإنسان الطبيعية في فقه مدرسة أهل البيت(ع)، هو العمومات القرآنية الدالة على تكريمه وتسخير ما في الأرض له، ومراعاة مصالح النوع الإنساني وصيانة حقوقه واحترام ذمته. ويعني هذا أنّنا في كلّ مورد من الموارد لا نجد فيه نصّاً خاصّاً أو تعبّداً خاصّاً على الاستثناء أو التخصيص أو رفع اليد عن هذه الطبيعة الأوّليّة التي هي (كرامة الإنسان) في التشريع الإسلامي، فإنّنا نعتمد على هذه القاعدة في التشريع. والقرآن لم يخصّص المؤمنين أو المسلمين بل قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) ([20])، وفي تعبير الإمام عليّ (عليه السلام): « إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق »([21])، أو قول الإمام الحسين (عليه السلام): « إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم »([22]).

فالإنسان، بما هو إنسان يحمل الخصائص الإنسانيّة من العقل والفكر الذي يساعده في الوصول إلى الكمال، هو الذي يكون داخلاً في التكريم. نعم للمسلم مزيد كرامة، كما أنّ للمؤمن كرامة أرفع.

فترى الصفة الأخلاقية لدى المشرع الإسلامي حاضرة في تقنين القوانين، وتظهر بصورة جلية في مقام التعامل مع الخصوم والمناوئين " والتعامل مع المعارضة. فنلاحظ كيف أن الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) وكذلك بقية الائمة(صلوات الله وسلامه عليهم) كانوا يتعاملون مع المعارضة حتى المغرضة منها بما لا نجد له نظيرا في العالم كله، حتى في الدول التي ترفع شعار الديمقراطية عاليا وتتبجح بذلك وكأنها السبّاقة للتحضّر والتسامح.. ففي الرواية ان الامام السجاد (صلوات الله وسلامه عليه) مرَّ على قوم يغتابونه فوقف عندهم ثم قال لهم: "إن كنتم صادقين فغفر الله لي، وان كنتم كاذبين فغفر الله لكم" ([23]).

إن المنتقَد ـ بالفتح ـ هو الآخر لا بد أن يتعرف على أخلاقيات المنتقد ومواصفاته وآدابه ورسومه ومنها:

أن يتسع صدره للنقد.

وأن يستمع إلى الناقِد بكل هدوء وموضوعية.

وأن يتدارس النقاط المثارة بروّية فإن كان النقد صحيحاً، قوّم سلوكه وغيرّ نهجه، وإلا تسامى عن أن يرد النقد وإن كان خاطئاً، بالجرح والعدوان أو حتى بالعنف والغضب والانفعال

ان علينا أن نتأسى بالإمام السجاد(صلوات الله وسلامه عليه) في أخلاقيات تعامله مع المعارضة إذ نجده يقول لأولئك الذين اغتابوه: "ان كنتم صادقين فغفر الله لي" مع أنه مما يُقطع به أنهم ليسوا صادقين في اغتياب الإمام الحقّ والولي المسدد من قبل الله تعالى، إلا أن ذلك يكشف عن منتهى المداراة والرفق وسعة الصدر "وان كنتم كاذبين فغفر الله لكم"([24])

فمنظومة الحقوق التي أوردها الإمام زين العابدين(ع) في (رسالة الحقوق) تجعل من الإنسان –في حال تطبيقها- محفوظ النفس والعرض والمال لا يتعرض إليه أحد بسوء أو بظلم. ولا تدع الفرد المسلم إنسانا منعزلا في خلوة، أو راهبا في صومعة، بل يصوره دائما في جماعة تترتب عليهم حقوق متبادلة، ما يكشف لنا بجلاء عن نظرة الإسلام الشمولية للحقوق التي لا تقتصر على بيان حقوق الإنسان، بل تثبت الحق لغير الإنسان أيضا.

إن القوانين الحقوقية المتعلقة بالإنسان في الإسلام –خصوصا في مدرسة أهل البيت- قامت على أصول أخلاقية متعددة: نذكر منها أصلين رئيسين هما:

1) تكريم الله للإنسان وتسخير الطبيعة له، كما في قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) ([25]). وقوله تعالى(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ([26])

2) حق ملكية الأرض والحكم فيها، ويقوم على أصل أنها مخلوقة مملوكة لله تعالى وقد ملَّكها لآدم عليه السلام وذريته المؤمنين، فمن فقد شرط الإيمان منهم فلا حق له في ملكية الأرض وحتى في السكن فيها إلا بأجرة، ومن هنا كان ما يسترجعه النبي(ص) من الآخرين ولو بالقوة يسمى (فيئاً) لأنه حق فاء إلى أهله ورجع، فإن شارك فيه المسلمون بقتال فهم شركاء فيه مع النبي صلى الله عليه وآله، وإلا فهو خالص للنبي صلى الله عليه وآله، قال الله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ([27]).

وفي إطلالة سريعة على ملامح دولة أهل البيت(ع) والتي أقامها أمير المؤمنين(ع) فترة حكمه القصيرة ترى أنه(ع) أعاد حريات المسلمين المصادرة بعد النبي (صلى الله عليه آله) وفي أولها حرية الرأي والتعبير، والامتناع عن البيعة، وحرية نقد الحكومة ونظام الحكم ورئيسه، بل أعطى الحرية لمعارضيه الخوارج، وأعلن أنه لا يَنقص أحداً منهم من حقه في بيت المال، ولا يتعرض لهم، إلا إذا بدأوا باعتداء أو قتال.

وعلى صعيد تقسيم الثروة: طبَّق (عليه السلام) عدالة العهد النبوي، فساوى بين المسلمين في العطاء وفرص العمل، وساوى بين نفسه وخادمه، فكان يشتري قميصين ويعطي قنبراً أحسنهما، لأنه شابٌّ والشاب يحب الزينة. وكان يقسم الغنائم، وما في بيت المال حتى يفرِّغه، ثم يصلي ركعتين ويقول: الحمد لله الذي أخرجني منه كما دخلته([28])

وعلى صعيد العمال والضمان الاجتماعي: طبق العدالة النبوية، فشرع الضمان الاجتماعي من بيت المال، وحكم به للمواطنين حتى اليهود والنصارى، فقد رأى شيخاً كبيراً يستعطي فقال: ما هذا؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين نصراني. فقال (عليه السلام): استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه ! أنفقوا عليه من بيت المال([29])

وهذه الجنبة الأخلاقية في القوانين المنظمة لحياة الإنسان وحقوقه هي نقطة الانقلاب التي يفترق فيها الفكر الإسلامي عن الأفكار المادية التي تتبناها الفلسفات المادية والقوانين الوضعية، ففي تلك القوانين غالبا ما تصطدم حقوق الإنسان بجدار من الأزمات الأخلاقية الناتجة من الصراع بين المصلحة العامة، التي تقتضي التنازل –ولو يسيرا– عن المنفعة الشخصية، والمنافع الذاتية التي تعتبر (الأنا) فوق كل الاعتبارات "ان العالم الذي تتحكم فيه الحضارة الغربية هو عالم المجانين وليس عالم العقلاء؛ لانهم من جهة تراهم يبنون المستشفيات الراقية والكليات الطبية الضخمة وبأحدث الاجهزة الطبية، ويطورون عملهم باستمرار مطرد، لكنهم من جهة ثانية يصنعون الأسلحة الكيماوية، والقنبلة الذرية، والنووية " ([30])

حق الله تعالى أساس الحقوق

من الواضح للمعنيين بشأن النظام الحقوقي الاسلامي وامتيازه عن مثيله من الأنظمة الأخرى، هو استناده على حق الله تعالى، كونه المنشأ والمنطلق لبقية الحقوق، لتحقيق العدالة الحقوقية بين الافراد. فانّ الحق نحو سلطنة، ولها مراتب كثيرة، أعلاها وأجلها هو سلطنة الحق -تعالى شأنه- وقهّاريته على مخلوقاته، وهو من أعظم الحقوق ولا يتبدل ولا يتغير بحال أبداً، وهو ذاتي متأصل، واليه ترجع سائر الحقوق بل الحقوق كلها له جلّ شأنه وبسلطنته خلق الخلق([31])

وفي رسالة الحقوق للإمام زين العابدين(ع)، نرى حق الله تعالى، في صدارة قائمة الحقوق باعتبار تقدمه، وأهميته نسبة إلى بقية الحقوق من جهة، ولأن مراعاة حق الله تعالى تجعل تطبيق ومراعاة الحقوق الأخرى للمخلوقين أمرا ممكنا وسائغا، فإذا راعى الإنسان حق ربه، كان له الاستعداد والقابلية على تطبيق بقية الحقوق، وإلا لم يتوفر فيه تلك القابلية. وبدون جعل المالكية والحق الأوّل لله لن تستتب العدالة بتاتاً في البشر ; لأنّ نظام التكوين يبدأ من الله ثمّ إلى خلقه، فلابدّ أنّ نظام الحقوق ونظام التقنين ونظام التدبير يتطابق مع نظام التكوين، وإذا تطابق فستكتب العدالة، وتتحقق السعادة للإنسانية، وإذا تمّ مخالفة هذا الأصل الأصيل الذي ترتكز عليه العدالة فلن تعيش البشرية السعادة أبداً، وستخسر البشرية السعادة([32])

بل لا بد أن يكون الحق المطلق لله عزّ وجلّ، لا في النظام الإسلامي فحسب، بل في تعامل أصحاب الأديان الأُخرى مع الله تعالى، كما في الآية الكريمة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَة سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ([33])، وكذا في القانون الدولي والعلاقات بين الأنظمة والحكومات والشعوب، أمّا إطلاق الحريات بشكل متحرّر من العبودية لله تعالى فهو يمثّل استعباد البشر لبعضهم البعض، والعودة إلى أزمنة التخلّف البشري والعصور الوسطى، ولكن بأشكال جديدة، أمّا العبودية لله فإنّها تضمن كون البشر سواسية أمام الله تعالى.

وقد كان للإمام زين العابدين – في رسالة الحقوق - بيان وافٍ في كل المجالات الحقوقية، حتى عد - بحق وجدارة - في صدارة المصلحين الإلهيين في مجال حقوق الإنسان، وضرب الإمام زين العابدين أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمدي العظيم مع الناس، بل مع كل ما حوله من الموجودات، بالرغم من تميز عصره بتحكم طغاة بني أمية على الأمة، وعلى مقدراتها وباسم الخلافة الإسلامية، التي تقتل من يعارضها وتهدر دمه بعنوان الخروج على الإسلام " وهذا ما نجده على مر التاريخ، فعندما نلاحظ بني أمية الذين واجهوا أئمة اهل البيت (عليهم ازكى الصلاة والسلام)بشكل عام والإمام السجاد (صلوات الله عليه) بالخصوص؛ فان محور حديثنا حوله (صلوات الله وسلامه عليه)، نجد انهم – أي بني أمية - كانوا ينتهكون الحقوق بشكل سافر وعلني: حقوق الله وحقوق الناس، على حد سواء.

1- انتهاك حقوق الله. من أغرب ما وجدت ان من جملة مبتدعاتهم في انتهاك حق الله تعالى، انتهاك حرمة بيوت الله، وحرمة صلاة الجمعة بالذات، عندما كان يخطب. فالخليفة بزعمهم او الوالي الذي يعينه، كانوا يجلبون له مائدة من الطعام فيخطب قليلا.. ثم يأكل من تلك المائدة الموضوعة إلى جواره والتي تحتوي على لذائذ الأطعمة والأشربة.. ثم يكمل خطبته!! أية مهزلة هذه! واي انتهاك لحرمة المسجد وحرمة خطبة صلاة الجمعة!

ثم انهم عمموا هذه العادة السيئة فسمحوا للمصلين ان يأتوا بما يشاؤون من الطعام، كي يأكلوا منها في أثناء الخطبة. وهذا مثال واحد من المئات بل الآلاف من الأمثلة على انتهاكهم لحقوق الله تعالى.

2- انتهاك حقوق الخلق. ان من المعروف أن (مسلم بن عقبة) والذي اشتهر بـ(مسرف بن عقبة) لأنه أسرف في انتهاك الحرمات وسفك الدماء، أجبر أهل المدينة وفيهم الأخيار والصحابة والتابعون والعلماء والعبّاد، تحت وطأة السيف أن يبايعوا على ان كل واحد منهم عبد قنٌ لأشد خلق الله فسقا وفجورا وانتهاكا للحرمات، وهو يزيد بن معاوية (عليه لعائن الله) ([34]).

ان من الواجب أن نسعى لكي تكون الصحيفة السجادية ورسالة الحقوق (مَعْلَماً) بارزاً ظاهراً لكل بلاد الإسلام، بل لكافة أنحاء المعمورة، وذلك اننا لو دخلنا الى أي بلد في العالم، فان معالم ذلك البلد هي التي ترشد الى ثقافته ودينه، ومستواه العلمي والحضاري. والقضايا الحقوقية معلم من أهم معالم الدين. لكننا –ومع الأسف الشديد– لا نجد هذا (المعْلَم) متجليا في البلاد الاسلامية بشكل واضح، في الوزارات والدوائر والمدارس والشركات والشوارع والازقة، أو حتى في الكتب والمناهج الدراسية. وكان من نتائج ذلك هو ما نراه من هدر الحقوق، وتضييع المصالح العامة، وانتهاك الحرمات، وعلى مختلف المستويات"([35]).

* هذا البحث مستمد من سلسلة محاضرات (دروس في التفسير والتدبر) لسماحة السيد مرتضى الشيرازي المحاضرة(143) و(144
** السيد نبأ الحمامي، باحث ومدرس في الحوزة العلمية في النجف الاشرف

.................................................
([1]) الروم/38.
([2]) البقرة/30.
([3]) ابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب: 3/292
([4]) العلامة المجلسي، بحار الأنوار: 46/105.
([5]) الروم/38.
([6]) محاضرة رقم 143.
([7]) محاضرة رقم 143.
([8]) جمع الزمين أي المصاب بالزمانة، وهي المرض المزمن.
([9]) الشيخ الصدوق، الخصال: 518.
([10]) السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة: 1/630.
([11]) وهي رواية الخصال المتقدمة.
([12]) المحاضرة رقم 143.
([13]) السيد محسن الأمين، لواعج الأشجان: 211.
([14]) الشيخ الصدوق، الخصال: 273
([15]) علي بن أبي الفتح الإربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة: 2/235.
([16]) محاضرة رقم 143.
([17]) محاضرة رقم 143.
([18]) محاضرة رقم 144.
([19]) محاضرة رقم 144.
([20]) الإسراء/70.
([21]) الشريف الرضي، نهج البلاغة: 3/84.
([22]) أحمد بن أعثم الكوفي، الفتوح: 5/117.
([23]) الشيخ الصدوق، الخصال: 518.
([24]) محاضرة رقم 144.
([25]) الاسراء/70.
([26]) الجاثية/13.
([27]) الحشر/6-7.
([28]) ابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب: 1/365.
([29]) الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام: 6/293.
([30]) محاضرة رقم 143. نقلا عن كتاب (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) للسيد محمد الشيرازي(قده).
([31]) الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، الفردوس الأعلى: 86.
([32]) ينظر: الشيخ محمد السند: بحوث معاصرة في الساحة الدولية: 334.
([33]) آل عمران/64.
([34])محاضرة رقم144.
([35]) محاضرة رقم143.

اضف تعليق