فمسألة الغيبة هي أم المسائل العقائدية والفكرية والدينية والتربوية والحضارية لهذه الأمة، والتكامل في انتظار ذلك الإمام الهمام الذي ننتظره، ونأمل ظهوره وفرجه ليقيم دولة الأنبياء والأوصياء وكل الشرفاء وأمل كل المستضعفين والمساكين والفقراء في هذا الكون الذي ضاع فيه الإنسان وفقد قيمه وإنسانيته وحقوقه وحتى أخلاقه تحت بريق...
ولد الإمام محمد المهدي المنتظر في يوم الجمعة 15 شعبان سنة 255 هـ في سامراء
مقدمة دينية
الدِّين ليس كلمة طارئة على فكر وعقل الإنسان أبداً، بل الدِّين مغروس في صميم الإنسان ومتركِّب عليه عقله وفكره ووجوده كله، لأن الدِّين مسألة فطرية قد عجنت به طينته، وعليه تكونت نطفته، وانعقدت بدايته، وإلا فما كان أحد يعرف ربه ومعبوده فتراه تائهاً هائماً يعبد هواه أو مَنْ يخيفه، أو يرزقه، أو يستهويه كما نرى ونسمع ونقرأ عن بعض المعبودات التي نخجل منها عندما نقرأ عنها، ونحمد الله على نعمة الإسلام العظيم الذي جعلنا أهلاً لحمل رسالة التوحيد، فشرَّفنا بهذا التكليف حيث عدَّنا من العقلاء وإلا فإن الإنسان البعيد عن التوحيد هو كالأنعام بل أضلُّ سبيلاً حقيقة وليس مجازاً، فأي فكر يجعلك تعبد شخصاً مثلك؟ وأي ضلالة أبعد من أن يعبد أحدهم شجرة، أو حجرة، أو بقرة، أو حتى جرذاً، أو حيَّة، أو حتى فلفلاً حاراً أو يعبد ما هو أذلُّ وأخزى من ذلك كله أليس هذا سفاهة وضلالة ما بعدها ضلالة ولا سفاهة؟
والدِّين ليس لعبة بيد البشر كما يفعل أحبار اليهود، أو كهان النصارى فيؤلفون ويزيدون وينقصون على هواهم وكأن الدين دينهم وليس دين الله تعالى لأنهم: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء) (المائدة: 64) فغلُّوا يد الله -والعياذ بالله- ليطلقوا أيديهم الآثمة فيغيِّروا ويبدِّلوا كما يشاؤون وكأن الدِّين لعبة بين أيديهم وهو كالعجينة يصنعون منه ما يشاؤون من فتاوى وحلال وحرام وأحكام ما أنزل الله بها من سلطان لأنهم يقولون: لا شأن لله بأمور العباد فهو جلس على الكرسي وترك لنا تدبير شؤون خلقه.
أبداً الدِّين دين الله تعالى، وهو الذي يحدد العقائد والأحكام والحلال والحرام والعبادات والمعاملات والإيقاعات ولم يترك شاردة ولا واردة إلا وأعطى فيها حكماً يعرفه العلماء الفقهاء المأمونون على دين الناس وعقائدهم، وهم لا يقولون في دين الله إلا بعلم، ولا يفتون إلا بفقه مأخوذ من القرآن الحكيم، أو السُّنة المطهرة، ولديهم العقول المنارة بالوحي المقدس الذي يسدِّدهم ويؤيدهم إذا اشتبهت عليهم مسألة من المسائل.
الغيبة من الدِّين
هذه مسألة طال الحديث عنها منذ أن غاب عن هذه الأمة رسولها الأكرم المصطفى محمد (ص) فظنوا أنه انتهت مهمته ويمكن أن يفعلوا كما فعل بنو إسرائيل من قبل، وهم الذين قال لهم رسول الله (ص) محذراً مراراً: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن قَبْلَكُمْ شِبْرًا بشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بذِرَاعٍ، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قالَ: فَمَنْ؟). (صحيح البخاري: ح 3456 ومسلم: ح 2669 والحديث صحيح)
وقال لبعض الصحابة عندما كان يترك رسول الله (ص) ويذهب إلى اليهود ليتعلَّم منهم ويكتب عنهم: (يا رسولَ اللهِ، إنَّ أهلَ الكِتابِ يُحدِّثونَنا بأحاديثَ قد أخَذَتْ بقُلوبِنا، وقد هَمَمْنا أنْ نَكتُبَها، فقال: أ مُتَهَوِّكون (متحيرون) أنتُم كما تَهَوَّكَتِ اليهودُ والنَّصارى؟ أمَا والذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بِيَدِه لقد جِئتُكُم بها بَيضاءَ نَقيَّةً، ولكنِّي أُعطيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ، واخْتُصِرَ لي الحَديثُ اختِصاراً). (شعب الإيمان: ح 178)
ولكنهم لم يسمعوا كلام ونصيحة رسول الله (ص) إليهم وتركوا أميرهم الذي عيَّنه الله لهم ونصَّبه رسول الله (ص) وبايعوه في يوم غدير خم، قبل أن ينتقل رسول الله إلى الرفيق الأعلى، ولم يقولوا كاليهود والنصارى بل عملوا كما عمل أولئك الأشقياء عندما ذهب رسولهم إلى مناجاة الرَّب وترك فيهم أخاه النبي هارون (ع) إلا أنهم تركوا هارون واتبعوا السَّامري الذي ضحك عليهم فأخذ منهم ذهب نسائهم وحليهم وصنع لهم عجلاً من الذهب والجواهر والأحجار الكريمة وقال لهم: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ) (طه: 88)
حتى رجع موسى (ع) وهو في حالة من الحزن والأسف: (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي) (طه: 86)، وذهب إلى أخيه هارون يعاتبه: (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (طه: 94)
فما حال هذه الأمة لو رجع إليهم رسولهم بعد أسبوع وليس أربعين يوماً كما كانت غيبة موسى (ع)، وهنا هذه الغيبة التي كانت الأولى معلومة ثم كانت العشرة الثانية مستأنفة ومجهولة من الله تعالى أليست لحكمة يريدها الله تعالى لاستكمال الامتحان والفتنة لهذا الخلق؟
أليست هي غيبة صغيرة نستدلُّ من خلالها على سُنَّة ربانية حاكمة على حياة البشرية منذ أبيهم آدم (ع) وحتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها؟ أليس الله حكيماً في كل أقواله وأفعاله؟ فكيف يجعل النبي يغيب عن قومه ثم يفتنهم بعالِم من العلماء الذين عبدوا أنفسهم واتَّبعوا أهواءهم ليكون شاهداً على تلك السُّنة الربانية، ودليلاً عليها وعلى الحكمة على غيبة كل نبي أو ولي عن قومه؟
فكيف إذا عرفنا -من خلال دراسة تاريخ وقصص الأنبياء- أنهم جميعاً كان لهم غيبة أو أكثر عن أقوامهم فهل هي بلا حِكمة ولا دليل على غيبة غيرهم من الأولياء؟ وإذا كانت السُّنة ثابتة عقلاً ونقلاً كتاباً وسُنَّة ألا يدلُّ ذلك على صدق ومشروعية غيبة الإمام الحجة بن الحسن (ع) مهدي هذه الأمة ونحن نعيش فيها ونرى بأم العين هذا الضلال الذي يشيب منه الطفل الرضيع، ثم هذا الاختلاف بين نحل الناس ومللهم وكل منهم يدَّعي وصلاً بليلاه ولا أحد منهم يصل أو يتصل بربه سبحانه وتعالى.
الغيبة ضرورة تربوية
وهذه السُّنة الربانية هي ضرورة تربوية من أجل تربية النبي والولي على قيم السماء الإلهية هذا من جهة عليا، وأما من جهة أخرى هي ضرورة تربوية للأمة والناس على أن يغيب عنهم رسولهم امتحاناً واختباراً وفتنة لهم ليعلموا كم يصمدوا في غيبته عنهم؟ وكم يتمسَّكوا بالقيم الإلهية السماوية من بعده وهل سيكونون كبني إسرائيل الذين خرجوا جميعاً من الدِّين ولم يبقَ إلا هارون النبي والولي متمسِّكاً بالدِّين والباقي اتبعوا السَّامري وعبدوا العجل الذَّهبي حيث قال ربنا على لسان رسول الله إليهم موسى الكليم (ع): (قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة: 25)، وذلك عندما غاب عنهم أربعين ليلة فقط فكيف إذا عرفوا بأن غيبته أبدية بالموت، كما حصل لهذه الأمة الإسلامية عندما كان يخبرها رسول الله (ص) منذ حجة الوداع ويقول لها مراراً وفي كل مناسبة: (فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيب وَأَنَا تارِكٌ فِيكُمُ اَلثَّقَلَيْنِ أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فيهِ اَلْهُدَى وَاَلنُّورُ فَخُذُوا بكِتَابِ اللّهُ وَاِسْتَمْسِكُوا بِهِ فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللّهُ وَرَغَب فِيهِ ثُمَّ قَالَ: وَأهل بيتي أُذَكِّرُكُمُ اللَّه فِي أهل بيتي (ثلاثاً). (حديث متواتر عند الفريقين)
فهل انتظرته حتى غاب عنها غيبته الكبرى بالوفاة أو أنها استعجلت وفاته ورحيله فذهب إلى ربه شهيداً مسموماً مظلوماً كما تؤكد الروايات التاريخية التي يروونها بأنه مات مسموماً من يوم خيبر، ولكن نحن نعتقد أن حلفاءهم من قريش هم الذين سقوه السَّم باسم الدَّواء وقالوا مقولتهم التي يأباها العلم والمنطق والدِّين والقرآن الكريم، ويقبل قولنا ويؤيده قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144)
والله سبحانه ليس عنده في علمه تردد ولكن التردد في عمل هذه الأمة التي ترددت حتى تردَّت في حفرتها وانتكاستها وعودتها إلى الجاهلية الأولى التي أنقذهم منها رسول الله (ص) برحمته ورفعهم الإسلام بعظمته وكتابه الذي أنزله الله ليخرجهم من الظلمات والجهل والتخلف إلى أنوار العلم والتقدم والحضارة.
الغيبة ضرورة حضارية
والغيبة ضرورة حضارة كما أنها ضرورة تربوية إذ أن هذه الأمة الجاهلية المتخلفة التي رباها الرسول الأكرم على قيم القرآن الحكيم، قامت من كبوتها، واستيقظت من غفلتها وقامت تبني دولتها وحضارتها على قيم السماء والحق والعدالة والقسط، حيث استبدل الرسول الأكرم قيم الجاهلية الجهلاء حيث كان يسودهم القتل والغزو المتبادل فيما بينهم فكانوا شِعَارهمِ الْخَوْفِ ودِثَارهمِ السَّيْفِ، أو كما وصفتهم سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) في خطبتها الفدكية: (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ).. وأما عن أديانهم ومعبوداتهم فقد كانوا سفهاء يعبدون الحجر وأخشاب الشجر حيث وصفتهم بقولها: (فَرَأى الأُمَمَ فِرَقاً في أدْيانِها، عُكَّفاً على نيرانِها، عابِدَةً لأَوثانِها، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفانِها.. فَأَنارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) ظُلَمَها، وكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَها، وَجَلّى عَنِ الأَبْصارِ غُمَمَها، وَقَامَ في النّاسِ بِالهِدايَةِ، وأنقَذَهُمْ مِنَ الغَوايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ العَمايَةِ، وهَداهُمْ إلى الدّينِ القَويمِ، وَدَعاهُمْ إلى الطَّريقِ المُستَقيمِ).
فالغيبة الطويلة لرسول الله (ص) سواء كانت في حضوره بينهم ولا يعرفوه إلا أنه محمد بن عبد الله ويتيم أبو طالب، أو أنه في شِعب أبي طالب محاصراً من قريش يمنعون عنه الطعام والشراب ولو استطاعوا لمنعوا عنه الماء والهواء لأنه يريد أن ينقذهم من تخلفهم وجهلهم، ويرفعهم في مدارج العلم والكمال ليبلغوا ذرى المجد والكرامة والحضارة الإنسانية الراقية، لأن الحضارة هي تجميع أمة على مجموعة من القيم التي تنهض بهم وتبني لهم مستقبلهم الذي ينشدونه ويعملون لبنائه على تلك القيم الراقية، وأي قيم أرفع وأسمى من قيم السماء التي جاء بها الرسول الخاتم محمد بن عبد الله (ص) للعرب ثم من خلالهم إلى الناس جميعاً؟
إن ما جاء به الإسلام ونزل به القرآن الحكيم يمثل أرقى وأسمى وأعلى القيم الإنسانية ولذا وخلال عقد من الزمان فقط عشر سنوات رفع تلك الأمة الجاهلية التي كانت في أسفل السافلين بالنسبة لبقية الأمم والحضارات من حولها لا سيما فارس في الشرق، وبيزنطة في الشمال، والحبشة في الجنوب لتنهض وتبني مدنية وحضارة تناطح تلك الحضارات بل وتنتصر عليها كلها، وما كان ذلك بقوة العرب وفكرهم وقيمهم الجاهلية أبداً لأن هذه كانت موجودة من قبل، بل بما أضافه على تلك المنظومة الحضارية الإسلام والقرآن وطبَّقه عليهم الرسول الأكرم (ص) عملياً في حياته وأرادهم أن يسيروا على نفس المنهج والرسالة من بعد وفاته ولذا بيَّن لهم قائدهم وسيدهم وإمامهم وأمرهم بالاقتداء به إذا أرادوا أن يبنوا تلك الحضارة الإنسانية الكونية، لأن كتابهم العظيم القرآن الحكيم كان يقول لهم: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (الرحمن: 33)، ولكن مَنْ يستطيع أن ينفذ من أقطار السماوات والأرض إلا العالِم، لأنهم قالوا: أن السلطان هو سلطان العلم، ولم يكن فيهم أحد إلا ذاك العالِم الذي لا يجهل والإمام الذي عيَّنه لهم رسول الله (ص) وأخذ منهم البيعة له وقال: هذا وليكم وقائدكم وإمامكم فاسمعوا له وأطيعوا بالعشرات من الأحاديث والروايات، إلا أنهم تآمروا عليه عندما غاب عنهم وعن سقيفتهم المشؤومة ولاذ برسول الله (ص) يقوم بواجبه تجاهه، وأما هم فما كانوا يشعرون بأي واجب تجاه رسول الله بل واجبهم كان يحتِّم عليهم أن يتآمروا على رسالته وقيمه الحضارية ليسيطروا على مقدرات الأمة وينصبوا أنفسهم سلاطين وحكاماً على الناس.
فالوحيد الذي علمه رسول الله (ص) ألف باب من العلم يفتح لك من كل باب ألف باب هو الذي يقف على منبر المسجد ويخاطبهم ويقول: (سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب الله، فما من آية إلا وأعلم حيث نزلت، بحضيض جبل أو سهل أرض، وسلوني عن الفتن فما من فتنة إلا وقد علمت كونها ومن يقتل فيها)، فمَنْ يجرؤ أن يقول سلوني إلا أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي غيَّبوه عن واقع الأمة لربع قرن، ثم لما ألجأتهم الفتنة التي اصطنعوها جاؤوا إليه زاحفين ليقوهم ويعيدهم إلى سابق عهدهم ومجدهم الذي راح يترنح مؤذناً بالسقوط في أحضان الشجرة الملعونة في القرآن الأموية البغيضة.
والعجيب أنه لا يوجد شخص إلى الآن وبعد أكثر من أربعة عشر قرناً يجرؤ أن يقول مقالة الإمام علي الذي لم يتعلَّم عند أحد، ولم يتتلمذ عن مخلوق إلا عند رسول الله (ص) النبي الأمي الذي يقولون عنه إلى الآن: (بأنه لا يجيد أن يقرأ ويكتب)، فكيف علَّم وصنع وربَّى مثل هذا الإنسان الذي لا نظري له ولا شبيه في التاريخ البشري كله، ورغم ذلك سعوا إليه في محراب صلاته وضربوه بسيف البغي والجهل والتخلف ليعودوا أدراجهم إلى الجاهلية الأموية التي أنقذهم الله منها بسيفه وعلمه وحلمه وصبره على فظاظتهم وسوء أخلاقهم.
حكمة الغيبة المهدوية
وبناء على كل ما تقدم من الحديث عن هذه السُّنة الرَّبانية في هذه الخليقة فلماذا يستنكر على المؤمنين والموالين الإيمان بالغيبة والقول بأنها حق ولها غايات تربوية وحضارية من أجل إكمال سُنة الامتحان والابتلاء والفتنة في هذه الحياة؟ فأين الغلط فيها حين نقول ونؤمن بها؟ وأين الخلل في مَنْ يعتقدها وينتظر خروج الحجة الغائب ليقيم دولة الحق والعدل المنتظرة التي بشَّر بها القرآن الحكيم، وطالما تحدث عنها الرسول الكريم (ص) في كثير من الروايات الثابتة والصحيحة في كتب القوم، والذين تتبعوا أحوال الإمام الخاتم والحجة الغائب عن الأمة قالوا بأنها بلغت ستة آلاف رواية وحديث؟ فكيف لمثل هذه الحادثة والحديث أن يتطرق إليه الشك والريب؟
الغيبة حق وحقيقة واضحة في تاريخ الأنبياء جميعاً وسأنقل إليك -أيها العزيز- حديثاً واحداً عن غيبة النبي العربي صالح (ع) عن قومه لما فيه من بيان عن علَّة الغيبة وفلسفتها الربانية في الأمة، عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع) قَالَ: (إِنَّ صَالِحاً (ع) غَابَ عَنْ قَوْمِهِ زَمَاناً، وَكَانَ يَوْمَ غَابَ عَنْهُمْ كَهْلًا مُبْدَحَ الْبَطْنِ حَسَنَ الْجِسْمِ وَافِرَ اللِّحْيَةِ خَمِيصَ الْبَطْنِ خَفِيفَ الْعَارِضَيْنِ مُجْتَمِعاً رَبْعَةً مِنَ الرِّجَالِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ لَمْ يَعْرِفُوهُ بِصُورَتِهِ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ: طَبَقَةٌ جَاحِدَةٌ لَا تَرْجِعُ أَبَداً، وَأُخْرَى شَاكَّةٌ فِيهِ، وَأُخْرَى عَلَى يَقِينٍ فَبَدَأَ (ع) حَيْثُ رَجَعَ بِالطَّبَقَةِ الشَّاكَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا صَالِحٌ فَكَذَّبُوهُ وَشَتَمُوهُ وَزَجَرُوهُ وَقَالُوا: بَرِئَ اللَّهُ مِنْكَ إِنَّ صَالِحاً كَانَ فِي غَيْرِ صَورَتِكَ.
قَالَ: فَأَتَى الْجُحَّادَ فَلَمْ يَسْمَعُوا مِنْهُ الْقَوْلَ وَنَفَرُوا مِنْهُ أَشَدَّ النُّفُورِ، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى الطَّبَقَةِ الثَّالِثَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْيَقِينِ فَقَالَ لَهُمْ: أَنَا صَالِحٌ، فَقَالُوا: أَخْبِرْنَا خَبَراً لَا نَشُكُّ فِيكَ مَعَهُ أَنَّكَ صَالِحٌ فَإِنَّا لَا نَمْتَرِي أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْخَالِقُ يَنْقُلُ وَيُحَوِّلُ فِي أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ وَقَدْ أَخْبَرَنَا وَتَدَارَسْنَا فِيمَا بَيْنَنَا بِعَلَامَاتِ الْقَائِمِ إِذَا جَاءَ وَإِنَّمَا يَصِحُّ عِنْدَنَا إِذَا أَتَى الْخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ
فَقَالَ لَهُمْ صَالِحٌ: أَنَا صَالِحٌ الَّذِي أَتَيْتُكُمْ بِالنَّاقَةِ، فَقَالُوا: صَدَقْتَ وَهِيَ الَّتِي نَتَدَارَسُ فَمَا عَلَامَتُهَا فَقَالَ: لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، قَالُوا: آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِمَا جِئْتَنَا بِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ، فَقَالَ أَهْلُ الْيَقِينِ: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا وَهُمُ الشُّكَّاكُ وَالْجُحَّادُ إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. (الأعراف: 76 و 77)
قُلْتُ: هَلْ كَانَ فِيهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ عَالِمٌ بِهِ؟ قَالَ: اللَّهُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَ الْأَرْضَ بِلَا عَالِمٍ يَدُلُّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَقَدْ مَكَثَ الْقَوْمُ بَعْدَ خُرُوجِ صَالِحٍ سَبْعَةَ أَيَّامٍ عَلَى فَتْرَةٍ لَا يَعْرِفُونَ إِمَاماً غَيْرَ أَنَّهُمْ عَلَى مَا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةٌ فَلَمَّا ظَهَرَ صَالِحٌ (ع) اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا مَثَلُ الْقَائِمِ (ع) مَثَلُ صَالِحٍ). (كمال الدين للصدوق: ص173)
نعم؛ مثل الإمام الحجة بن الحسن مهدي هذه الأمة (عليه السلام) مثل كل الأنبياء والأوصياء والحجج الذين غابوا عن أممهم ليمتحنهم الله به ويختبر إيمانهم وهل يخرجون من الدِّين والملة كما فعل اليهود، أو يشكون في وجوده كما الكثير من أبناء هذه الأمة حيث ينكرون وجود الإمام أصلاً وفصلاً رغم ما يجدونه في القرآن الحكيم من آيات تشير إليه، أو السُّنة المطهرة من روايات متواترة تتحدَّث عنه وعن قيامه في آخر الزمان ليقيم دولة الحق والعدل التي ينتظرها البشرية منذ أن هبط آدم (ع) من الجنة إلى هذه الأرض حيث الفساد والجريمة كل يوم تتشر أكثر والظلم يفشو فيها بشكل عجيب ولا أحد يرتدع من هؤلاء الطغاة في كل زمان ومكان فمتى ومَنْ يرث الأرض ومَنْ عليها إذن؟
ولهؤلاء المنكرين أو الجاحدين أسأل أين السيد المسيح (ع) الذي رفعه الله إليه منذ ألفي سنة؟ أليس هو في حجاب الغيبة وينتظر الإذن له بالرجوع والعودة إلى الأرض؟ وعندما يعود هل سيكون هو القائد وترجع هذه الأمة كلها مسيحية، والرسول الأكرم يقول في أكثر من مناسبة: لو أن أخي موسى وعيسى يرجعان ويعودان ما وسعهما إلا طاعتي والكون تحت رايتي لأنه صاحب الدِّين الخاتم والكامل وبه تمَّت النِّعمة على البشرية؟
فالأمة الإسلامية لن ترجع إلى الوراء أيها العقلاء بل الأمم السابقة ستلحق بها وكل الأنبياء والأولياء الذين هم في حجاب الغيبة سيعودون ويكونون من هذه الأمة كالخضر الأخضر، والسيد المسيح وغيرهم ممن غابوا عن عيون الناس ولكنهم في مكان ما يراقبون تطور وتقدم هذا الكون بالفساد والطغيان إلى أن يملأوها ويحق عليهم قوله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، حيث ظهر الفساد في كل شيء، وعندما تكون المصلحة تقتضي قيام دولة الحق والعدل فإن الله أعدَّ لهذه الدولة العالمية والحكومة الكونية الإمام المهدي المنتظر (عج) فأين البدعة في ذلك، والروايات تقول عن ابن عباس قال (ص): (الْمَهْدِيُّ الَّذِي يَمْلَؤُهَا قِسْطاً وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً -وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ نَبِيّاً- لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فِيهِ وَلَدِيَ الْمَهْدِيُّ فَيَنْزِلَ رُوحُ اللَّهِ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ فَيُصَلِّيَ خَلْفَهُ وَتُشْرِقَ الْأَرْضُ بِنُورِهِ، وَيَبْلُغَ سُلْطَانُهُ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ). (كمال الدِّين: 280)
والإمام محمد الجواد يقَولَ: (إِنَّ الْقَائِمَ مِنَّا هُوَ الْمَهْدِيُّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُنْتَظَرَ فِي غَيْبَتِهِ وَيُطَاعَ فِي ظُهُورِهِ وَهُوَ الثَّالِثُ مِنْ وُلْدِي وَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّداً (ص) بِالنُّبُوَّةِ وَخَصَّنَا بِالْإِمَامَةِ إِنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ وَاحِدٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ حَتَّى يَخْرُجَ فِيهِ فَيَمْلَأَ الْأَرْضَ قِسْطاً وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَظُلْماً وَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيُصْلِحُ لَهُ أَمْرَهُ فِي لَيْلَةٍ كَمَا أَصْلَحَ أَمْرَ كَلِيمِهِ مُوسَى (ع) إِذْ ذَهَبَ لِيَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَاراً فَرَجَعَ وَهُوَ رَسُولٌ نَبِيٌّ). (كمال الدِّين: 377)
فمسألة الغيبة هي أم المسائل العقائدية والفكرية والدينية والتربوية والحضارية لهذه الأمة، والتكامل في انتظار ذلك الإمام الهمام الذي ننتظره، ونأمل ظهوره وفرجه ليقيم دولة الأنبياء والأوصياء وكل الشرفاء وأمل كل المستضعفين والمساكين والفقراء في هذا الكون الذي ضاع فيه الإنسان وفقد قيمه وإنسانيته وحقوقه وحتى أخلاقه تحت بريق الحضارة المادية الرقمية التي تعملق كل الشيء فيها إلا القيم الروحية والفضائل الإنسانية فقد سُحقت تماماً وكادت أن تنمحي من الوجود لولا بقايا هؤلاء السُّعداء الذين يؤمنون بالمهدي وينتظرونه بفارغ الصبر ويدعون الله ليلهم ونهارهم بتعجيل فرجه وفرجهم ليعيشوا السعادة الجنانية في هذه الأرض.
وما أحوج هذه الأمة في هذا العصر الأغبر لهذا الإيمان بهذه الغيبة، واليقين بصاحبها المنتظر للنهوض والتقدم واللحاق في مدارج الحضارة الرقمية التي تبشِّر بقرب الظهور المقدس لأن دولة الإمام الحجة هي دولة حضارية راقية جداً ربما كانت لا تخطر على قلب البشر قديماً ولكن في هذا العصر صرنا نتكلم بقوة ونستدل بما في أيدينا من روايات تتحدث عن تلك الدولة الكريمة، وأبسط شيء فيها أن الإمام (ع) أو الله تعالى: (إِذَا قَامَ قائمنا وَضَعَ اللَّهُ يَدَهُ عَلَى رُؤوسِ اَلْعِبادِ فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ وَكَمَلَتْ بِهِ أَحْلاَمُهُمْ)، فأي قفزة نوعية في بناء وحياة الإنسان ستكون إذا كان البشر الذين يحكمون بعقول كاملة وليست ناقصة، علماً أن الذين غيروا مسيرة البشرية من العلماء لم يستخدموا إلا 4% من طاقة عقولهم كلافوازيه، وآنشتاين ونيلزبور وغيرهم من العلماء..
اللهم عجل لوليك الفرج، وسهِّل له المخرج، واجعل فلرجنا بفرجه يا كريم.
اضف تعليق