الحقيقة التي يجب أن ندركها أن الإمام هو حجة الله على عباده وخلقه وهو الذي يختاره وينصبه ويعينه من عنده ويرسم له خارطة طريق يمشي عليها في تبليغ الدِّين والرسالة وهكذا كان الإمام الجواد حجة الله على عباده وخلقه على صغر سنه لأنه لا مكان للزمن في أمر الله تعالى...
(وُلد الإمام محمد الجواد (عليه السلام) بالمدينة المنورة في العاشر من شهر رجب سنة 195 للهجرة)
مقدمة عقدية
الحديث عن الإمام التاسع من أئمة المسلمين الإمام محمد الجواد (عليه السلام) هو حديث عن معجزة الإمامة والولاية وذلك لما اكتنفت حياته من أحداث تميَّز بها عن غيره من الأئمة، لا سيما وأنه قد تأخرت ولادته كثيراً حتى شك أقرب المقربين بالإمام الرِّضا (عليه السلام) أن يكون له ولد، لأنه قد تجاوز الخمسين من عمره فتارة كانوا يشكون بأنه عقيم – والعياذ بالله – والإمام لا يكون عقيماً، وتارة يشكون بأنه لن يولد له ولد يرثه بالولاية والإمامة والعجيب أنهم قد غاب عنهم كل ما تحدَّث به القرآن الحكيم عن إبراهيم وسارة، ثم عن زكريا ويحيى، أو حتى عن السيد المسيح وأمه الطاهرة البتول.
فكانوا يأتون إلى الإمام الرضا (عليه السلام) ويجابهونه بأسئلتهم ويحرجونه بها، حيث جاء إليه أحد أصحابه وقال له: (أَ تَكُونُ اَلْإِمَامَةُ فِي عَمٍّ أَوْ خَالٍ؟ فَقَالَ: لاَ، فَقُلْتُ: فَفِي أَخٍ؟ قَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَفِي مَنْ؟ قَالَ: فِي وَلَدِي وَهُوَ يَوْمَئِذٍ لاَ وَلَدَ لَهُ). (الكافي: ج۱ ص۲۸6)
أو يأتيه كَلِيمِ بْنِ عِمْرَانَ لينصحه فيقول: (قُلْتُ لِلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): اُدْعُ اَللَّهَ أَنْ يَرْزُقَكَ وَلَداً، فَقَالَ: إِنَّمَا أُرْزَقُ وَلَداً وَاحِداً وَهُوَ يَرِثُنِي، فَلَمَّا وُلِدَ أَبُو جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَالَ اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لِأَصْحَابِهِ: قَدْ وُلِدَ لِي شَبِيهُ مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ فَالِقِ اَلْبِحَارِ، وَشَبِيهُ عِيسَى بْنِ مَرْيَمَ قُدِّسَتْ أُمٌّ وَلَدَتْهُ قَدْ خُلِقَتْ طَاهِرَةً مُطَهَّرَةً، ثُمَّ قَالَ اَلرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يُقْتَلُ غَصْباً فَيَبْكِي لَهُ وَعَلَيْهِ أَهْلُ اَلسَّمَاءِ وَيَغْضَبُ اَللَّهُ تَعَالَى عَلَى عَدُوِّهِ وَظَالِمِهِ فَلاَ يَلْبَثُ إِلاَّ يَسِيراً حَتَّى يُعَجِّلَ اَللَّهُ بِهِ إِلَى عَذَابِهِ اَلْأَلِيمِ وَعِقَابِهِ اَلشَّدِيدِ، وَكَانَ طُولُ لَيْلَتِهِ يُنَاغِيهِ فِي مَهْدِهِ). (بحار الأنوار: ج۵۰ ص۱۵)
الإمام حجة الله على خلقه
والحقيقة التي يجب ألا تغيب عن عقل وذهن أي موالي لآل محمد (صلوات الله عليهم) هي أن الإمامة منصب مخصص ومعيَّن من الله تعالى ولا علاقة للبشر به، فلو اجتمع الثقلان لينصِّبوا ويختاروا وينتخبوا نبياً فما استطاعوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وها نحن أكثر من ثمانية مليارات من البشر في هذا العصر الرقمي والتطور الحضاري وما أحوجنا لنبي يحكمنا ويدير شؤون هذه الحضارة النووية التي تكاد تفنى بما يصنعه العلماء ويفعله الطغاة والجبارون من الحكام والسلاطين الذين صاروا أبشع من نمرود وأشنع من فرعون، وأغنى من قارون، ويذلون العباد ويفسدون في البلاد ويعيثون في الأرض فساداً وإفساداً في كل شيء حتى صدق عليهم قول ربنا سبحانه وتعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)
ولا مخلص ولا منجى إلا بالمخلِّص السماوي لأهل الأرض وإنقاذهم من السقوط في هذه المهاوي المدمرة لهم ولحضارتهم البائسة في الدنيا، وسيهوون في دركات الجحيم في الآخرة، وبالأمس كنتُ في زيارة لأخ عزيز وصديق كان في رحلة إلى البرازيل فقال لي من جملة ما حكاه عن تلك البلاد والشعوب: أنه لا يوجد شيء اسمه الله تعالى في حياتهم، وأكد أنهم كالبهائم يأكلون ويشربون ويتسافدون وينامون ولا شيء غير ذلك، فشجعته على العودة بهدف وغاية التبليغ لدين الله وأن يبدأ من الصفر في تلك البلاد العجيبة الغريبة لعل الله يفتحها على يديه ويدلهم إلى الله ويدخلهم في دينه أفواجاً.
فالعالم اليوم بحاجة إلى مخلص، ومنقذ، وقائد رباني رحيم وكريم ولكن هيهات لهم أن يستطيعوا لذلك سبيل لأنه لا نبوة بعد النبي الخاتم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله)، ولا رسالة بعد رسالة الإسلام العظيم، ولذا على العلماء والأعلام والمبلغين والخطباء الكرام أن يشمِّروا عن سواعد الجد وينطلقوا في سبيل الله للتبليغ لدين الله ويوصلوا صوت الحق والحقيقة إلى كل الأقطار في هذا العصر الذي وصل فيه الفساد إلى كل بيت.
الرسالة والنبوة والإمامة
والإمامة كالنبوة والرسالة تعيين وتنصيب من الله تعالى ولا علاقة لها بالسِّن أو العمر وجميل ما يستدلُّ به سماحة الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) في معرض حديثه عن الإمام الجواد (عليه السلام) وصغر سنه حين يتسنَّم منصب الخلافة الرَّبانية والإمامة الإلهية حيث يقول: "النبوة والإمامة منصبان إلهيان، يعطيهما الباري لمَنْ أراد ممَّن اجتمعت فيه الشروط، ولا يتفاوت في ذلك السِّن، فقد قال عز وجل في حق النبي عيسى (عليه السلام): (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) (مريم: 31)
وقال في حق النبي يحيى (عليه السلام): (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم:12)
ثم يقول سماحته: "وهكذا كان الإمام محمد الجواد (عليه السلام) حيث اختاره الله إماماً وهو في صغر سنه، وربما كان ذلك تمهيداً لإمامة الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشريف) حيث أصبح إماماً في صغر سنه، مضافاً إلى غيبته عن الأنظار.
فلما استشهد الإمام الرضا (عليه السلام) كان الإمام الجواد (عليه السلام) في السابعة من عمره الشريف، فشك البعض من ضعيفي الإيمان في إمامته، فاجتمع بعض كبار الشيعة من الكوفيين في دار عبد الرحمن بن الحجاج، وأقاموا مجلس العزاء على الإمام الرضا (صلوات الله عليه)، ثم قام يونس بن عبد الرحمن وقال: إلى أن يكبر الإمام الجواد (عليه السلام) فمَن هو حجة الله علينا، وممَّن نأخذ المسائل والأحكام؟
عند ذلك قام أبان بن الصلت وهو من الرواة الثقاة، ومن أصحاب الإمام الرضا (عليه السلام)، وقال: (إن كان أمره من الله جل وعلا، فلو كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه، وإن لم يكن من عند الله فلو عمَّر ألف سنة فهو واحد من الناس، ثم خرج عدد من علماء الشيعة إلى المدينة المنورة، ودخلوا على الإمام الجواد (عليه السلام) فسألوه عن مسائل كثيرة، ورأوا منه المعاجز والأدلة، وحصل لهم اليقين بإمامته، وأنه حجة الله على الخلق، ثم رجعوا وأخبروا الشيعة بذلك). (مدينة معاجز: ج7 ص288)
إمامة الإمام الجواد (ع) وصغر سنَّه
وفعلاً الإمام التاسع من أئمة المسلمين تسنَّم منصب الخلافة الإلهية والولاية الربانية وهو في سن مبكرة جداً وهنا كثر اللغط من أصحاب الإيمان المتزلزل والمستودع فقالوا الأقاويل، ومالوا مع مَنْ يميل لا سيما بعض الواقفية على الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) فاغتنموها فرصة للطعن بإمامة الإمام الرِّضا (عليه السلام) أولاً ثم ينكرون إمامة الإمام الجواد (عليه السلام) بحجة صغر السن، وقد غاب عن أذهانهم كل تلك الآيات الكريمة التي تتحدث عن إبراهيم وأولاده في كبر سنه، ثم عن زكريا وقد بلغ من العمر عتياً، أو عن السيد المسيح الذي تكلم في المهد صبياً وكأن الآيات لم يقرأنها أو أنها لا تخصُّهم والإمام في عمر السادسة أو السابعة ويرونه ويحلُّ لهم أعقد المسائل ويجيبهم عن كل ما يسألونه حتى أجاب في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة وبحضور المأمون العباسي وحاشيته وعلماء وقضاة وفقهاء حكومته فأخرسهم جميعاً بعلمه وفضله وفقهه.
ولذا يقول السيد الشيرازي (رحمه الله): " لما قُبض الرِّضا (عليه السلام) كان سن أبي جعفر (عليه السلام) نحو سبع سنين فاختلفت الكلمة من الناس ببغداد وفي الأمصار، واجتمع الرَّيان بن الصلت وصفوان بن يحيى ومحمد بن حكيم وعبد الرحمن بن الحجاج ويونس بن عبد الرحمن وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلول، يبكون ويتوجعون من المصيبة، أي مصيبة فقد الإمام الرضا (عليه السلام).
فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء مَنْ لهذا الأمر، وإلى مَنْ نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا، يعني أبا جعفر (عليه السلام)؟
فقام إليه الريان بن الصلت وقال: أنت تظهر الإيمان لنا وتبطن الشك والشرك، إن كان أمره من الله جل وعلا فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه، وإن لم يكن من عند الله فلو عمّر ألف سنة فهو واحد من الناس هذا مما ينبغي أن يفكر فيه. فأقبلت العصابة عليه تعذله وتوبخه.
وكان وقت الموسم فاجتمع من فقهاء بغداد والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلاً فخرجوا إلى الحج وقصدوا المدينة ليشاهدوا أبا جعفر (عليه السلام)، فلما وافوا أتوا دار جعفر الصادق (عليه السلام) لأنها كانت فارغةً ودخلوها وجلسوا على بساط كبير، وخرج إليهم عبد الله بن موسى فجلس في صدر المجلس وقام مناد وقال: هذا ابن رسول الله، فمَنْ أراد السؤال فليسأله، فسُئل عن أشياء أجاب عنها بغير الواجب، فورد على الشيعة ما حيرهم وغمهم واضطربت الفقهاء وقاموا وهموا بالانصراف وقالوا في أنفسهم: لو كان أبو جعفر (عليه السلام) يكمل لجواب المسائل لما كان من عبد الله ما كان ومن الجواب بغير الواجب.
فُفتح عليهم باب من صدر المجلس ودخل موفق وقال: هذا أبو جعفر (عليه السلام)، فقاموا إليه بأجمعهم واستقبلوه وسلموا عليه، فدخل (صلوات الله عليه) وعليه قميصان وعمامة بذؤابتين وفي رجليه نعلان وجلس، وأمسك الناس كلهم، فقام صاحب المسألة فسأله عن مسائله، فأجاب (عليه السلام) عنها بالحق، ففرحوا ودعوا له وأثنوا عليه). (عيون المعجزات: ص119)
ثم يقول سماحته معلقاً: "أما ما كان من عمِّه عبد الله بن موسى، فربما كان لإثبات إمامة الإمام الجواد (عليه السلام) وللفت الأنظار عن نفسه، كما كان من محمد بن الحنفية (عليه السلام) مع الإمام السجاد (صلوات الله عليه) على ما ذكرناه في بعض كتبنا". (من حياة الإمام الجواد (ع): ص18)
والإمام الجواد (عليه السلام) حقيقة لم يعش طفولته كما كل الأطفال لأنه تحمَّل ثقل الإمامة والقيادة الربانية وهو في الرابعة من عمره الشريف لأن والده الإمام الرضا (عليه السلام) منذ أن فارقه متوجهاً إلى خراسان مكرهاً تركه في المدينة المنورة وأوصاه بأن يقوم مقامه وأن يتصرف كما كان يتصرف والده تماماً، وهو يعلم علم اليقين أنه لن يعود أو يرجع إليه لأنه سيستشهد في غربته ويدفن في روضته وحفرته المعهودة في خراسان.
والعجيب الغريب في سيرة الإمام الجواد (عليه السلام) على صغر سنه وبعده عن والده استطاع أن يسدَّ مكانه في الأمة وهذا يكفي دلالة على إمامته الربانية لأنه لا يمكن لطفل بهذا العمر أن يقوم مقام ولي عهد الدولة الإسلامية المترامية الأطراف، وأن يسد ثغرة غيابه وهو عالم آل محمد (صلوات الله عليهم) الذي ملأ الدنيا وشغل الناس بفضله، وعلمه، وعظمته، ومكانته في الأمة الإسلامية.
الإمام الجواد (ع) لم يكن طفلاً
الطفل من حقه أن يلعب ويلهو ولكن كتب التاريخ تروي عنه قصة عجيبة حيث يُروى أنه خرج جماعة إلى أبي جعفر (عليه السلام)، وفيهم: علي بن حسان الواسطي المعروف بالعمش، قال: حملتُ معي إليه من الآلة التي للصبيان بعضاً من فضة، وقلت أتحف مولاي أبا جعفر (عليه السلام) بها، فلما تفرَّق الناس عنه عن جواب لجميعهم، قام فمضى إلى صِريا، واتبعته فلقيت موفقاً، فقلت: استأذن لي على أبي جعفر (عليه السلام)، فدخلت وسلمت، فرد عليَّ السلام وفي وجهه الكراهة، ولم يأمرني بالجلوس، فدنوت منه وفرغت ما كان في كمِّي بين يديه، فنظر إليَّ نظر مغضب، ثم رمى يميناً وشمالاً، ثم قال: (ما لهذا خلقني الله، ما أنا واللعب)، فاستعفيته فعفا عني فخرجت) (بحار الأنوار: ج50 ص59)
فلو كان طفلاً لفرح بهذه اللعب الفضية وراح يلعب ويلهو بها كغيره من الأطفال، ولكنه كان إماماً مختاراً من الله تعالى وخلقه لمهمة وأداء رسالة وليس للعب وهذا ما يرويه أبو سلمان، عن ابن أسباط، قال: خرج عليَّ أبو جعفر (عليه السلام)، فجعلت أنظر إليه، وإلى رأسه ورجليه؛ لأصف قامته بمصر، فلما جلس قال: (يا علي، إن الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج في النبوة، قال الله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)، و(حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)، (الأحقاف: 15) فقد يجوز أن يُعطى الحكم صبياً، ويجوز أن يُعطى وهو ابن أربعين سنةً). (بحار الأنوار: ج50 ص20)
الإمام حجة الله على خلقه
والحقيقة التي يجب أن ندركها أن الإمام هو حجة الله الخالق على عباده وخلقه وهو الذي يختاره وينصبه ويعينه من عنده ويرسم له خارطة طريق يمشي عليها في تبليغ الدِّين والرسالة وهكذا كان الإمام الجواد (عليه السلام) حجة الله على عباده وخلقه على صغر سنه لأنه لا مكان للزمن في أمر الله تعالى.
اضف تعليق