وهي وصفةٌ دقيقةٌ وعظيمةٌ مزجَ فيها الصِّفات الماديَّة والمعنويَّة والنفسيَّة المطلُوبة التي تُنتج الشخصيَّة المسؤُولة القادِرة على الإِنجازِ والنَّجاحِ كُلٌّ حسبَ موقعهِ وصلاحيَّاتهِ وواجباتهِ. هي وصفةٌ سحريَّةٌ تصنعُ رجلَ الدَّولة القادِر على القِيادة، وبعكسِها صفاتٌ تُنتِجُ رَجل السُّلطة والنُّفوذ على حسابِ الدَّولةِ والمُجتمعِ؛ عدم المُساواة بينَ النَّاجحِ والفاشلِ...
كانَ أَميرُ المُؤمنينَ (عليه السلام) يسعى جاهداً، وبكُلِّ سبُلِ المعرفةِ، لتحطيمِ الحجُبِ والجدُرِ والسُّدود التي تضعَها السُّلطة بينَ الحاكمِ والرعيَّة لرسمِ هالةٍ من القَداسةِ المُزيَّفةِ وكأَنَّ الحاكِم نِصفُ إِلهٍ أَو أَنَّهُ ظِلُّ الله في الأَرضِ فتمنحهُ من الأَلقابِ مالا يُعَدُّ ولا يُحصى! لتحميهِ من الرَّقابةِ والنَّقدِ ورُبما الإِزاحةِ عن السُّلطةِ إِذا ظلَّ مُصِرّاً على خطئهِ بحقِّ الأُمَّة أَو على فسادهِ وفشلهِ، فكتبَ لعاملهِ إِبن عبَّاس يوصِيه {سَعِ النَّاسَ بِوَجْهِكَ ومَجْلِسِكَ وحُكْمِكَ وإِيَّاكَ والْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ واعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَكَ مِنَ اللَّه يُبَاعِدُكَ مِنَ النَّارِ ومَا بَاعَدَكَ مِنَ اللَّه يُقَرِّبُكَ مِنَ النَّارِ}.
كما كتبَ للأَشترِ في عهدهِ لمَّا ولَّاهُ مِصر {واجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيه شَخْصَكَ وتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِيه لِلَّه الَّذِي خَلَقَكَ وتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وشُرَطِكَ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه (ص) يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ «لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّه مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ » ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ والْعِيَّ ونَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ والأَنَفَ يَبْسُطِ اللَّه عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِه ويُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِه وأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وإِعْذَارٍ!}.
ولقد سعى (عليه السلام) لإِسقاطِ ظاهِرةِ الإِكتفاءِ بالأَلقابِ والنَّياشينِ [الفخمةِ] التي يتستَّر بها الحاكِم كرصيدٍ يكفيهِ للإِستمرارِ في السُّلطةِ من دونِ إِنجازٍ فيقُولُ {أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ! فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وتَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ!}.
وكانَ (عليه السلام) يُكرِّر على مسامعِ الرعيَّة ليُكرِّس في ذهنِها فلسَفة السُّلطة فلا يظُننَّ أَحدٌ أَنَّها مغنَمٌ أَو ميزةٌ تُميِّز الحاكِم عن غيرهِ قائِلاً {الذَّلِيلُ عِنْدِي عَزِيزٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ لَه والْقَوِيُّ عِنْدِي ضَعِيفٌ حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْه}.
كما أَنَّهُ (عليه السلام) كانَ يكرهُ أَن يرى الذينَ يلتفُّونَ مِن حولهِ جيشٌ من الجهَلةِ والأُميِّين والمُغفَّلينَ والمُطبِّلينَ والإِمَّعاتِ والذُّيُولِ والنَّفعيِّينَ و [المِهوال] والقافلينَ! ممَّن {لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} حتَّى أَنَّهُ كانَ يعيبُ على أَهلِ الشَّامِ كَونَهُم ضحايا الجهل والتَّضليلِ قائلاً {أَلَا وإِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ وعَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ}.
فكانَ (عليه السلام) يحرصُ على أَن تكونَ المعلومة الصَّحيحة والصَّادقة في مُتناوَلِ اليدِ يصِلُ لها ويحصلُ عليها كُلُّ مَن يسعى إِليها ليبني موقِفهُ السَّليم من الأَحداث والتطوُّراتِ فلا يُستَغفلُ أَو يُضلَّلُ فيُركَبُ ظهرهُ أَو يُحلَبُ ضرعهُ! قائلاً {أَلَا وإِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلَّا أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلَّا فِي حَرْبٍ ولَا أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلَّا فِي حُكْمٍ ولَا أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّه ولَا أَقِفَ بِه دُونَ مَقْطَعِه وأَنْ تَكُونُوا عِنْدِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ وَجَبَتْ لِلَّه عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ ولِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ وأَلَّا تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَةٍ ولَا تُفَرِّطُوا فِي صَلَاحٍ وأَنْ تَخُوضُوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنِ اعْوَجَّ مِنْكُمْ ثُمَّ أُعْظِمُ لَه الْعُقُوبَةَ ولَا يَجِدُ عِنْدِي فِيهَا رُخْصَةً فَخُذُوا هَذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ وأَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اللَّه بِه أَمْرَكُمْ}.
ولقد حدَّدَ لنا أَميرُ المُؤمنينَ (عليه السلام) مقوِّمات النَّجاح لنتجنَّبَ عوامل الفشَل، وعلى المُستويَينِ؛ مُستوى الفَرد ومُستوى الجَماعة، وأَهمَّها؛
أَوَّلاً؛ الإِلتزام بقاعدةِ [الرَّجل المُناسب في المكانِ المُناسب] قائِلاً في عهدهِ للأَشترِ لمَّا ولَّاهُ مِصر {ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً ولَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ والْخِيَانَةِ وتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ والْحَيَاءِ}.
ويضيفُ (عليه السلام) مُذكِّراً بأَهمِّ وأَبرزِ الصِّفاتِ التي يجب أَن يتحلَّى بها [المسؤُول] لتصدُقَ عليهِ القاعدة {ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِه الأُمُورُ ولَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ ولَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ ولَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَه ولَا تُشْرِفُ نَفْسُه عَلَى طَمَعٍ ولَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاه وأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ وأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَكَشُّفِ الأُمُورِ وأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيه إِطْرَاءٌ ولَا يَسْتَمِيلُه إِغْرَاءٌ}.
وهي وصفةٌ دقيقةٌ وعظيمةٌ مزجَ فيها (عليه السلام) الصِّفات الماديَّة والمعنويَّة والنفسيَّة المطلُوبة التي تُنتج الشخصيَّة المسؤُولة القادِرة على الإِنجازِ والنَّجاحِ كُلٌّ حسبَ موقعهِ وصلاحيَّاتهِ وواجباتهِ.
هي وصفةٌ سحريَّةٌ تصنعُ [رجلَ الدَّولة] القادِر على القِيادة، وبعكسِها صفاتٌ تُنتِجُ [رَجل السُّلطة والنُّفوذ] على حسابِ الدَّولةِ والمُجتمعِ!.
ثانياً؛ عدم المُساواة بينَ النَّاجحِ والفاشلِ، بينَ النَّزيهِ والفاسدِ، بينَ الذي يتميَّز بالتَّحلِّي بروحِ المسؤُوليَّة واللَّاأُبالي المُتهاون، بينَ الحريصِ على كُلِّ ما يكونُ مسؤُولاً عنهُ من مالٍ وعِقارٍ ومصالح، خاصَّةً ما تخصُّ الدَّولة وبينَ العابثِ بها غَير المُكترِث بالصَّالحِ العام! وهذهِ واحدةٌ من أَخطر الأَمراض التي تُصابُ بها الأُمم فتنتهي بها إِلى الفشَل، ولذلكَ حذَّر منهُ القرآن الكريم بقولهِ {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} فربطَ بين بخسِ النَّاس أَشياءهُم والفسادِ في الأَرضِ.
يقولُ (عليه السلام) في عهدهِ للأَشترِ {ولَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ والْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ وتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإِسَاءَةِ وأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَه}.
وأَسوأُ من ذلكَ عندما تسرِق جُهدَ زيدٍ النَّاجح وتسجِّلهُ باسمِ عمرُو الفاشِل، مُحاباةً أَو لعلاقاتٍ ومصالِحَ خاصَّة تربُطك بهِ! أَو أَن تُصادر إِنجازات الآخرين لتُسجِّلها باسمِكَ، فتِلكَ هي اللُّصوصيَّة بأَقبحِ عناوينِها.
يقولُ (عليه السلام) {ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى ولَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَى غَيْرِه ولَا تُقَصِّرَنَّ بِه دُونَ غَايَةِ بَلَائِه ولَا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِه مَا كَانَ صَغِيراً ولَا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِه مَا كَانَ عَظِيماً}.
- يتبع...
اضف تعليق