q

جُمعت في صفاتك الأضداد.......ولهذا عزت لك الأنــــداد (1)

هذا اليوم يوم عظيم من أيام الله، وهو ذكرى ميلاد مولى الموحدين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين أسد الله الغالب الإمام علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه).

إن العظماء والقادة والمشاهير في التاريخ كثيرون، ولكن عندما تقرؤون تاريخ العظماء تجدون أن شخصيات معظم هؤلاء ذات بُعد واحد، فكل شخصية منهم كان عظيماً في بُعد من أبعاد الحياة، أو جانب من جوانبها؛ فهنالك عالم في الطب ولكنه فاقد لبقية العلوم، حتى إذا افترضنا أنه كان عالماً موسوعياً ومحيطاً بجانب من كل العلوم، فإنه يبقى عالماً نسبياً فقط، ولكن ليس له شيء آخر وراء العلم؟ وهل له نبوغ في بعد آخر من أبعاد الكمالات الأخلاقية وإدارة المجتمع وتربية الأجيال؟ كلا؛ وإنما عالم وحسب.

يقول بعض الفلاسفة مثل ابن سينا: إن غالب العلماء في الطب أو في الطبيعة أو في الرياضيات لا يكونون شجعاناً، وغالب الشجعان لا يكونون علماء؛ فكأن هذا العلم والمعرفة تخلق في داخل النفس نوعاً من التحفظ، لذلك يكون العالم جباناً، فيما قد لا يكون الشجاع عالماً؛ فيوجد نوع من التعارض على الأغلب بين الحالتين.

لذا لا نقرأ في كتاب ولا نسمع من الخطباء أن لحاتم الطائي صفة ثانية غير الكرم التي كان يتميّز بها، ولم ينقل عنه أنه كان شجاعاً أو عابداً أو زاهداً.

وكذلك كان الأحنف، حيث كان يُضرب به المثل في الحلم كما يذكر التاريخ، إذ كان يعفو عمن كان يُسيء إليه، وكان سقراط وأفلاطون مفكرين من عمالقة الفكر البشري، لكن لم نقرأ أن سقراط أو أفلاطون أو أرسطو كانت لهم صفة ثانية غير صفة الفكر، وحتى إذا كانت عندهم صفة ثانية من صفات الكمال، إلا أنها لا تكون بالوضوح والظهور الكافي، ولم يكن لأصحابها النبوغ في تلك الأبعاد والجوانب الأخرى.

لذا فإن قلة من العظماء والمشاهير من نجدهم ينبغون في أكثر من بعد، كما نجد قلة من قلة من يجمع بين الأبعاد المختلفة، وقلة من قلة هم القمة والصفوة الذين قد لا يتجاوزون عدد الأصابع.

وثمة من الأفراد من يجمعون ليس فقط بين الصفات المتعددة وإنما بين الصفات المتناقضة عادة، حيث إن هناك صفات متناقضة وهنالك صفات غير متناقضة، فأن يكون الإنسان كريماً ويكون أيضاً شجاعاً، فإن ذلك لا يعد تناقضاً، لكن توجد بعض الصفات المتناقضة التي لا يمكن عادةً أن تجتمع في نفس واحدة، إلا إذا كانت هذه النفس عظيمة جداً، من هنا يخاطب ذلك الشاعر أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه) ويقول:

جمعت في صفاتك الأضداد.......ولهذا عزت لك الأنــداد

من هنا فإن نظائر وأشباه الإمام علي (صلوات الله وسلامه عليه) قليلون جداً على مر التاريخ فليس له نظير إلا المعصوم (صلوات الله عليه).

قد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) حاكماً وعالماً أيضاً، وهو ما لا نجده في التاريخ كله، فعندنا علماء لكنهم ليسوا بحكّام، فيما عندنا حكّام ولكنهم ليسوا بعلماء، فالحكم يعني إدارة البلاد والعباد، وهو ما يحتاج إلى طاقات هائلة وتفرّغ، وحتى وإن كان مديراً لمعمل فإنه لن يتمكن من التفرّغ لطلب العلم، وعليه لا يمكن عادةً الجمع بين الإدارة وبين العلم، إلا أن أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) كان حاكماً وعالماً.

كما كان حليماً وشجاعاً؛ فالشجاع عادة لا يكون حليماً وإنما يكون شديداً، حيث تدفعه القوة إلى البطش، إلا أننا نجد شخصية الإمام في قمة الشجاعة وأيضاً هو في قمة الحلم، فهو حاكم، عالم، حليم، شجاع، فاتك، ناسك، فقير، جواد.

فهو فقير لا يملك شيئاً ولكنه جواد، فهل تجد فقيراً يكون جواداً؟!

وهل تجد جواداً فقيراً؟! لأن الذين ينفقون عادةً يكونون من المقتدرين، فالمشاريع الخيرية لا يقيمها سوى المؤمنين المقتدرين، ولو قدرة في حدود، ولكن كيف إذا أخذ الإنسان من قوت نفسه وعائلته وأعطاه للفقراء في سبيل الله؟ إنه الفقير الجواد.

خلقٌ يخجل النسيم من اللطف......وبأس يذوب منه الجمــــــــــــاد

شيمٌ ما تجمعنّ في بشر قــــــــط......ولا حاز مثـلهنّ العبــــــــــــــادُ (2)

من صفات أمير المؤمنين (عليه السلام)

في هذه العُجالة نشير إلى بعض هذه الصفات التي تميّز بها أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، لعلنا نتعلم منها:

أولاً: التواضع

وهي حالةٌ روحية تظهر على جوارح الإنسان، بمعنى أن يُظهر الإنسان المتواضع تواضعه في كلامه وسيره وحركته وسكونه، وفي تعامله مع المجتمع ومع أولاده ومع الذين يخدمونه.

لكن ما هو منشأ حالة التواضع هذه؟ ولماذا يكون الإنسان متواضعاً؟ أو لماذا يكون متكبّراً؟.

يجيب أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) عن هذا السؤال بقوله: (ما تواضع إلا رفيع)(3)، أي إن التواضع دليل رفعة النفس وعظمتها، ودليل شموخ الروح، فالإنسان الرفيع والعظيم والشامخ هو الذي يتواضع.

كما أن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يبين هوية المتكبّر في قوله: (ما تكبّر إلا حقير)(4)! وهي كلمة حادّة، ولكن الأئمة (صلوات الله عليهم) كانوا يبيّنون الحقائق كالمرآة، ليكشفوا مواطن الخلل، ولا ينبغي لأحد أن ينزعج من بيان الحق؛ فهذه هي علة التكبّر.

إن عقدة الحقارة، آخر مكتشفات علم النفس في الوقت الحاضر، والتكبر ينشأ من حقارة في النفس؛ فالمصاب بعقدة الحقارة يحاول تغطية هذه العقدة بالمظاهر الخارجية، من قبيل التجبّر والتكبّر، وعبر النظر إلى نفسه بأنه فوق الآخرين أو أعلى منهم.

هذا الواقع التكويني النفسي كشف عنه الإمام علي (صلوات الله عليه).

من جانب آخر يقول الإمام الصادق (صلوات الله عليه): (ما تكبّر رجل إلاّ لذلّة يجدها في نفسه)(5)، وإلا فالإنسان المتوازن وذو الشخصية التي يسمّيها علماء النفس بالسويّة، لا يحتاج إلى تكبّر؛ إذن فالذي يتكبر ويتعالى على الآخرين هو شخصية مريضة، وهكذا إنسان يكون حقيراً وذليلاً أيضاً، لذا لا ينبغي لأحد أن يتكبر على الآخرين، مضافا إلى أن ذلك الإنسان العادي الذي تكبر عليه ربما يكون أفضل من ذلك المتكبّر، لاسيما وأنه من خلق الله تعالى، وقد جاء في الحديث الشريف: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم)(6).

وحتى إذا افترضنا أن ذلك الإنسان كان بالفعل أقل شأناً منك، لكن كما أشرنا فيما مضى من الحديث لابد للإنسان أن يتعامل مع الآخرين بتواضع لا من خلال شخصيته الاعتبارية ولا من خلال شخصيته الحقيقة، حتى التفوق والكمال لا بد أن لا يكون مبرراً للتعالي على الآخرين.

نماذج من تواضع الإمام علي (عليه السلام)

لقد حلّ الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أعقد المعادلات الرياضية بكلمة واحدة قبل أربعة عشر قرناً من الزمن(7)، وهو الشخصية الثانية في الكون كله بعد النبي الأكرم (صلوات الله عليه)، ومع تلك الصفات العظيمة التي كان يحملها، والكمالات الحقيقية والاعتبارية، مضافاً إلى كونه حاكماً على جميع البلاد الإسلامية، ماعدا الشام؛ مع كل ذلك كان يتعامل مع الناس وكأنه واحد منهم.

يقول أحد أصحابه (صلوات الله عليه) وهو ضرار بن ضُمرة: (كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا دعوناه، ويبتدؤنا إذا سكتنا).(8)

وذات يوم كان الأمام أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) راكباً فالتفت فرأى أن جماعة يمشون خلفه، فالتفت إليهم وقال: ألكم حاجة؟! قالوا: لا.

فقال لهم: (انصرفوا فإن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلة للماشي)(9).

ويُنقل عن أحد العلماء أنه كان يمشي خلف بعض مراجع التقليد (رحمة الله عليهم) فكان ذلك المرجع يلتفت إليه ويقول له: هل عندك مسألة أو حاجة؛ فإذا قال: لا؛ يقول له: إذن انصرف ولا تمش خلفي! وقد جاء في الحديث: (لم يهلك هؤلاء... إلا بخفق النعال خلفهم)(10)، لأن هذا يجلب للإنسان العُجب والغرور عادة، لاسيما وأن الإنسان ليس معصوماً.

نقل عن الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) أنه أتاه ذات يوم أبٌ وابن، فجلس (عليه السلام) أمامهما تواضعاً.

ـ وقد كان السيد الخوانساري (رحمة الله عليه) وهو المرجع الكبير، يفعل نفس الشيء إذا جاءه أحد الأشخاص، حيث يجلس أمامه في وسط الغرفة تواضعاً له، ولأجل تبكيت النفس الأمارة بالسوء ـ.

فأمر الإمام (صلوات الله عليه) لهما بطعام، فأكل الأبُ والابن، وربما كانوا من الأفراد العاديين والمجهولين، فجاء قنبر بطشت الماء والإبريق والمنديل لغسل يد الضيف، وكان هذا متعارف آنذاك، فقام الإمام (صلوات الله عليه) وأخذ الطشت والإبريق وأراد أن يصب الماء على يدي الأب، مع ما لدى أمير المؤمنين (عليه السلام) من المقام الظاهري والمقام الواقعي، فقام الأب من مكانه، لكن أمير المؤمنين (عليه السلام) طلب منه بأن يجلس في مكانه قائلا:

لا إشكال في ذلك، أخٌ من إخوانك يخدمك لأجل الله، يريد بذلك الثواب عند الله.

فجلس الرجل وهو مضطرب، ثم مد يده لكنه كان مضطرباً ويريد أن ينهي الغسل بسرعة؛ فقال الإمام (صلوات الله عليه): (أقسمتُ عليك إلا ما جلستَ مطمئناً كما لو كان الصاب على يدك قنبر)!

فجلس الرجل، وصب الماء الإمام (عليه السلام) على يديه الماء إلى أن أنهى غسلها، ثم التفت إلى ولده محمد بن الحنفية وقال: (إن الله تعالى أبى أن يسوّي بين الأب والابن إذا جمعهما مكان واحد)(11)، وذلك احتراماً للأب، ثم قال الإمام (صلوات الله عليه): صبّ الأب على يد الأب؛ فليصب الابن على يد الابن؛ فقام محمد بن الحنفية وصب الماء على يد الابن.

فعلى الأبناء مراعاة آبائهم، فقد لاحظت بعض الأبناء يجلسون في مكانهم فيما الأب ينهض لجلب الفاكهة إلى المجلس! وهو أمر غير جيد من الناحية الأخلاقية، وأيضاً من ناحية الآداب الشرعية. أو قد يكون الأب ضعيفاً وشيخاً كبيراً فيمشي بهدوء مع الابن، فنجد الابن يتقدم عليه ويسبقه في المشي، أو يدخل قبله إلى مكان معين، وهذا غير صحيح من الناحية الأخلاقية والآداب الشرعية.

عمل الإمام علي (عليه السلام) في البيت

كان الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يذهب إلى السوق ويحمل بيده الملح أو التمر وغيره إلى البيت، فكانوا يبادرون إلى الإمام ويقولون: نحن نحمل عنك؛ فيقول: (رب العيال أحق بحمله)، وكان الإمام يقرأ هذا البيت:

لا يُنقِصُ الكاملَ من كمالِه.....ما جرّ من نفعٍ إلى عيالِه(12)

هذا ليس نقصاً أن يخدم أو يشتغل الإنسان في أي عمل.

فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يعمل عملاً لا أظن أنَّ كثيراً منا يعمله في الوقت الحاضر، كان يكنس بيته بنفسه، فما المانع أن يكنس الرَّجُل بيته؟ هل في ذلك إشكال؟ وهل هذه ضعة؟ أيجب أن تكنس الخدامة البيت؟ أنت أيضاً أكنس البيت، لأن الله تعالى يحب النفوس المتواضعة.

وقد كان الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يلبس ثياباً مرقعة (13)؛ فسُئل عن سبب ذلك فقال: (لتذلّ به النفس ويقتدي به المؤمنون)(14)، إذ النفس بحاجة إلى إذلال وكبت.

ولا نقول بأن يلبس الواحد منّا الملابس المرقعة، إن هذا مظهر وحسب؛ والكلام في الجوهر، لأن المجتمع أحيانا ربما لا يتقبل الملابس المرقعة(15)، لكن المهم هو الجوهر وهو التواضع.

وقد قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) فيما كتبه لأحد ولاته كما في نهج البلاغة:

(ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تِبراً،

ولا ادّخرتُ من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا).(16)

من هنا ليصمم كل واحد منّا على أن يكون متواضعاً مع الجميع؛ مع زوجته، ومروراً بأولاده ومع الذين يخدمونه.

ولا بأس بأن يخدم أحياناً في البيت فيكنس مثلاً، وهو ليس عملاً معيباً؛ فقد كانت فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) تجعل لخادمتها يوماً تخدم في البيت، وفي اليوم الثاني تخدم هي بنفسها في البيت، فكان يوم عليها ويوم على خادمتها.

ثانياً: الزهد في حطام هذه الدنيا

كان الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يقول: (جُعل الخير كله في بيت وجُعل مفتاحه الزهد في الدنيا)(17).

فعدم تعلق القلب بالدنيا، وعدم الانشداد إليها، هو مفتاح لكل الخيرات الدنيوية والأخروية معاً، فإذا أراد الإنسان راحة النفس، فإن أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يدله على مفتاحها بقوله: (الزهد في الدنيا الراحة العظمى)(18).

فالذي لاتهمه الدنيا يكون مرتاحاً، سواءً خسر في تجارة أو ربح فيها، فإذا تعرض لخسارة في تجارته لا ينكسر لأن قلبه لم يكن مشدوداً لتلك التجارة، ولم يكن قلبه معلّقاً بتلك الأموال، وفي ذلك يقول الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): (...فما راعني إلا والناس ينثالون إلي)(19)، أي إن المسلمين توافدوا إليه، يطلبون منه البيعة وأن يكون الحاكم؛ فماذا قال لهم؟ قال لهم: (دعوني والتمسوا غيري)(20)، لأن الخلافة لم تكن تهمه، ولم تكن لتسوى عنده شيئاً، فلا يهمه سواءً أعرض عنه الناس أو اجتمعوا حوله.

وكان (عليه السلام) يقول: (إن دنياكم هذه أهون عندي من عراق خنزير في يد مجذوم)(21).

وفي رواية أخرى: (أهون عندي من ورقة في فم جرادة تقضمها)(22).

إن من يمتلك هكذا روحية عالية لن يتأثر بهذه الدنيا، ولن يصاب بأمراض القلب والسكري والضغط وغيرها من الأمراض بسبب كساد التجارة أو قلة الربح أو زيادته، فالربح هو فضل من الله تعالى، فيما الخسارة امتحان منه عزوجل، وإنسان كهذا سوف لن يبخل بحطام هذه الدنيا.

وذات يوم دخل رجل على الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) وكان الفصل شتاءً، حيث البرد القارس، لكن لم ير على الإمام (عليه السلام) سوى ثوب واحد، وكان بالياً خلقاً، وكان يرتعد الإمام (عليه السلام) من البرد وليس من مرض، فإنه كما يذكر بعض المحققين لم يكن الإمام يصاب بمرض لدعاء النبي (صلى الله عليه وآله)(23).

فلما رأى ذلك الرجل هذه الحالة قال: يا أمير المؤمنين، هذه الأموال تحت يدك، اشتَرِ منها شيئاً، فقال (صلوات الله عليه): (وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من بيتي)(24)، فهذا هو نفس الثوب الذي خرج به (صلوات الله عليه) من المدينة إلى الكوفة حيث أصبح الحاكم الأعلى.

بل قرأت في بعض الروايات قوله: (يا أهل الكوفة إذا أنا خرجت من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان فأنا خائن)(25).

وهكذا كانت سيرته (صلوات الله عليه) فالمال للمسلمين، ولا شأن له بأموال المسلمين

قال تعالى: (اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون)(26).

وكان الإمام (عليه السلام) إنما يأخذ المال ليعطيه لفقرائهم.(27)

بيت الإمام علي (عليه السلام)

عندما جاء الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الكوفة ليتسلم مقاليد الحكم، ووصل إلى قصر الإمارة الضخم؛ قالوا له: تفضل بالدخول في قصر الإمارة!

فقال: لن أدخل قصر الإمارة أبداً، فهو للحكام. ثم بنى لنفسه بيتاً متواضعاً من ثلاث غرف وجلس في ذلك البيت، إلى جانب قصر الإمارة، ويقال إن بقايا هذا القصر ما تزال موجودة، كما ان بقايا بيت أمير المؤمنين (عليه السلام) موجودة أيضاً.

يقال إن شخصاً من غير الموالين ومن غير الفرقة الناجية ذهب إلى النجف الأشرف، ورأى القبة المهيبة لأمير المؤمنين (صلوات الله عليه) والملايين التي تطوف حول ذلك الضريح الطاهر المقدس، فأُخِذَ بهذا المنظر وقال لمرافقه: إن علياً كان في حياته يسكن الكوخ، فَلِمَ بَنيتُم كُلَّ ذلك بعد وفاته؟!

فأجابه ذلك الرجل المرافق والموالي: إنما بنينا له هذه لأنه كان يسكن الكوخ، ولأنه في حياته كان مُعرِضاً عن الدنيا، فبُنِيَت له هذه القبة وهذه العظمة والشموخ؛ فيما كان معاوية متهالكاً على الدنيا وزخارفها، فلا ترى اليوم حرمة لقبره، ومن المتعذر الوصول إلى قبره، بل لا أحد يدلك على قبره، وهو في مكان مظلم وخرب، وربما يصاب الإنسان بالكآبة برؤيته.

لذا قال ذلك الشاعر السني الذي مرّ على قبر معاوية، ثم جاء إلى قبر أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه)، حيث العظمة والشموخ، أخذ يخاطب معاوية:

أين القصور أبا يزيد ولـهوها.......والصافنات وزهوها والسؤدد

أين الدهاء نحرت عزته عـلـــى.......أعتاب دنياً سحرها لا ينفــــــدُ

هذا ضريحك لو بصرت ببؤسه.......لأسال مدمعك المصير الأسود

قم وارمق النجف الأغر بنظرة....... يرتد طرفك وهو باكٍ أرمـــــــدُ

تلك العظام أعز ربك قــدرها.......فتكاد لولا خوف ربك تعبـــدُ(28)

ويقال: إن أحد الحاضرين قام من مكانه عندما كان هذا الشاعر يتلو قصيدته وقال: (...لقد عُبدتَ وليس تكاد تُعبد) في إشارة إلى جماعة عبدوا أمير المؤمنين (عليه السلام).

نعم إن هذه الدنيا لا قيمة لها، ولم يصنع فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) شيئاً لنفسه، أما الآخرة فعلينا أن نذهب إلى الآخرة لنرى مقام أمير المؤمنين (عليه السلام) هناك، ذلك المقام العظيم الذي أعطاه له الله عزوجل. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا في هذه الدنيا زيارته، وفي الآخرة شفاعته، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

* من محاضرات الفقيه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

.......................................
(1) من قصيدة للصفي الحلي 6 في وصف أمير المؤمنين (عليه السلام). راجع أعيان الشيعة: ج1 ص329.
(2) من قصيدة للصفي الحلي 6 في وصف أمير المؤمنين (عليه السلام). راجع أعيان الشيعة: ج1 ص329.
(3) عيون الحكم والمواعظ: 475.
(4) عيون الحكم والمواعظ: 475 وفيه: (ما تكبر إلا وضيع).
(5) وسائل الشيعة: ج15 ص385 وفيه: (ما من رجل تكبر أو تجبر إلا لذلة يجدها في نفسه).
(6) المبسوط: ج 8 ص147.
(7) للتفصيل راجع كتاب (التكامل في الإسلام) لأحمد أمين الكاظمي.
(8) الأنوار العلوية: ص405.
(9) بحار الأنوار: ج41 ص55.
(10) وسائل الشيعة: ج11 ص280.
(11) الاحتجاج للطبرسي: ج2 ص 268.
(12) مناقب آل أبي طالب: ج1 ص372.
(13) راجع مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج1 ص365، وفيه:
ورؤي عليه أزار مرقوع فقيل له في ذلك فقال: يقتدي به المؤمنون ويخشع له القلب وتذل به النفس ويقصد به المبالغ، وفي رواية: أشبه بشعار الصالحين، وفي رواية: هذا أبعد لي من الكبر وأجدر أن يقتدي به المسلم.
(14) نهج البلاغة: باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام).
(15) يقول صاحب (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة): حبيب الله الهاشمي الخوئي: ج21 ص152:
الظاهر أنّ لبسه (عليه السّلام) للإزار المرقوع، كان في أيام حكومته وزعامته الظاهريّة، وفي هذا العصر توسّع على المسلمين العيش، وحازوا أموالاً وغنائم كثيرة من الرّوم والفرس، واعتادوا لبس الثياب الفاخرة والتجمّل بالزينة الظاهرة وخصوصا الأمراء منهم وأصحاب السّلطنة، ولما رئي عليه هذا الإزار الخلق المرقوع وقع في محلّ العجب وعدّ إهانة بمقام المتصدّى له، فأجاب (عليه السّلام) بأنّه رياضة للنفس، وتسلية للمؤمنين، وينبغي أن أكون أسوة لأهل الإيمان في لبس الخلقان، لينكسر تسويل الشيطان.
(16) نهج البلاغة: خطب الإمام علي (عليه السلام). أي ما كان يهيؤ لنفسه طمرا آخر بدلا عن الثوب الذي يبلى، بل كان ينتظر حتى يبلى ثم يعمل الطمر، والثوب هنا عبارة عن الطمرين فإن مجموع الرداء والإزار يعد ثوبا واحدا فبهما يكسو البدن لا بأحدهما.
(17) الكافي: ج2 ص128.
(18) مستدرك الوسائل: ج12 ص47.
(19) نهج البلاغة: الخطبة رقم3 (الشقشقية).
(20) نهج البلاغة: من خطبة له (عليه السلام) لما أريد على البيعة.
(21) نهج البلاغة: من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام).
(22) نهج البلاغة: من كلام له (عليه السلام).
(23) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج2 ص61.
(24) تاريخ الإسلام، للذهبي: ج3 ص644.
(25) بحار الأنوار: ج41 ص137.
(26) سورة يس: 21.
(27) مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب: ج1 ص377. وفيه قال (عليه السلام): (إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو للمسلمين).
(28) مقطع من قصيدة للشاعر السوري محمد مجذوب.

اضف تعليق