بقي أميرالمؤمنين متمسكاً بالقيم والمبادئ الدينية رغم كل المحن والصعاب التي اعترضته ودفع ثمن ذلك باهظاً حيث أضب الناس على مخاصمته وعداوته وجرعوه الغصص والويلات حتى سأم القوم وملّهم. وقد جنى من تمسكه بالقيم والمبادئ الأصيلة منها: خرج الناس عليه وحاربوه مدة خلافته وألبوا عليه وكان نتيجة ذلك...
من الذي قتل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟
هل أنّ الذي قتله هو عبدالرحمن ابن ملجم المُرادي لمّا ضربه في محراب الصلاة وهو ساجد لله عزّ وجلّ أو أنّ الذي قتله هو شدّة تمسّكه بالقيم والمبادئ الدينية وتنمّره في ذات الله؟
لاشك أنّ أشقى الآخرين ابن ملجم هو الذي فجع الوجود بقتل أميرالمؤمنين (عليه السلام) بضربته الشقيّة وأيتم الكون بشهادته الأليمة، ولكن هذا الأمر هو العلّة الأخيرة من الشهادة وقد سبقتها علل أخرى لا تقل أهمية عنها.
ولقائل أن يقول: ما هي تلك العلل التي ساهمت في قتل أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟
الجواب: لقد قُتل الإمام علي (عليه السلام) جراء تمسّكه بالحق والقيم وعدم أخذه في ذلك لومة لائم.
وبعبارة أخرى شدّة التزام أميرالمؤمنين (عليه السلام) بالقيم والمبادئ الدينية هو الذي قاده إلى هذه الشهادة الفجيعة، والشواهد على ذلك كثيرة ومنها:
فقد صرّح أميرالمؤمنين (عليه السلام) في خطبة له عن شدة التزامه بالقيم الدينية بحيث إنهم كانوا يقتلون أقرب الناس منهم، فقال: ولقد كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) نقتل آبائنا وأبنائنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضياً على اللقم، وصبراً على مضض الألم، وجهدا على جهاد العدد (1).
وفي دعاء الندبة الشريف نقرأ ما يدل صريحاً على أنّ التزام الإمام علي (عليه السلام) بالقيم والمبادئ هو الذي قاد إلى شهادته، فنقول: وكان بعده هدى من الضلال، ونوراً من العمى، وحبل الله المتين، وصراطه المستقيم، لا يسبق بقرابة في رحم ولا بسابقة في دين، ولا يلحق في منقبة من مناقبه، يحذو حذو الرسول (صلى الله عليهما وآلهما)، ويقاتل على التأويل، ولا تأخذه في الله لومة لائم، وقد وتر فيه صناديد العرب وقتل أبطالهم، وناوش ذؤبانهم، وأودع قلوبهم أحقاداً بدرية وخيبرية وحنينية وغيرهن، فأضبّت على عداوته وأكبّت على منابذته حتى قتل الناكثين و القاسطين والمارقين، ولما قضى نحبه وقتله أشقى الأشقياء من الأولين والآخرين يتبع أشقى الأولين (2).
بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
بقي الإمام علي (عليه السلام) خمساً وعشرين عاماً بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يدفع ثمن صرامته في الحق وعدم تنازله عن المبادئ والقيم حيث أعرضت الأمة عنه ونحّت الخلافة إلى غيره، فصار جليس الدار مشتغلاً بالعبادة والقرآن.
يقول ابن أبي الحديد: سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد (رحمه اللّه)، فقلت له: إنّي لأعجب من علي (عليه السلام) كيف بقي تلك المدة الطويلة بعد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وكيف ما اغتيل وفتك به في جوف منزله مع تلظّي الأكباد عليه.
فقال: لولا أنّه أرغم أنفه بالتراب ووضع خدّه في حضيض الأرض لقتل ولكنه أخمل نفسه واشتغل بالعبادة والصلاة والنظر في القرآن وخرج عن ذلك الزي الأول وذلك الشعار ونسي السيف وصار كالفاتك يتوب ويصير سائحا في الأرض أو راهبا في الجبال ولما أطاع القوم الذين ولوا الأمر وصار أذل لهم من الحذاء تركوه وسكتوا عنه ولم تكن العرب لتقدّم عليه إلاّ بمواطاة من متولّي الأمر وباطن في السر منه، فلمّا لم يكن لولاة الأمر باعث وداع إلى قتله وقع الإمساك عنه ولولا ذلك لقتل (3).
رفض الخلافة لأجل القيم
لمّا أوشك عمر بن الخطاب على الممات جعل أمر الخلافة في ستة أشخاص على أن يكون حسم الأمر عند اختلافهم بيد عبدالرحمن بن عوف.
وكان أول هؤلاء الستة الذين عرض عليهم عبدالرحمن بن عوف الخلافة هو أميرالمؤمنين (عليه السلام) ولكنه رفضه قبولها لأن قبول الخلافة بتلك الكيفية كان يخالف المبادئ والقيم الدينية.
يقول أبو وائل، قال: قلت لعبد الرحمن بن عوف: كيف بايعتم عثمان وتركتم علياً؟
قال: ما ذنبي، قد بدأت بعلي، فقلت: أبايعك على كتاب الله وسنّة رسوله وسيرة أبي بكر وعمر، قال: فقال فيما استطعت، قال: ثم عرضتها على عثمان فقبلها (4).
حتى لو طُلّقت به النساء
في أول يوم استلم به خلافة المسلمين خطب فيهم، فقال: ألا وكل قطعة أقطعها عثمان أو مال أعطاه من مال الله فهو رد على المسلمين في بيت مالهم فإنّ الحق لا يذهبه الباطل والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو وجدته قد تزوج به النساء وتفرق في البلدان لرددته على أهله، فإنّ في الحق والعدل لكم سعة ومن ضاق به العدل فالجور به أضيق (5).
مع شاعره النجاشي
روي أنّ النجاشي شاعر أميرالمؤمنين (عليه السلام) بصفين شرب الخمر في أول يوم من شهر فحدّه الإمام (عليه السلام)، فغضب لذلك من كان مع الإمام من اليمانية، وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب بن أسامة النهدي، فدخل على أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنّا نرى أن أهل المعصية والطاعة وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيان في الجزاء، حتى رأيت ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرت صدورنا، وشتّت أمورنا، وحملتنا على الجادّة التي كنّا نرى أنّ سبيل من ركبها النار.
فقال الإمام علي (عليه السلام): (وَإِنَّها لَكَبيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعين) (6)، يا أخا بني نهد، وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفارته، إنّ الله تعالى يقول: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبيرٌ بِما تَعْمَلُون) (7) (8).
مع أخته أُمّ هاني
روى الشيخ المفيد (رحمه الله) عن ابن دأب -في حديث طويل- أنّ أمّ هاني أخت أميرالمؤمنين (عليه السلام) دخلت عليه فدفع إليها عشرين درهماً، فسألت أم هاني مولاتها العجمية، فقالت: كم دفع إليك أميرالمؤمنين؟
فقالت: عشرين درهماً.
فانصرفت مسخطة.
فقال لها الإمام علي (عليه السلام): انصرفي رحمك الله، ما وجدنا في كتاب الله فضلاً لإسماعيل على إسحاق (9).
عند تفرّق الناس عنه
روى أعلام الطائفة ومنهم الشيخ الكليني والمفيد والطوسي (رحمهم الله) أنّه أتى أميرالمؤمنين (عليه السلام) رهط من الشيعة -عند تفرق الناس عنه- وفرار كثير منهم إلى معاوية طلباً لما في يديه من الدنيا، فقالوا: يا أميرالمؤمنين أعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن يخاف خلافه عليك من الناس، وفراره إلى معاوية.
حتى إذا استوسقت الأمور عدت إلى أفضل ما عودك الله من القسم بالسوية والعدل في الرعية.
فقال أميرالمؤمنين (عليه السلام): ويحكم أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه من أهل الإسلام؟
لا والله، لا يكون ذلك ما سمر السمير، وما رأيت في السماء نجماً.
والله لو كانت أموالهم مالي لساويت بينهم، فكيف وإنما هي أموالهم (10).
مع قمبر الخادم
روى أنّ قنبراً قدّم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) جامات من ذهب وفضة في الرحبة، وقال: إنك لا تترك شيئاً إلا قسّمته، فخبأت لك هذا.
فسل سيفه، وقال: ويحك لقد أحببت أن تدخل بيتي ناراً، ثم استعرضها بسيفه فضربها حتى انتثرت من بين إناء مقطوع بضعة وثلاثين، وقال: عليّ بالعرفاء، فجاءوا، فقال: هذا بالحصص وهو يقول:
هذا جناي وخياره فيه --- وكل جان يده إلى فيه (11).
رفض أن يمنعهم الماء
عمد معاوية بن أبي سفيان في حرب صفين إلى قطع الشريعة على أميرالمؤمنين (عليه السلام) وأصحابه، فكشفهم جند الإمام عن الشريعة واستولوا عليها، فقال معاوية لعمرو بن العاص: يا أبا عبد الله ما ظنك بالرجل (يعني بالرجل عليا عليه السلام) أتراه يمنعنا الماء لمنعنا إيّاه وقد انحاز بأهل الشام إلى ناحية في البر نائيا عن الماء؟
فقال له عمرو: لا، إنّ الرجل جاء لغير هذا وإنه لا يرضى حتى تدخل في طاعته أو يقطع حبال عاتقك، فأرسل إليه معاوية يستأذنه في وروده مشرعته واستقاء الناس من طريقه ودخل رسله عسكره، فأباحه على كل ما سأل وطلب منه (12).
ماذا جنى الإمام علي (عليه السلام) من التمسّك بالقيم؟
بقي أميرالمؤمنين (عليه السلام) متمسكاً بالقيم والمبادئ الدينية رغم كل المحن والصعاب التي اعترضته ودفع ثمن ذلك باهظاً حيث أضب الناس على مخاصمته وعداوته وجرعوه الغصص والويلات حتى سأم القوم وملّهم.
وقد جنى أميرالمؤمنين (عليه السلام) من تمسكه بالقيم والمبادئ الأصيلة عدة أمور ومنها:
1- خرج الناس عليه وحاربوه مدة خلافته وألبوا عليه وكان نتيجة ذلك ثلاثة حروب طاحنة وهي حرب الجمل وصفين والنهروان.
2- تركوا نصرته حتى آل الأمر به أن يتمنّى أن يبدله الله من هم خيرا منهم، قال (عليه السلام): فرّق الله بيني وبينكم، وأعقبني بكم من هو خير لي منكم، وأعقبكم من هو شر لكم مني.. والله لوددت أن لي بكل عشرة منكم رجلاً من بني فارس بن غنم صرف الدينار بالدرهم (13).
3- فرّوا إلى أعدائه: وممّن فرّ إلى معاوية هم: النجاشي شاعره، ومصقلة لن هبيرة، ويزيد بن حجبة وهو من وجوه أصحابه (عليه السلام)، وخالد بن معمر وغيرهم.
مجمل هذه الأمور جعلت يتمنّى فراقهم ويصرّح بملله منهم فكان يقول: اللهم إني قد مللتهم وملّوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني من هو خير لي منهم وأبدلهم بي من هو شر لهم منّي (14).
بل بلغ به المقام (عليه السلام) أن يترقّب الموت والشهادة ترقّب الولهان، فيقول: متى تُخضب هذه- ويسير إلى لحيته- من هذه أي قمّة رأسه (15).
ولذلك لمّا ضربه أشقى الآخرين يتبع أشقى الآخرين قال مقولتها الخالدة: فزتُ وربّ الكعبة.
فسلام الله عليك يا أبا الحسن يوم ولدت، ويوم عشت مظلوماً، ويوما قُتلت شهيداً.
اضف تعليق