مرّ المذهب الإمامي بظروف وأحداث إبّان فترة الإمامة في عصر الظهور، كان لها الأثر الواضح في التوجه العقائدي، والسير العملي المستند الى النص الشرعي، والتغيرات المصاحبة لذلك في عالم الثبوت والواقع.
ومن تلك الأحداث ما وقع للإمام محمد الجواد(ع) في حياة أبيه الرضا(ع) وما بعدها. فقد كانت حياة الإمام الجواد(ع)، في بدايات سنين إشراقه في سماء هذا الوجود، حافلةً بظروف وأحداث مثيرة، تركت بصماتها جلية على المسار العقائدي والفقهي لدى شيعة أهل البيت(ع).
فلم يتجاوز الإمام الجواد(ع) الرابعة من عمره الشريف حتى وصل كتاب المأمون العباسي الى أبيه الرضا(ع) يأمره بالمصير إليه في خراسان، حيث عاصمة مملكته، ليدبر من تنصيب الرضا(ع) وليًّا لعهده، أمرا ليس له من المصلحة للإمام وشيعته من شيء، بمقدار ما يعود بالتقوية لسلطان المأمون، وكسر شوكة معارضيه من علويين وغيرهم. ومن اللافت أن الإمام الرضا(ع) لم يصحب معه ابنه الجواد(ع) في رحلته التي أيقن أن لا عودة معها الى مدينة جده، فقد أوكل الإمام الرضا(ع) جلَّ مسؤولياته التي كان يزاوله، والتزاماته التي قام بأعبائها، الى ابنه الصغير محمد الجواد(ع)، على الرغم من صغر سنه من جهة، وثقل تلك المسؤوليات والالتزامات من جهة أخرى. فقد أمر الإمام الرضا(ع) جميع وكلائه بالسمع والطاعة له، وترك مخالفته، ونصَّ عليه عند ثقاته، وعرَّفهم أنه القيِّم مقامه.
وفي هذا السلوك من المعصوم إزاء ابنه تصريح بالعناية الفائقة التي أولاها لابنه ليقوم للناس مقامه، وليهيأ الأرضية الذهنية والنفسية لدى الشيعة بتقبل مسألة صغر السن في مسائل الإمامة وشؤونها.
وتَحملُ الرسائل التي كتبها الإمام الرضا(ع) الى ابنه الجواد(ع) معاني سامية في الإشارة الى ابنه باللياقة التامة للمكانة التي نصبه فيها، مع اللغة الفخمة الحاملة لكل كلمات الاحترام والتبجيل التي يتعدى مدلولها الواقع الأخلاقي الذي يتسم به أئمة أهل البيت(ع)، الى التنويه باستحقاق الجواد(ع) لمنصب الإمامة برغم صغر سنه. فقد أوعز إليه في رسالة له قائلا" يا أبا جعفر بلغني أن الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير، وإنما ذلك من بخل بهم لئلا ينال منك أحد خيرا، فأسألك بحقي عليك، لا يكنْ مدخلك ومخرجك إلا من الباب الكبير، وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة، ثم لا يسألك أحد إلا أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تَبَرَّهُ فلا تعطه أقل من خمسين دينارا، والكثير إليك، ومن سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة وعشرين دينارا، والكثير إليك ، إني أريد أن يرفعك الله، فأنفق ولا تخشَ من ذي العرش إقتارا ".
وما إن غمضتْ عينا الرضا(ع) والتحق بربه، حتى دخل الشيعة في اختبار العمر في مسألة الإمامة. إذ كان عمر الإمام الجواد ست سنين، وقد أصاب الشك بعض أصحاب أبيه في إمامته لصغر سنه، ويعزم علماء الشيعة في الكوفة بقطع شكوكهم والتوجه الى المدينة حيث الإمام الجواد(ع) يختبرونه، ويقفون على وجه الحق في مسألة الإمامة بعد الرضا(ع). وكان الإمام الجواد قد اتخذ من بيت جده الصادق(ع) بالمدينة موئلا للشيعة، ومجتمعا لهم. وقد غّص البيت بالناس، قدموا من كل حدب وصوب للنظر في شأن (الإمام بعد الرضا). فما كان من الإمام الجواد(ع) أمام تلك الحشود المئوية من العلماء، إلا أن يزيل حجب الشك، ويميط اللثام عن صريح الحق، حين تصدى للإجابة عن كل ما طرح عليه من المسائل التي ناهزت الثلاثين ألف مسألة في مختلف أنواع العلوم والفنون. وكشفت هذه الاختبارات عن استحقاق الإمام الجواد(ع) لمنصب الإمامة، ليس لقدرته على الإجابة عنها وعن غيرها حسب، بل للعمر الصغير الذي لا يتناسب -بحسب المعتاد الإنساني- على الإحاطة بجملة كبيرة من العلوم مع عدم تردده في الإجابة عنها، وعدم أخذه العلم من أحد.
وبحصول القطع واليقين لدى الشيعة بإمامة الجواد وهو (صبي) دخلت الطائفة في مسار جديد يهيء نفوسهم لتقبل صغر (الإمام). ويمهد الناس لتقبّل إمامة المهدي المنتظر(ع) الذي تسلم منصب الإمامة وهو ابن خمس سنين. ولولا ما دخلت به الطائفة بعلمائها وعوامها من اختبارات في إمامة الإمام الجواد(ع) وخروجهم باليقين من إمامته على صغر سنه، لكان للطائفة مع تقبل إمامة المهدي(ع) وغيبته شأن آخر. وهذا ما يفسر لنا قول الرضا(ع) حين ولد ابنه الجواد "هذا المولود الذي لم يولد فينا مولود أعظم بركة على شيعتنا منه". ويوضح الربط الذي أحكمه رسول الله(ص) بين الإمام الجواد وحفيده المنتظر بقوله(ص) " بأبي ابن خيرة الإماء ابن النوبيّة الطيّبة، يكون من ولده الطريد الشريد، الموتور بأبيه وجدّه، صاحب الغيبة، فيقال: مات أو هلك. أيّ واد سلك "
اضف تعليق