فالانتظار هو عمل بل من خير الأعمال لما له إيجابية وحركيَّة ونشاط وفاعليَّة في حياة الفرد المؤمن والمجتمع المؤمن المنتظر لذلك الأمل الموعود والقادم من بطن الغيب الذي ادَّخره الله سبحانه وتعالى لدينه الخاتم، وإظهاره على كل العقائد والأديان في العالمين، وبهذا جاءت الآيات الكريمة، وتعضدها وتفسِّرها الروايات...
في يوم النصف من شعبان المعظم عام 255ه ولد الإمام المهدي (ع)
مقدمة حضارية
الحديث عن الحضارة الإنسانية الراقية هي حديث بالضرورة عن حضور تلك المنظومة القيمية لدى البشر التي تُنظِّم حياتهم وتضبط حركتهم وعلاقاتهم فيما بينهم، وبدون ذلك الحضور الفاعل لتلك المنظومة لا يمكن أن نطلق على البنيان المَدَني مهما علا وارتفع في البناء المادي أن يكون حضارة، بل هو مجرَّد بناء مدني مادي لا قيمة له، ولذا فالحضارة الرقمية – خصوصاً بصورتها الغربية بقيادة أمريكا- ليست حضارة بل مدمِّرة للحضارات، والمدنيات لأنها تسعى جاهدة لتدمير كل الإرث الحضاري البشري.
فالحضارة الغربية خاوية على عروشها ولا قيمة لها في الميزان الإنساني، لأنها لا تنظر إلى قيمة الإنسان في إنسانيته وقيمه، بل تجعل القيمة للمال والثروة والإنسان أرخص شيء فيها لأنه يُقاس بما يُقدِّمه من خدمة، فصار كالشَّيء والبرغي في آلة الصناعة الرقمية المعاصرة، وإذا كان الإنسان لا قيمة له وهو قيمة القمَّة في المنظومة القيمية ومنها تنحدر كل القيم، عندما أهانوا وإستهانوا بقيمة الإنسان ففقدوا قيمتهم، وحضارتهم لأنها صارت حضارة الحقارة والتفاهة كما أطلق عليها محقاً (آلان دونو) في كتابه (عصر التفاهة).
انتظار الأمل هو خير العمل
وهذا ما ورد في الكثير من الروايات الشريفة التي تتحدث عن انتظار الفرج وأنه عمل، وأمل، وعبادة من أفضل، وأرقى العبادات في هذا الدِّين العظيم، وذلك لأن هذه العقيدة المباركة هي التي تربطنا بالسماء، ولولا ذلك لانفصلنا عنها كما انفصل غيرنا عنها، وهذا ما يُشير إليه سماحة الإمام محمد الشيرازي الراحل (رحمه الله) في كتابه (حقائق عن الإمام المهدي (ع)، حيث ينقل هذه القصة.
يقول سماحته: "نقل أنّ شخصاً فرنسياً يُدعى (كرين) جاء إلى طهران والتقى بأحد علماء الشيعة وأخذ يسأله عن (الشيعة) ومعتقداتهم.. فذكر لـه العالم: عدد الأوصياء والأئمة (عليهم السلام) وأن الإمام المهدي (عليه السلام) حي وهو الرابط بيننا وبين السماء، وقال لـه: لا ينبغي أن تذكر اسم الأئمّة إلا وتقول: (صلوات الله عليهم)، أو (عليهم السلام) فإنهم حجج الله على الأرض.
وقال لـه أيضاً: نحن المسلمين نناجي الله ونتوسل إليه بالأدعية المأثورة عن أئمتنا (عليهم السلام) ونتوسل بهم إلى الباري عزوجل، أمّا أنتم المسيحيون فلستم كذلك.
فقال الفرنسي: بل نحن كذلك أيضاً.
قال العالم: كيف تناجون وتتوسلون وقد ورد في الإنجيل إنّ النبي عيسى (عليه السلام) حضر حفلة زواج ثمّ شرب الخمر!، وأنّه (عليه السلام) أتى بمعجزة حين حوّل الماء إلى الخمر فشرب منه الجميع!
هذا هو الإنجيل.. وأمّا التوراة فحدّث ولا حرج.. أما نحن فنقول في مناجاة الله تعالى: (اللهمّ إنّي أسألك بمعاني جميع ما دعاك به عبادك الذين اصطفيتهم لنفسك المأمونون على سرّك..)، إلى غيره من الأدعية المأثورة في كتب الدعاء.
وحينما عاد الرجل إلى بلاده عقد مؤتمراً ذكر فيه: "أنّ الأُمّة الوحيدة التي حفظت ارتباط الإنسان بالله عز وجل، هم الشيعة، وذلك عبر الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، فإنها مرتبطة بالسماء، أما سائر الأمم فقد انقطع ارتباطها وذلك لعدم اعتقادها بخليفة الله في الأرض". (حقائق عن الإمام المهدي (ع): ص40)
نعم؛ هذا صحيح وهذه الملاحظة جداً دقيقة وواقعية وصادقة لأننا نحن فقط الذين نؤمن وندَّعي وجود ذلك الحبل المتين المتصل بين السماء والأرض، ونتمسَّك بتلك العروة الوثقى التي جعلها الله لعباده ليتمسَّكوا بها كي لا يذلوا ولا يزلوا ولا تحرفهم الشياطين عن دينهم ويتخلوا عن عقائدهم المحقة.
فنحن وعبر حديث الثقلين المتواتر في الأمة نؤمن وندَّعي وجود هذا الحبل المتصل وتلك العلقة الدائمة بين السماء والأرض، وذلك بإيماننا بالمهدي المنتظر (عج) الذي هو في معنى من معانيه: أنه القرآن الناطق وهو المفسِّر والمؤوِّل لكتاب الله الصامت في عصرنا هذا حيث اختلطت المفاهيم وكل يدَّعي وصلاً بليلى ولكن ليلى في علم الغيب.
والقرآن كتاب الله حمَّال ذو وجوه مهما قلت يحتمل لأن الأمة فقدت الميزان الذي جعله الله سبحانه عِدلاً للقرآن فيها وهم العترة الطاهرة وذلك منذ أن غرست رجال قريش في ظهرها نظرتها ونظريتها الخاطة (حسبنا كتاب الله)، لأنهم في ذلك افترقوا عن كتاب الله لأنهم لا يعرفون من علومه إلا ألفاً غير معطوفة، ونقطة من بحر خضم لم يصلوا إلى ساحله لأنه قد شغلهم الصَّفق في الأسواق كما كانوا يقولون في ساعات الحقيقة.
ولذا يقول الإمام الشيرازي الراحل (رحمة الله عليه): " من أهمّ الأحاديث الشريفة الدالّة على عصمة الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وصدق خلافتهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) هو حديث الثقلين المعروف وهو حديث متواتر لا شكّ في سنده ولا في دلالته.
يدلُّ حديث الثقلين مضافاً إلى خلافة الرسول (صلى الله عليه وآله) على عصمة الأئمّة (عليهم السلام) وضرورة الرجوع إليهم كما يرجع إلى القرآن الكريم وهما لا يفترقان حتى يردا ويرد العباد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الحوض، وليس لأحد عذر في عدم الأخذ منهم (عليهم السلام). (ن. م: ص41)
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إني تارك فيكم الثقلين ـ خليفتين ـ كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض). (بحار الأنوار: ج23 ص108)
فالانتظار هو عمل بل من خير الأعمال لما له إيجابية وحركيَّة ونشاط وفاعليَّة في حياة الفرد المؤمن والمجتمع المؤمن المنتظر لذلك الأمل الموعود والقادم من بطن الغيب الذي ادَّخره الله سبحانه وتعالى لدينه الخاتم، وإظهاره على كل العقائد والأديان في العالمين، وبهذا جاءت الآيات الكريمة، وتعضدها وتفسِّرها الروايات الشريفة وكلها تقول بأنها في آخر الزمان وعلى يدي خليفة الله المهدي المنتظر لإقامة دولة الحق والعدل المنتظرة.
دولة العدل والقسط
وهنا نأخذ آية ولها أشباه ونظائر أيضاً في كتاب الله الحكيم حيث قال تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) (القصص: 6)
فالعلماء والأعلام يؤكدون على أن تفسير وتأويل هذه الآية لم يأتِ بعد، لأنه لم يتمكن الدِّين وأئمته من الحكومة في الأرض كلها، ولا حتى ليوم واحد منذ أن خلق الله آدم وأهبطه على هذه الكرة الترابية، والوعد بإظهار الدِّين الإسلامي على كل الأديان السماوية والأرضية واضحة في كتاب الله الخاتم، وروايات الرسول الخاتم (ص) أيضاً ولا يمكن إنكارها في كتب المسلمين قاطبة.
وإلى هذا يشير الإمام الشيرازي الراحل حيث يقول: (أمّا الوعد الآخر الذي وعد به الله نبيّه (صلى الله عليه وآله) في القرآن، فهو قولـه تعالى في سورة الصفّ: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللّهُ مُتِمّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (الصفّ: 8)، فقد ورد في بعض التفاسير: أنّ ذلك يكون عند ظهور الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) الذي سيظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد أن تملأ ظلماً وجوراً.
وقال علي إبراهيم القمّي (رحمه الله) في تفسيره لهذه الآية الكريمة: (بالقائم من آل محمّد (عليهم السلام) حتّى إذا خرج يظهره الله على الدِّين كلّه حتّى لا يُعبد غير الله وهو قولـه (عليه السلام): (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) (تفسير القمّي: ج2 ص365)
وقال سبحانه في سورة التوبة: (اتّخَذُوَاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُوَاْ إِلَـَهاً وَاحِداً لاّ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ * يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَىَ اللّهُ إِلاّ أَن يُتِمّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الّذِيَ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىَ وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة: 31 ـ 33)
وفي الكافي الشريف قال: (يظهره على جميع الأديان عند قيام القائم (عليه السلام).
وفي البحار عن ابن عباس في قولـه تعالى: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، قال: (لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي، ولا نصراني، ولا صاحب ملَّة، إلا دخل في الإسلام، حتى يأمن الشاة، والذئب، والبقرة، والأسد، والإنسان، والحيَّة، وحتى لا تقرض فأرة جراباً، وحتى توضع الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وذلك قولـه: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وذلك يكون عند قيام القائم (عليه السلام).
وعن سعيد بن جبير في تفسير قولـه عز وجل: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)، قال: (هو المهدي من عترة فاطمة).
وهذا هو الوعد الثاني بالنصر وظهور الإسلام ظهوراً كاملاً تاماً". (ن. م: ص29)
فدولة الحق والعدل المنتظرة في آخر الزمان لا تكون إلا بعد أن يظهر الإمام ويقوم بحركته العالمية في الإصلاح العامة وعلى كل المستويات، ويقود حرباً لا هوادة فيها مع دُعاة الأديان والأفكار والعقائد الأخرى ويُساعده عليهم السيد المسيح (ع) الذي ينزل ليكون جندياً مخلصاً من جنوده (صلوات الله عليهما)، وبذلك سينقذ السيد المسيح الملايين من أتباعه ومحبيه والمؤمنين به، لأنهم يرونه ويسمعون منه أن الإمام هو المهدي، والدِّين الحق هو الإسلام.
والعجب العُجاب ممَّن يُنكر هذه الحقيقة، ويجحد بهذه العقيدة وقد ورد حولها أكثر مما ورد في التوحيد، والنبوة، وغيرها، لأن في الكتب والجاميع الروائية حوالي ستة آلاف رواية في أحوال آخر الزمان والفتن والمهدي المصلح والقائد العظيم، ففي كنز العمال قال (صلى الله عليه وآله): (إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإن أهل بيتي سيلقون من بعدي بلاءً وتشريداً وتطريداً، حتى يجيء قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الحق فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون فيعطون ما سألوا، فلايقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، يواطئ اسمه اسمي...، فيملك الأرض فيملؤها قسطاً وعدلاً كما ملؤها جوراً وظلماً، فمَن أدرك ذلك منكم أو من أعقابكم فليأتهم ولو حبواً على الثلج، فإنها رايات هدى).
وفي بعض رواياتهم: (يخرج رجل من ولد الحسين لو استقبلته الجبال الرواسي لهدها، واتخذ فيها طرقاً).. وقال: (المهدي من هذه الأمة، وهو الذي يؤم عيسى بن مريم (عليهما السلام)، وقال: (لتملأن الأرض ظلماً وعدواناً، ثم ليخرجن رجل من أهل بيتي حتى يملأها قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وعدواناً).
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أبشركم بالمهدي، يبعث على اختلاف من الناس وزلازل، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، يقسم المال صحاحاً).
قال لـه رجل: ما صحاحاً؟ قال: (بالسوية بين الناس، ويملأ الله قلوب أمة محمد (صلى الله عليه وآله) غناء ويسعهم عدله، حتى يأمر منادياً فينادي فيقول: مَنْ لـه في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل واحد. فيقول: أنا. فيقول: ائت السَّدان، يعني الخازن. فقل لـه: إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالاً. فيقول له: احث حتى إذا جعله في حجره وائتزره، ندم فيقول: كنت أجشع أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، أو عجز عني ما وسعهم. قال: فيرده فلا يقبل منه. فيقال لـه: إنا لا ينفذ شيئاً أعطيناه، فيكون كذلك سبع سنين أو ثمان سنين أو تسع سنين، ثم لا خير في العيش بعده)، أو قال: (ثم لا خير في الحياة بعده).
هذه هي الدولة التي ينتظرها العالم أجمع وأرباب الأفكار، والأديان، والمقالات، في هذا العصر الأغبر لأن البشرية جرَّبت كل الأفكار، وكل المبادئ وكلها أثبتت فشلها وسيأتي اليوم الذي يظهر في الإمام المهدي فيعيد الإسلام إلى الحياة، والحياة إلى الدِّين ويُثبت للجميع أن الدِّين هو خير حاكم وأشرف وأعدل حكم في الدنيا، وأقسط شيء في المجتمعات البشرية، وبذلك يسعد الناس والدنيا كلها حتى الوحوش والبهائم والحشرات وتختفي الشياطين والشرور من هذه الدنيا فيعيش الناس عيش الجنة في هذه الأرض.
وهذا وعد الله لعباده الصالحين بوراثة الأرض ومَنْ عليها.. نسأل الله أن يعجِّل الفرج لولي الله الأعظم وأن يجعلنا من أشياعه وأتباعه ومقوية سلطانه، وقادة دولته العادلة.
وكل عام وأنتم بنور حتى الظهور المقدس لصاحب العصر وناموس الدهر أيها المؤمنون.
اضف تعليق