الامام أبو محمد الحسن بن علي العسكري، عليه السلام، الذي تمر هذه الايام ذكرى استشهاده، واكب هذه المرحلة من التاريخ الاسلامي حيث وجد أن التراث الديني مهددٌ بشكل خطير بالتهميش والضياع، وفي المقدمة؛ القرآن الكريم، الى جانب السنّة النبوية الشريفة، واذا كنا نردد باستمرار؛ أن الاسلام بأحكامه ونظامه...
عندما تسود الفوضى، ويفقد الناس الأمن على حياتهم وممتلكاتهم وحرماتهم، وتسفك الدماء، وتزهق الأرواح بالجملة بسبب الحروب على المُلك، او بسبب السياسات القمعية للحكام الظلمة، متسترين بمظاهر دينية، وألقاب مقدسة يراها الناس "خطاً أحمراً"، فان البحث يجري في كل الاتجاهات بحثاً عن مخرج الى الخلاص، وهذا ما نقرأه في تاريخنا الملطخ بالدماء والمشحون بالفتن والملاحم.
وفي هذه المسيرة يتقدم من نعدهم اليوم "المثقفون"، وهم؛ المؤرخون، والعلماء، والفقهاء، والأدباء لحمل راية التغيير، وقيادة الناس نحو ما يرونه أنه سواء السبيل، وأحداث التاريخ تشير الى الإصابة حيناً، والانحراف احياناً اخرى، فيستحيل حامل لواء التغيير طاغية جديد، بثوب جديد.
ترجمان القرآن محاصر وترجمان اليونان مرفّه!
الامام أبو محمد الحسن بن علي العسكري، عليه السلام، الذي تمر هذه الايام ذكرى استشهاده، واكب هذه المرحلة من التاريخ الاسلامي حيث وجد أن التراث الديني مهددٌ بشكل خطير بالتهميش والضياع، وفي المقدمة؛ القرآن الكريم، الى جانب السنّة النبوية الشريفة، واذا كنا نردد باستمرار؛ أن الاسلام بأحكامه ونظامه، بقي حيّاً نابضاً ومعطاءً بفضل تضحيات الإمام الحسين، عليه السلام، في واقعة عاشوراء، فان الفضل مستمر دون انقطاع في تضحيات الأئمة الاطهار من ولد الامام الحسين، عليهم السلام، وإلا فان العهد العباسي كاد أن يقضي على المنظومة الفكرية الرسالية التي أرسى دعائمها رسول الله، من خلال طرح بدائل عن القرآن الكريم وعن السنة النبوية واتخاذ سبل اخرى أقرب الى فهم الناس وقناعاتهم، على أنها أطواق نجاة من الظلم و استباحة الدماء والحرمات.
يكفي أن نشير الى واقعة واحدة من عشرات الوقائع المريرة والبشعة التي شهدها الإمام الحسن العسكري في حياته، عندما بلغ الصراع الدموي على كرسي الحكم مستوى من الانحدار أن تكون "أم الخليفة" سبباً في انقضاض الجيش والقادة من أصول تركية على ابنها وسحبه من رجله خارج غرفته بعد تفاقم أزمة الرواتب، فجاء المعتزّ الى أمه، واسمها "قبيحة"! وكان يشكّ في تكديسها للذهب والفضة، وطلب منها مبلغاً من المال لتغطية رواتب الجيش والتخلص من الضغوط الشديدة، فقالت له: ليس عندي مال! وعندما انقضّ قادة الجيش العباسي في بغداد على هذه الخليفة، وأطاحوا به وبأمه، وجدوا في قبو تحت قصرها أكداس الدنانير والمجوهرات الثمينة ما قدره مليون دينار ذهب!، فقد كانت المجوهرات والدنانير الذهبية أغلى عند سكان القصور أغلى بكثير من أرواح آلاف المسلمين.
هذه المشاهد المريعة هي التي أفسحت المجال أمام أفكار بديلة عن القرآن الكريم، الذي هو هدى وبشرى للمؤمنين، ونزل بلسان عربي مبين، وتأكيدات واضحة على أنه الدليل والسبيل الى النجاة دون غيره ممن يلمّ بالانسان من الازمات والمحن والجهل، وقد واجه الإمام العسكري الجدل الدائر حول مذهب الاعتزال الذي تبناه المأمون ومن بعده ابنه المعتصم، ثم تنكّر له المتوكل وعارضه، وهو المذهب المعروف باعتماده العقل للوصول الى الحقائق الدينية، مثل الخالق، والوجود، ومن أبرز متبنياتهم؛ قولهم بأن القرآن مخلوق مثل أي خلق آخر، وليست آيات نازلة على قلب الرسول الأكرم على لسان الوحي (جبرائيل) في ضوء أحداث جرت في حياة النبي، و أن ليس هناك شيء اسمه "كلام الله" الى البشر، وقد أشرنا الى بعض هذه الافكار في مقالات سابقة.
وفي الوقت الذي كان يتعرض الامام العسكري للإقامة الجبرية، والضغوطات والاستفزازات في سامراء، عاصمة الدولة العباسية، وكان يتواصل مع اصحابه بالكتمان والخفية، كان الحكام العباسيون يواصلون دعمهم ورعايتهم للفلاسفة والمترجمين للكتب الفلسفية من الثقافة اليونانية والمجوسية والهندية، ومن بين هؤلاء؛ يعقوب بن اسحاق الكندي، الذي يلقبه الكتاب العرب اليوم بـ"فيلسوف العرب"، كونه أول من نقل الفلسفة اليونانية الى المسلمين، وقد عُدّ من أكثر المترجمين مهارة منذ عهد المأمون الذي أوكل اليه ترجمة الكتب الفلسفية اليونانية لإتقانه اللغة اليونانية، وقد عُرف عنه اضطلاعه بعلوم شتّى في الطب والهندسة والفلك والكيمياء والرياضيات وحتى الموسيقى، وهذه العلوم وغيرها أتقنها الكندي من دراسته الكتب الاجنبية التي تحولت بالنسبة اليه مصدر العلم والمعرفة بلا منازع.
كان محظوراً على الامام العسكري الالتقاء بالمؤمنين من اتباعه بعد اعتقاله في مكان عُرف بأنه "خان الصعاليك"، نكاية بالإمام ومحاولة من العباسيين للنيل من مكانته في المجتمع، بالمقابل نلاحظ الفلاسفة مكرمون منعمون في "بيت الحكمة" الذي أسسه المأمون، واستمر ليتحول الى معلم فكري وثقافي لأنه بات مصدراً للفكر والمعرفة بدلاً من القرآن الكريم الذي كان يُدرس في المساجد، لاسيما المسجد النبوي، وفي مسجد الكوفة على يد الأئمة المعصومين، والعلماء الأفذاذ من اتباعهم أمثال جابر بن حيان، ومحمد بن مسلم، هشام بن الحكم في عهد الامام الصادق، ومن جاء بعدهم، يستلهمون منه شتى أنواع العلوم والمعارف التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يتحدثون بمسألة او قاعدة علمية تتعرض فيما بعد للنقد والتجريح والتغيير.
أحد العلماء أشار الى سبب –من جملة اسباب- كراهية الحكام من اتخاذ القرآن الكريم مصدراً للفكر والمعرفة، وهو؛ أنه يوجه الناس الى مسؤوليتهم إزاء الحاكم بأن لا يتحول الى صنم وإله يعبد من دون الله، وحتى النفس البشرية ربما تتحول الى صنم وإله لصاحبها على حين غفلة، وهذا ما نلاحظه على طول الخط، والى اليوم؛ خشية الحكام من الحديث عن الشرك، بينما ارتياحهم للحديث عن الايمان والاخلاق وكل ما يدعو الى الايجابية والانبساط بما من شأنه أن يؤدي الى الرضوخ للأمر الواقع، وقد عاضدهم بعض الفلاسفة في مقولة له بأن "ليس بالإمكان أفضل مما كان".
الكندي يدرك الحقيقة
الى جانب صنوف العلوف والمعارف التي برع فيها الكندي، خصص وقت للقرآن الكريم، ولكن ليس للتأمّل في الآيات والتدبر فيها، كما أمره الله –تعالى- لاستخراج الافكار والرؤى منه، وإنما للبحث –حسب دعواه- عن الثغرات والتناقضات في الآيات، ربما سعياً لإضفاء الشرعية للجوئه الى غير القرآن في علومه ومعارفه، ومما حاجج به الكندي الآية الكريمة: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}، وفي آية أخرى جاءت الدعوة المباشرة بأن {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، ونترك الرد والتوضيح لأهل الاختصاص، والفارق بين العدل بين النساء، والعدل على الصعيد الاجتماعي، ونتوجه الى الإمام العسكري وسعيه لإرشاد الكندي الى خطأه في فهم القرآن الكريم، فقد دعا أحد تلامذته لأن يذهب اليه ويسأله مسألة كلامية (فلسفية)، بأن "اذا أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم غير المعاني التي قد ظننتها أنك ذهبت اليها، فانه سيقول لك إنه جائز، لأنه رجل يفهم اذا سمع، فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت اليه فيكون واضعاً لغير معانيه".
ولما سمع الكندي هذا من تلميذه عرف أن الرسالة جاءت من الإمام العسكري، فقال: "ما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت"، ويقصد أهل بيت الوحي والنبوة، وجاء في بحار الأنوار أن الكندي دعا بالنار وأحرق جميع ما كان ألفه".
بهذا الاسلوب حفّز الامام العسكري نداء الفطرة والوجدان في نفس الكندي، مستفهماً منه بكيفية القطع بتفسير وتأويل آية قرآنية قبل أن يعرف حكمة ومُراد الله –تعالى- من هذه الآية، مما يجعله في تقاطع مع القصد الحقيقي للآية.
وفي الرواية المنقولة في المصادر التاريخية طلب الإمام العسكري من تلميذ الكندي "أن يتلطف في مؤانسته ومعونته، فاذا وقعت الأنسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة اسألك عنها"، ولم يباشره بسؤال فيه ذكر البارئ –تعالى- وأن الخالق والمنزل الكتاب والذكر الحكيم، بل قصده مما هو فيه من الاشباع في الحكمة الذاتية الخاصة به، وبما يفهمه ويتفاعل معه من المسائل الكلامية.
وهكذا بعث الامام العسكري روحاً جديدة في القرآن الكريم في تلك المرحلة من الزمن، وترك لنا تفسيره للقرآن الكريم الذي وصفه الإمام الشيرازي الراحل بأنه "تفسير معتبر وحجة، يصحّ الاعتماد عليه"، ثم ذكر اسماء "جمع من كبار علماء الإمامية اعتمدوا هذا التفسير منهم: الشيخ الصدوق، والشيخ الطوسي، والمحقق الكركي، والشهيد الثاني، ومحمد تقي المجلس والد العلامة المجلسي صاحب البحار".
هذا الوجود المشعّ للإمام العسكري لم يدعه العباسيون طويلاً، فقد دبّر المعتمد العباسي أمر اغتياله بالسمّ كما فعل أسلافه مع الأئمة المعصومين من قبل، فرحل الامام الى جوار ربه وهو في ريعان الشباب، في سن التاسعة والثلاثين من العمر، ولم تدم إمامته سوى ست سنوات، وخلف لشيعته وللأمة تراث عظيم من العلوم والمعارف بما من شأنها بناء الفرد والمجتمع كما أراد الله –تعالى- ومما جاء في إحدى رسائله لشيعته: "أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة الى من ائتمنكم من برّ او فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، صلوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدوا حقوقهم، فان الرجل منكم اذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل: هذا شيعي، فيسرّني ذلك". (من حياة الإمام العسكري- المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي).
اضف تعليق