لا جدال في العمران والتوسعة كأحد خطوات التطوير والتنمية في البلاد الطامحة للتقدم الاقتصادي، بيد أن البلاد ذات العمق الحضاري والثقافي تحرص على بقاء مساحة جيدة لتراثها وتاريخها بين مشاريع التوسعة والتطوير، ولا تسمح أن تكون ناطحات السحاب، والشركات الضخمة، والفنادق والمجمعات التجارية على حساب أبنية تاريخية...
"ما اسم هذه الأرض؟ قيل له: يُقال لها: كربلاء، فقال الامام الحسين: إنها أرض كربٌ وبلاء".
ما روي عن الامام الحسين، عليه السلام، قبل واقعة عاشوراء
التراث في مدينة كربلاء له عنوانين: الاول: تراث معنوي، والثاني: تراث مادي.
التراث المعنوي يتجسد في المرقد الشريف للإمام الحسين، وأخيه أبي الفضل لعباس، عليهما السلام، وما له من أبعاد ثقافية وحضارية واجتماعية أضفى القدسية على هذه الأرض (المدينة).
أما التراث المادي، فهي المعالم الأثرية التي وجدت لنفسها مكاناً حول الضريحين الشريفين منذ الايام الاولى لتشييد المرقدين الشريفين، بما يعني أنها اقتبست –في كل الاحوال- الروح والهوية منهما، الى درجة أن اكتسبت بعض هذه المعالم صفة القدسية كما سنأتي عليها خلال استعراض هوية كربلاء المقدسة، ومن الناحية التراثية هذه المرة.
معالم أثرية تتكلم!
ألّف الباحثون والمؤرخون الكثير عن تاريخ مدينة كربلاء المقدسة، لاسيما من الناحية العمرانية التي بدأت من قلب المدينة النابض؛ مرقد الامام الحسين، ومن ثمّ مرقد أخيه أبي الفضل العباس، عليهما السلام، وما تم تشييده على الضريح المقدس منذ العهود الاولى بعد واقعة عاشوراء، وما تم ترميمه وإضافته وتوسعته ليكون بالشكل الذي نراه اليوم.
الى جانب هذا الصرح العظيم، ثمة معالم أثرية تكتسب قدسيتها وأهميتها، وايضاً مكانتها في الوجدان الشيعي، لما تجسد من ذكريات محفزة للمشاعر إزاء القضية الحسينية، منتشرة في مدينة كربلاء المقدسة، وباتت جزءاً لا يتجرأ من هوية المدينة، يؤمّها الزائرون، مثل؛ المخيم الحسيني، والتل الزينبي، ومقام كفي أبي الفضل العباس، عليه السلام، وايضاً، معالم أثرية مثل؛ "السقاخانة" أو السبيل التي تم تشييدها استلهاماً من قضية العطش المحورية في واقعة عاشوراء، ومنذ فترات تاريخية بعيدة، وقد جاء في كتاب "كربلاء في الذاكرة" لمؤلفه السيد سلمان هادي آل طعمة، أن في كربلاء كانت توجد تسعة عشر سقاخانة تمنح الماء العذب لأهل المدينة وللزائرين، وكان حول مرقد الامام الحسين لوحده اربع سقاخانات شيدها أمراء الدولة العثمانية وشخصيات عراقية، وبمرور الزمن تمت إزالتها بدعوى التوسعة، وبقي منها واحدة فقط، وهي "سبيل الحاج علي شاه" الكائن في الزقاق المعروف عند الكربلائيين بـ "عكد شير فضة" المتفرع من سوق العلاوي الشهير، ومما يؤسف له حال هذا المعلم حيث يحجبه عن الناظر، الاتربة والانقاض، رغم بقاء بعض ملامحه من الكاشي الكربلائي والسياج الحديدي، ويعود انشائه الى سنة 1324هـ الموافق لعام 1906م.
وفي كربلاء المقدسة معالم أثرية على شكل حسينيات ومساجد ومدارس ومكتبات ومقابر وخانات وحسينيات كلها تعكس عبق الماضي، والعشق والولاء العميق للإمام الحسين، عليه السلام، كلٌ وما كان يقدمه في هذا الطريق من علم ومعرفة وخدمة للزائرين ولأهالي المدينة على حد سواء، ولمن يتجول في ربوع المدينة اليوم، لن يجد أثراً من تلك المعالم، إلا القليل جداً مثل؛ طاق الزعفرانية الجميل في محلة باب الطاق في الجهة الشمالية للحرم الشريف، وهو الآخر تحوم حوله مشاعر القلق من احتمال الازالة، ويعود تشييده الى حوالي مائتي عام.
واذا كانت السقاخانات تروي العطاشى، فان طاق الزعفراني يعد رمزاً ثورياً لأهالي كربلاء فقد كان مقراً لاجتماع الثوار ضد الوالي العثماني نجيب باشا عام 1842م و تعود تسمية الطاق الى السيد ابراهيم الزعفراني قائد الثورة آنذاك، وكان بيته ملاصقاً للطاق، وفق المصادر التاريخية.
التوازن الدقيق بين الأصالة والمعاصرة
لا جدال في العمران والتوسعة كأحد خطوات التطوير والتنمية في البلاد الطامحة للتقدم الاقتصادي، بيد أن البلاد ذات العمق الحضاري والثقافي تحرص على بقاء مساحة جيدة لتراثها وتاريخها بين مشاريع التوسعة والتطوير، ولا تسمح أن تكون ناطحات السحاب، والشركات الضخمة، والفنادق والمجمعات التجارية على حساب أبنية تاريخية مثل الكنائس، والابراج، والقلاع، ومختلف المعالم الاثرية.
يكفي أن نلقي نظرة على فرنسا والمانيا وبريطانيا التي تأثرت بشدة من آثار القصف الجوي في الحرب العالمية الثانية، وفي الصور التي تعود الى تلك الحقبة نلاحظ ان برلين ولندن ومدن عديدة تحولت الى انقاض، بيد أن اليوم نلاحظ المباني الاثرية القديمة تزهو بأشكالها الجميلة ومعالمها الأصيلة كما لو لم يمسها سوء منذ تشييدها قبل مئات السنين، وهذا يعود بالفضل الى علماء الآثار، ومهندسين مختصين بالابنية القديمة لإعادة بنائها بنفس الطراز القديم، او ترميم ما يمكن ترميمه بالاستفادة من كل جزء من البناء.
وفي العراق لا نشكو من قلة المهندسين المهرة ممن يحملون الروح الحسينية والحرص على الثقافة والتاريخ المجيد لهذه المدينة بأن يعيدوا تلك المعالم بنفس الطراز الأول، او قريب منه، مثل التل الزينبي الذي كان حتى وقت قريب كائن على مرتفع من الارض قبالة الحرم الحسيني الشريف، وهو المرتفع الذي احتفظ بمكانه طيلة العقود الماضية، رغم الظروف السياسية والتحولات التي عصفت بكربلاء قبل ان يتم هدمه مع سوق الزنبية الملاصق له، وفيما بعد تم إعادة تشييده، فكان الأجدر إعادة بناء هذا المقام المهيب والعزيز على الذاكرة الشيعية بنفس تلك المعالم الأولى، ليشهد الناس أن امامهم "تل زينبي" وهكذا الحال بالنسبة للمعالم الأثرية الاخرى في المدينة المقدسة.
ومن نافلة القول في هذا السياق، أن مدينة كربلاء اساساً تعد هي بحد ذاتها معلماً تاريخياً، لاسيما المدينة القديمة بأسواقها ومساجدها وشوارعها وأزقتها ومدارسها وحتى بيوتها، كلها تحتفظ بعبق التاريخ والثقافة، فمن غير الانصاف غضّ النظر عن كل هذه المعالم لحساب مشاريع استثمارية بدوافع تجارية لا تمت بأي صلة لهوية كربلاء المقدسة، لأن كل عمود دائري في شوارعها القديمة، وكل زخرفة في واجهات البيوت، وكل زقاق، وكل حسينية، او مدرسة، له استحقاق ثقافي بالترميم والإصلاح ليظهر بصورة بهيّة، ربما تكون ذات مدخلية لتشجيع السياحة وجذب الزائرين من كل مكان.
اضف تعليق