تسنَّم الإمام جعفر الصادق (ع) كما وصفه الله ورسوله (ص) ذاك المكان المخصوص بالنص الموروث عن اللوح المحفوظ، ومَنْ كان أجدر منه بذلك وهو الذي ظهر منه شتى أنواع العلوم ما حارت به الألباب، وسارت به الرُّكاب، وتناقله ذووا الألباب، في كل عصر ومصر إلى يومك هذا فكل...
ولد الإمام جعفر الصادق (ع) في 17 ربيع الأول 83 ه في المدينة المنورة
مقدمة في الولاية
الولاية: هي دائرة الإمتحان الإلهي لهذا الخلق، ولذا تراهم يُغربلون، ويُمحَّصون، ويُختبرون فيها وليس في غيرها، وذلك لأن مَنْ يسقط من أول الطريق في التوحيد، ويذهب إلى الشرك، أو في النبوة فيكفر ببعض الأنبياء ويؤمن ببعض، أو ينكر ضرورة من ضرورات الدِّين فهؤلاء سقطوا في فخ إبليس منذ البداية ولا كلام معهم، وكلامنا مع أهل الملَّة والدِّين الذين يدَّعون الإنتماء لهذا الدِّين العظيم، والرسالة السماوية الخاتمة، ثم ينكر أصل الولاية وكأنه بنى في أرض غيره، أو أنه بنى بناءه على رمل الساحل المتحرك، أو على شفا جرف هار ينتظر إنهياره حتى يعلم أنه لم يكن على شيء من أمر الدِّين.
فالولاية عقيدة وأصل من أصول الدِّين الإسلامي وعلامة من علامات الإيمان الحق، وليس كما يذهب بعضهم إلى أنها أصل من أصول المذهب، ولا شأن للدِّين بها، فهذا الأستاذ العزيز لم يفقه معنى ومبنى أصول الدِّين الإسلامي وليته يراجع عقيدته من أولها ليعلم أن الولاية أصل كالنبوة وليست فرعاً من فروعها وإن كانت مهمتها في إكمال واتمام الرسالة فوحدة الهدف لا تعني وحدة الأصل، أو اتحاد الأصلين بالنبوة، واستهلاك الولاية فيها.
والولاية هي علامة الإيمان ولذا عندما ادَّعت الأعراب الإيمان نفاه الله عنهم، واثبت لهم الإسلام فقط، فقال تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم)ٌ (الحجرات: 14)، فالإسلام هو مجرد النطق بالشهادتين فيتسمَّى القائل بالإسلام وأما الإيمان فلا يكفي النطق بهما بل لا بدَّ من دخول الشهادة الثالثة في العقيدة، وهي شهادة الولاية لأمير المؤمنين (ع) خاصة ثم أولاده المعصومين عامة فهم أولياء الله الذين إذا عرفهم الإنسان واعترف بولايتهم وآمن بها فإنه يترقَّى درجة ويرتفع إلى الإيمان.
الإمام الصادق (ع) إمام الأولياء
فبعد انتقال الإمام محمد الباقر (ع) إلى بارئه تسنَّم الإمام جعفر الصادق (ع) كما وصفه الله ورسوله (ص) ذاك المكان المخصوص بالنص الموروث عن اللوح المحفوظ، ومَنْ كان أجدر منه بذلك وهو الذي ظهر منه شتى أنواع العلوم ما حارت به الألباب، وسارت به الرُّكاب، وتناقله ذووا الألباب، في كل عصر ومصر إلى يومك هذا فكل ما في حوزاتنا العلمية وموسوعاتنا الحديثية والفقهية والعلمية هي من ذاك البحر الخضم، الذي لا يُساحل ولا يُساجل، لأنه يأخذ من علم الله الذي لا ينضب، وكتابه الذي فيه كل شيء.
وذلك لأن من خصائص الإمامة والولاية على الناس أن يكون الإمام وارث الأنبياء والمرسلين جميعاً ممَّن كان قبله، ولذا قال الإمام الصادق (عليه السلام): (إن عندي سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإن عندي لراية رسول الله (صلى الله عليه وآله) المغلبة، وإن عندي لخاتم سليمان بن داود (عليهما السلام)، وإن عندي الطشت الذي كان موسى يقرب بها القربان، وإن عندي الاسم الذي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا وضعه بين المسلمين والمشركين لم يصل من المشركين إلى المسلمين نشَّابة، وإن عندي لمثل الذي جاءت به الملائكة، ومثل السلاح فينا كمثل التابوت في بني إسرائيل)، وفي رواية الأعمش، قال (عليه السلام): (ألواح موسى عندنا، وعصا موسى عندنا، ونحن ورثة النبيين).
ولكن هذه الأمة تركت أهل بيت نبيها وذهبت يميناً وشمالاً فما زادها ذلك إلا ضياعاً وضلالاً عن الحق ومن طريف ما يُروى في هذا الشأن أن النعمان المعروف بأبي حنيفة الذي تتلمذ على الإمام الصادق (ع) سنتين فقط، فصار الإمام الأعظم، يأتي إلى الإمام الصادق (ع) ويحاججه، فقد روي (أنه جاء أبو حنيفة إلى الإمام الصادق (عليه السلام)؛ ليسمع منه، وخرج أبو عبد الله (عليه السلام) يتوكأ على عصاً، فقال له أبو حنيفة: يا ابن رسول الله، ما بلغتَ من السِّن ما تحتاج معه إلى العصا؟ قال: (هو كذلك، ولكنها عصا رسول الله، أردتُ التَّبرك بها)، فوثب أبو حنيفة إليه، وقال له: أقبِّلها يا ابن رسول الله، فحَسَرَ أبو عبد الله (عليه السلام) عن ذراعه، وقال له: (والله، لقد علمتَ أن هذا بَشَرُ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن هذا من شَعره، فما قبَّلته وتقبِّل عصاً؟!).
نعم؛ وإلى الآن يتبرَّكون بالشَّعر، والخفِّ، والعصا، ويقتلون أهل البيت تحت كل حجر ومدر، ويبحثون عنهم في كل واد ورأس جبل ليقتلوهم ويتقربوا إلى السلاطين والحكام والطغاة بهم، فيتظاهرون بتقديس الآثار، ويقتلون الأبناء الأطهار، وتلك هي سنَّة رجال قريش وحكامها وملوك بني أمية وطغاتها مازالت جارية في هذه الأمة الغافلة.
علم الإمام إمام العلم
وإذا أردنا البحث والحديث عن علم الإمام الصادق (ع) فإننا نحتاج إلى مجلدات طويلة وعريضة لأنه العلم المتصل بجده رسول الله (ص) الآخذ عن الله تعالى، فعلم الإمام هو إمام العلم كله في الحقيقة، لأنه مقياس ومعيار وميزان له، والإمام يجب أن يعلم حل جميع المسائل التي تحتاجها أمته ولا يسأل أحداً ويجيب على مسائل كل أحد منهم كما كان يفعل الإمام الصادق (ع) في عصره، ولذا قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): (واللهِ، إني لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وما في الجنة وما في النار، وما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة ـ ثم سكت ثم قال ـ أعلمه عن كتاب الله، أنظر إليه هكذا ـ ثم بسط كفه وقال ـ إن الله يقول: فيه تبيان كل شيء).
ويزيد المسألة بياناً بقوله (عليه السلام): (إن الله بعث محمداً (صلى الله عليه وآله) نبياً فلا نبي بعده، أنزل عليه الكتاب فختم به الكتب فلا كتاب بعده، أحلَّ فيه حلاله وحرَّم فيه حرامه، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وفصل ما بينكم ـ ثم أومأ بيده إلى صدره وقال ـ نحن نعلمه).
ومن طرائف الدهر الخؤون بأهل الشرف المصون والعلم المكنون أن تلاميذهم الصغار صاروا أئمة كباراً فاتبعتهم الأمة وتركوا الجبال الرواسي من الأئمة (ع)، فعن الحسن بن زياد، قال: سمعت أبا حنيفة وقد سئل: مَنْ أفقه مَنْ رأيته؟. قال: جعفر بن محمد (عليه السلام)، لما أقدمه المنصور بعث إليَّ؛ فقال: يا أبا حنيفة، إن الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد، فهيِّء له من مسائلك الشِّداد، فهيَّأتُ له أربعين مسألة، ثم بعث إليَّ أبو جعفر المنصور وهو بالحيرة، فأتيُته فدخلتُ عليه وجعفر (عليه السلام) جالس عن يمينه، فلما بصرتُ به دخلني من الهيبة لجعفر ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلَّمتُ عليه، فأومأ إليَّ فجلست، ثم التفتَ إليه، فقال: يا أبا عبد الله، هذا أبو حنيفة، قال (عليه السلام): (نعم أعرفه)، ثم التفتَ إليَّ فقال: يا أبا حنيفة، ألق على أبي عبد الله من مسائلك.
فجعلتُ ألقي عليه فيجيبني، فيقول: (أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا)، فربما تابعنا وربما تابعهم، وربما خالفنا جميعاً، حتى أتيتُ على الأربعين مسألة، فما أخلَّ منها بشيء.. ثم قال أبو حنيفة: أ ليس أن أعلم الناس، أعلمهم باختلاف الناس).
قال العلماء في علم الإمام
ولا نحتاج لنقل الأقوال ولكن نستأنس ببعضها حتى لا يتهمنا أحد بالإطراء والإمام فوق ذلك كله، فقال الأديب المعتزلي أبو بحر الجاحظ: (فجَّر الإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) ينابيع العلم والحكمة في الأرض، وفتح للناس أبواباً من العلوم لم يعهدوها من قبل، وقد ملأ الدنيا بعلمه)، وقال ابن حجر على نصبه في صواعقه المحرقة: (ونقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان).
وفي مناقب ابن شهرآشوب: (ينقل عنه من العلوم ما لا ينقل عن أحد)، وقال أيضاً: (قال نوح بن دراج لابن أبي ليلى: أ كنتَ تاركاً قولاً قلتَه، أو قضاء قضيتَه لقول أحد؟. قال: لا، إلا رجلاً واحداً. قال: مَنْ هو؟. قال: جعفر بن محمد (عليه السلام).
وقال الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد : (نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل).
وقال المحقق في المعتبر: (انتشر عن جعفر بن محمد (عليه السلام) من العلوم الجمَّة ما بهر به العقول)، وفي تاريخ العرب للسيد مير علي: (وهو ـ الإمام الصادق ـ رجل رحب أفق التفكير، بعيد أغوار العقل، ملم كل الإلمام بعلوم عصره. ويعتبر في الواقع أول من أسس المدارس الفلسفية المشهورة في الإسلام، ولم يكن يحضر حلقته العلمية أولئك الذين أصبحوا مؤسسي المذاهب فحسب، بل كان يحضرها طلاب الفلسفة، والمتفلسفون من الأنحاء القاصية).
ويستطرد الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله) بعد نقله العديد من أقوال العلماء عن علم وفضل الإمام الصادق (ع) فيقول: روى عنه راوٍ واحد وهو أبان بن تغلب ثلاثين ألف حديث، وروى النجاشي في رجاله بسنده، عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث).
وروى النجاشي في رجاله بسنده، عن الحسن بن علي الوشاء أنه قال: (أدركتُ في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ، كل يقول: حدثني جعفر بن محمد)، فأي إنسان في تاريخ البشرية منذ آدم الأول (ع) يُنقل عنه، ويكون رواته ونقلة علمه، وتلاميذه بهذا العدد الذي قد يصل إلى العشرين ألف على ما ينقله السيد الشيرازي الراحل؟
أستاذ لم يتتلمذ على أحد
والإمام الصادق (ع) أستاذ الفقهاء، والعلماء، ومعلم البشرية، وإمام الخلق، وحجة الله عليهم لم يتتلمذ على يد مخلوق قط، ولم يتحدث التاريخ أنه درس وتعلم عند إنسان إلا عند جده الإمام علي زين العابدين (ع)، الذي تتلمذ في طفولته المبكرة عليه لعمر 12 عاماً، ثم على يدي والده الإمام الباقر لعشرين سنة، ثم تصدى للإمامة لأكثر من 35 عاماً وكان أطول الأئمة عمراً (ع)، وذلك لأنه كان (عليه السلام) يقول: (حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، وحديث علي حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وحديث رسول الله قول الله عز وجل).
ونثبتُ هنا شهادة لها أثر لا بأس به عن سالم بن أبي حفصة، قال: لما توفي أبو جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام)، قلتُ لأصحابي: انتظروني حتى أدخل على أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام) فأعزِّيه، فدخلتُ عليه فعزَّيته، ثم قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله مَنْ كان يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلا يسأل عمَّنْ بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لا والله لا يرى مثله أبداً.
قال: فسكت أبو عبد الله (عليه السلام) ساعةً، ثم قال: (قال الله عز وجل: إن من عبادي مَنْ يتصدَّق بشقِّ تمرة، فأربِّيها له كما يُربِّي أحدكم فلوَه، حتى أجعلها له مثل أحد).
فخرجتُ إلى أصحابي، فقلتُ: ما رأيتُ أعجب من هذا، كنَّا نستعظم قول أبي جعفر (عليه السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا واسطة، فقال لي أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله عز وجل بلا واسطة).
يستعظمون النقل عن رسول الله من شبيهه وحفيده والذي بشَّر به قبل ميلاده بسنوات طوال ويأخذون من أبي هريرة الدوسي الذي لم يأت إلى المدينة مستسلماً من الفقر والعوز والجوع إلا في الأيام الأخيرة لرسول الله (ص) وكان في أهل الصفَّة ولا يجتمع مع رسول الله (ص) إلا صدفة، ويأخذون كل أحاديث بدء الوحي والنزول القرآن الفترة المكية والهجرة والغزوات عنه وهو لم يحضرها ولا أحد يعلم من أين أخذها، ولا يستعظمون ذلك عليه لأنه من لجنة التزوير التي ألَّفها معاوية وعمرو بن العاص للكذب على رسول الله (ص)، وإلى الآن هذه الأمة تأخذ دينها عن هذا الدَّوسي الذي كان يقول: حدثني، وأخبرني، وقال رسول الله (ص) ولا أحد يسأله عن كذبه وتدليسه، ولا يأخذون عن الإمام الباقر (ع) أو ولده الإمام الصادق (ع) الذي ما أخذ إلا عن هذه السلسلة الذهبية كما هم سمُّوها.
فعن سدير الصيرفي، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، وقد اجتمع إليَّ ماله، فأحببتُ دفعه إليه، وكنتُ حبستُ منه ديناراً؛ لكي أعلم أقاويل الناس، فوضعتُ المال بين يديه.. فقال لي: (يا سدير، خُنتنا ولم ترد بخيانتك إيانا قطيعتنا)، قلتُ: جعلتُ فداك، وما ذاك؟! قال: (أخذت شيئاً من حقنا؛ لتعلم كيف مذهبنا)، قلتُ: صدقتَ جعلتُ فداك، إنما أردتُ أن أعلم قول أصحابي، فقال لي: (أما علمت أن كل ما يُحتاج إليه نعلمه، وعندنا ذلك، أما سمعت قول الله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ)، اعلم أن علم الأنبياء محفوظ في علمنا، مجتمع عندنا، وعلمنا من علم الأنبياء، فأين يذهب بك).
قلتُ: صدقت جعلت فداك).
هذا غيض من فيض الإمام الصادق (ع) فآلاف التحية والثناء والسلام عليه، وكل عام وأنتم بألف خير وبركة ونور وعلم مما كان لديه من نور الولاية وعلوم كونية أحبتي.
اضف تعليق