تقول الأسطورة أن جلجامش فقد صوابه بعد موت صديقه إنكيدو وبكى عليه بكاء شديداً، ومن شدة حزنه على فراقه وتمسكه به لم يكن راضياً بفكرة دفنه، غير أن الدود بدأ بالخروج من جسده فدفنه، وهم باحثاً عن الخلود والأبدية، حيث لا موت يتسلل ولا غياب يدق أجراس الرحيل، وذلك عبر عشبة أوتونيشتم التي نسيها ذات غفوة فصارت وجبة لإحدى الحيّات، بعد ذلك وصل إلى اليقين بخسارة الخلود.
لسنا هنا بهذا الإستعراض السريع لأقدم ملحمة كُتبت على الرقم الطينية، قبل أكثر من خمسة آلاف سنة من تدوين التأريخ السومري، لسنا نناقش أبعاد هذه الملحمة، فقد كتبت عنها دراسات كثيرة، وتم اقتباس نصوصها في أكثر الأعمال الأدبية والمسرحية والدرامية وغيرها، إلا أننا سنلتقط ثيمة البحث عن الخلود، ونجعلها لازمة رئيسة لكتابتنا في موضوعة المقاربة بين الخلود الحقيقي والخلود الأسطوري .
مما لاشك فيه أن هناك فرقاً بين من يبحث عن الخلود، وبين من يجيء إليه الخلود صاغراً، ولنا في قضية الإمام الحسين عليه السلام، وأبعاد ثورته على الباطل والمبادئ التي انحرفت عن دين جده المصطفى (صلى الله عليه وآله) أمثولة ناصعة البياض على سعي الخلود وإن كان من بوابة الموت المُحتم لأشخاص سيمثلون نقاط ضوء إنساني .. تترنم به الأجيال المتلاحقة ما استمرت الطيور مغردة على شجر المعنى والحقيقة . فالإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه جلسوا في كربلاء بمنتهى الإيمان قبل أن يزحف الخلود إليهم في تلك الظهيرة الملحمة التي قلبت الموازين والمفاهيم رأساً على عقب، بحيث صار الموت ولادة وحياة، والخسارة - وفق المعايير القاصرة - انتصاراً باهراً، وقد عبّر الإمام السجاد عليه السلام عن هذا الإنتصار في جوابه على أحد المبغضين الشامتين والذي سأله عن المنتصر في معركة كربلاء فأجاب عليه السلام : " أذِّنْ وأقم تعرف من هو المنتصر".
وبين سعي جلجامش لعشبته وسعي الخلود بكُلِّيته للحسين الشهيد، ثمة موفدٌ أوفده الإمام بعد أن استلم رسائل الكوفيين المطالبة بتعجيل قدومه بعد أن تولى الأمر فاجر زنديق لاعب بالقردة، وهذا الموفد هو مسلم بن عقيل بن أبي طالب عليه السلام، ذلك الفتى الهاشمي الذي رسّخت خطواته في رحلته الطويلة مبدأ الخلود الذي ينتظر صاحبه على أحر من جمر الرمال الممتدة في الطريق إلى مسرح الأحداث المتباينة في الكوفة .
هاهو مسلم بن عقيل يقبل التحدي مؤمناً بإمام زمانه ومطيعاً، فينطلق واثقاً في هذه الصحراء التي يمكن أن تفتك بكل شيء ماخلا الإيمان والبصيرة، فمن يتربى على أنفاس آل محمد، وعميدهم علي بن أبي طالب عليه السلام تتصاغر أمامه التحديات مهما بلغت قوتها، كيف لا، وهو سليل العائلة التي طهّر الله رموزها من الرجس في كتابه العظيم، أليس هو ابن العارف بأنساب العرب ؟ أليس هو ابن أخ الفارس الذي أبى إلا أن يفتدي الإسلام ودينه ليلة هجرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) متحملاً الأخطار، والهازج في المعارك والميادين : (أنا الذي سمتني أمي حيدرة) ؟، أليس هو ابن أخ الطائر بجناحين في أعلى الفراديس ؟ لماذا إذن الإستغراب والتعجب من قبوله بهكذا مهمة وهو -لاريب- أهل لها وكفء ؟
لم يكن مسلم بن عقيل زاجل الحسين لأهل الكوفة، بل كان زاجله لخلوده المنتظِر ؛ ليدونه بحروف العز والمجد والفخار .
تحت وقع خطاه تلتهب الرمال بشعارات وأصوات لايفك طلاسمها إلا من تجذر الإيمان في قلبه، وإلاّ ليس من السهولة الذوبان في صرخات من قبيل " إن كان دين محمد لم يستقم إلا بقتلي ياسيوف خذيني "، تلك الخلاصة منحت رحلة مسلم قبساً من قبسات انتصار الحق الأكيد .
مع العظماء
جاء في الروايات أن أمير المؤمنين عليه السلام سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : " يارسول الله، إنك لتحب عقيلاً ؟ قال : إي والله إني لأحبه حُبَّين : حُبّاً له، وحُبّاً لحب أبي طالب له، وإن ولده لمقتول في محبة ولدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتصلي عليه الملائكة المقربون، ثم بكى رسول الله حتى جرت دموعه على صدره، ثم قال : إلى الله أشكو ماتلقى عترتي من بعدي " .
في صفين، كان مسلم مع الحسن والحسين عليهما السلام وعبد الله بن بن جعفر بن أبي طالب على ميمنة جيش أمير المؤمنين عليه السلام، ذكر العلامة السيد عبد الرزاق المقرم : " إن رجلاً يراه عمه أمير المؤمنين عليه السلام جديراً بقيادة الجيش يوم صفين فيجعله على الميمنة في صف ولديه الإمامين السبطين عليهما السلام وابن أخيه عبد الله بن جعفر، ويجده سيد الشهداء عليه السلام قابلاً لأهلية الولاية على أعظم حاضرة في العراق (الكوفة)، فيحبوه بالنيابة الخاصة في الدينيات والمدنيات، لابد أن يكون أعظم رجل في العقل والدين والأخلاق حتى لايقع الغمز والطعن فيمن يمثل موقف الإمامة ".
ومن الطبيعي أن يحظى مسلم بن عقيل بكل هذه الخصائص والخصال التي أكدت صبره وإيمانه بقضيته المقدسة وعدالتها وامتداداتها السماوية لدرجة بذل النفس في سبيلها، فتحققت نبوءة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أخبر أمير المؤمنين عليه السلام (فتدمع عليه عيون المؤمنين) وفي ذلك قال الشاعر :
بكتك دماً يابن عم الرسول
مدامع شيعتك السافحة
ولابرحت هاطلات العيون
تُحييك غاديةً رائحة
لأنك لم تَرْوِ من شربةٍ
ثناياك فيها غدت طائحة
بين الإستطلاع وإعلان الثورة
كانت قضية استطلاع أوضاع الكوفة والكوفيين الذين راسلوا الإمام الحسين عليه السلام، هي المهم الرئيسية لمسلم بن عقيل مبعوثاً من ابن عمه السبط الشهيد، فضلاً عن تهيئته للجو العام ؛ لاستقباله، والكتابة له عن أي مستجدات تحدث، بينما تبقى قضية اتخاذ القرار بيد الإمام عليه السلام .
وقد يسأل سائل : مالذي جعل مسلماً يعلن الثورة في الكوفة على طغيان بني أمية وتجبرهم قبل وصول الإمام الحسين ؟ يجب عند الجواب على هذا التساؤل الإشكالي أخذ الظرف المرحلي الذي واجهه مسلم في الكوفة بنظر الإعتبار، فأثناء وجوده فيها كانت جواسيس عبيد الله بن زياد تنتشر وتشتري الذمم من أجل معرفة مكان اختبائه بعد أن صار هاجساً يقض مضاجع الأمويين وذيولهم .
أدرك مسلم عليه السلام أن اكتشاف مكانه وأسر هانئ بن عروة وتعذيبه، وقتله لاحقاً من شأنه ان يعرض النهضة الحسينية للخطر، كما أن هذا الأمر قد يؤدي إلى انفراط عقد المبايعين من الكوفيين وهو ماحصل بالفعل، فضلاً عن إدراكه الخطر المحدق بالإمام الحسين القادم ؛ لذلك كان لابد من أخذ المبادرة وعمل شيء قبل انفلات الأوضاع نهائياً ويصعب بعدها السيطرة على مجريات الأحداث .
وموضوعة إعلان الثورة من قبل مسلم مورد إشكال عند كثير من الذين تناولوا مهمته بحثاً وتحليلاً ، فهؤلاء استندوا على النصوص التي تؤكد أنه مرسل لاستطلاع الأمر فقط دون عمل أي شيء، ومنها ماأورده الشيخ المفيد في هذا الشأن، غير أننا نميل إلى الجواب القائل : إن النصوص التأريخية ليس لها أن تنهض بكامل ماتم الإتفاق عليه بين الإمام الحسين عليه السلام وسفيره للكوفة مسلم بن عقيل، خصوصاً أن ثمة مراسلات أخرى خطية وشفهية جرت بين الطرفين أثناء الرحلة الطويلة، وليس من المنطقي اختصار هذه المسافة الطويلة بنص واحد او اثنين، كما لاننسى أن مسلماً كان فقيهاً، ونشأ قريباً من أجواء العصمة، وخبر طريقة التعامل مع الأحداث والأزمات، فضلاً عن بداية النهضة الحسينية والثورة على السلطة الجائرة لابد أن تحاط أبعادها بالسرية والكتمان ؛ لكثرة جواسيس السلطة، كل هذه الأسباب والعوامل والظروف تدعم موقف مسلم عليه السلام في إعلان الثورة مبكراً .
أخيراً وليس آخراً، تبقى حركة مسلم بن عقيل عليه السلام جزءاً مهماً وحيوياً من القضية الحسينية الأم، وقدمت درساً بليغاً في طاعة الإمام المعصوم والإقتداء به، فسلام عليه موفَداً عظيماً لخلودٍ ماثل وشاخص كشجرة ثابتة، لن تستطيع لعلوّها شيئاً حصاة المبغضين .
اضف تعليق