العلم من جملة ما يكتسبه الانسان في حياته، فيكون عالماً ضمن مسيرة طويلة من التعلّم والدراسة والبحث، تتخللها سنوات طوال يبذلها من عمره، ولكن؛ ربما تحصل حالة استثنائية بين البشر يكون فيها اختزال الزمن والمرحلة العمرية بشكل مذهل فيظهر عباقرة ونوابغ يفاجئون العالم بقدرات علمية خارقة وهم في سن الطفولة او في ريان الشباب.
واذا كان النبوغ في العلم ذو مدخلية في تطوير الأدوات المساعدة على توفير حياة أفضل للناس، فان النبوغ والعبقرية في القيادة تضع صاحبها في مرتبة من شأنها تحديد حاضر الامة ومستقبلها، علماً أن البشرية؛ وعلى طول تاريخها، ربما كانت تستسيغ النبوغ العلمي في مرحلة عمرية مبكرة، بيد أنها تستصعب الامر فيمن يثبت جدارته في القيادة والولاية لما يستتبعه من طاعة والتزام.
وقد واجه الامام الجواد، عليه السلام، هذه المشكلة النفسية لدى شريحة واسعة من الامة، رغم النصّ عليه من أبيه الامام الرضا، ومن قبله الرسول الأكرم، بأنه الامام التاسع المفترض الطاعة، وهو الذي يحمل علوم الأولين والآخرين، وأن هذه العلوم مصدرها إلهي وليس اكتسابي، بيد أن الشريحة الواعية والمثقفة – إن صحّ التعبير- في ذلك الوقت استوقفها الامر، بل واستمر الجدل الى اليوم، وكيف أن صبياً صغيراً "لم يبلغ الحلم" يتولّي قيادة الأمة؟!
فما الذي فعله الإمام الجواد مع الامة، وهو ابن تسع سنين، ليثبت للجميع انه الإمام المفترض الطاعة وأجدر من غيره بالقيادة والولاية؟
القرآن الكريم المعلّم الأول
لمن يقرأ آيات القرآن الكريم ذات الصيغة الاستفهامية يجد اجواءً رحبة للحوار مع الانسان بغية توصله الى الحقائق الكبرى في الحياة والوجود، ومن الالتفاتات الجميلة في درس تفسير المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي قوله أن القرآن "لا يُسكت قارئه..."، إنما يريد للانسان التوصل الى الحقيقة بنفسه، من خلال الحوار والسؤال الذي يطرحه القرآن ثم يجيب عليه، ولمن يقرأ الكتاب المجيد يجد عديد الآيات الحوارية الرائعة: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ * أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}، (سورة الواقعة:57-59)، او الآية الداعية الى التدبّر: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}، (سورة النساء:82) وآيات عديدة أخرى تحثّ الانسان على خوض الحوار بينه وبين القرآن الكريم، ثم بينه وبين نفسه ليعرف حقيقة وجوده في الحياة، وما سر وجود الكائنات والطبيعة، وأين مكمن الخير ومكمن الشر...؟
ليس هذا فقط، بل ان القرآن يدعونا لاتخاذ الحوار منهجاً لتبادل الافكار فيما بيننا: {وجادلهم بالتي هي أحسن}، ونهى عن السبّ والتشنج والمغالطة، (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ...). (سورة الانعام:108).
تأسيس ملتقى للحوار
الحوار والإجابة عن مختلف الاسئلة او حل الاشكالات والشبهات، بحاجة الى مكان مخصص يجتمع فيه أهل العلم مع عامة الناس، وهذا ما ابتكره الامام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام، إبان وجوده في المدينة المنورة، وجاء في "الإمام الجواد من المهد الى اللحد" للسيد كاظم القزويني – طاب ثراه- أن الامام الكاظم، عليه السلام، شيّد قرية في ضواحي المدينة اسماها صريّا، "وكان الامام الجواد يستفاد منها للابتعاد عن العيون وعملاء السلطة واللقاء باتباعه".
وقد شهدت هذه القرية محاورات عدّة بين الإمام وبين مختلف فئات المجتمع؛ من مشككين وطلاب على سبيل نجاة، ومن أبرز ما شاع من اشكالات آنذاك؛ السنّ المبكرة للإمام، وهنالك محاورات عدّة في هذا المجال نذكر منها ما جاء عن احد اصحاب الامام، بأن "يا سيدي ان الناس ينكرون عليك حداثة سنك؟ قال: وما ينكرون عليّ من ذلك! فقد قال الله لنبيه (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي) وقد تبعه علي وكان ابن تسع سنين، وانا ابن تسع سنين"، وفي رواية عن معلّى بن محمد، قال: خرج عليّ ابو جعفر حدثان موت ابيه (اوائل وفاة ابيه)، فنظرت الى قدّه لأصف قامته الى اصحابنا بمصر، فقعد ثم قال يا معلّى: ان الله احتج في الإمامة بمثل ما احتج به في النبوة، فقال وآتيناه الحكم صبيا"، وهذا ما دفع الباحث والخطيب المشهور السيد كاظم القزويني لأن يعد الحوار والسؤال -في كتابه- طريقة ناجحة لتأكد الناس من إمامة الامام الجواد.
وللإمام الجواد، عليه السلام، أجوبة علمية دقيقة وباهرة تمثل اشراقات مبكرة لمسائل علمية في الطب والفلك وعلوم اخرى، ومن ابرز ما يلفت الانتباه فيما يذكره المؤرخون عن التوحيد عندما سأله أحدهم بأن "نعبد الرحمن الرحيم الواحد الصمد؟ قال: ان من عبد الاسم دون المسمّى أشرك وكفر وجحد ولم يعبد شيئاً، بل اعبد الله الواحد الاحد الصمد، المسمى بهذه الاسماء، ان الاسماء صفات وصف بها نفسه".
وبذلك؛ يُسهم الإمام الجواد، وهو في تلك المرحلة العمرية، في تكريس العقيدة الحقّة في النفوس، ويخلّص افراد الأمة من منزلقات التشكيك او حتى بعض الاخطاء غير المقصودة، كالتي مرّ ذكرها، وما يمكن ان يمارسه الناس ولفترات طويلة دون معرفة خطئها وابتعادها عن الحق.
وقد ذكر السيد القزويني – طاب ثراه- محاورات عديدة ومثيرة في كتابه، لعلّ أبرزها اجابته المحيّرة على سؤال قاضي قضاة الدولة العباسية؛ يحيى بن أكثم، عندما أراد رموز الأسرة العباسية إحراجه امام المأمون الذي كان يروم تزويجه ابنته، وكان سؤاله عن محرم قتل صيداً، فجاءت الاجابة عبارة عن تفريعات لهذا السؤال بأن؛ هل كان جاهلاً أم عامداً؟ حراً أم عبداً؟ هل كان الصيد من ذوات الطير او غيرها....؟!
إن مبدأ الحوار للوصول الى الحقائق، من مناهج مدرسة أهل البيت، عليهم السلام، فكما الامام الجواد، فقد كان الامام الرضا –والده- ومن قبله، ومن جاء بعده من الأئمة المعصومين الهُداة، كلهم كانوا يفتحون واحات واسعة للحوار والسؤال عن مختلف العلوم والمعارف، تبقى المشكلة في الطرف المقابل، من ابناء المجتمع او أهل السلطة والحكم، وما اذا كانوا يسمحون لأنفسهم الاستفادة اكثر من هذا الشعاع الرباني.
وبقدر ما نفتح ابواب الحوار، بعيداً عن الاحكام المسبقة والتعصّب للذات او لفئة معينة، أو التطرّف الفكري، بنفس القدر نبتعد عن التشكيك والشبهات وأي محاولة للتصيّد في الماء العكر مما يعدون انفسهم "مثقفون تنويريون"!
اضف تعليق