القوة الناعمة التي مارسها الإمام تمثلت في بناء الإنسان، وإحياء الضمير، وخلق شبكة نخبوية مثقفة تؤمن بالإصلاح قبل أن تمارسه، وهذا ما نحتاجه في العراق اليوم؛ حيث لا يكفي إسقاط النظام أو تداول السلطة، بل المطلوب تغيير الوعي الذي يقبل بالفساد ويعتاد التبعية. كما أنه لم يهادن السلطة الظالمة...
تشكل الإمامة في الفكر الشيعي العلوي عمقا روحيا وسياسيا وفكريا يتجاوز حدود الزمان والمكان، وهي ليست مجرد ولاية دينية بل مشروع حضاري مقاوم لجميع انظمة الاستبداد، قائم على إصلاح الأمة وفق منهج رباني متكامل، وفي قلب هذا المنهج تتجلى القوة الناعمة كأداة استراتيجية مارسها ائمة اهل بيت النبوة (عليهم السلام) في مواجهة أنظمة الاستبداد، لاسيما في العهود العباسية التي اتسمت بحدة القمع وسعة الامتداد السياسي.
الإمام محمد الجواد (عليه السلام)، تاسع أئمة أهل البيت (عليه السلام)، شكل انموذجا رفيعا في تجسيد هذه القوة الناعمة، فعلى الرغم من عمره القصير، إلا أن تأثيره الفكري والاجتماعي كان بالغ العمق، فكيف وظف الإمام الجواد (عليه السلام) أدوات القوة الناعمة في مقاومة الاستبداد العباسي؟، وكيف نستلهم العبر من سيرته التاريخية لنسقطها على واقع المجتمع العراقي المعاصر الذي لا يزال يعاني من تداعيات أنظمة القوة الخشنة وتحديات الإصلاح الوطني.
السياق التاريخي والسياسي لعصر الإمام الجواد (ع)
ولد الإمام الجواد (عليه السلام) سنة 195هـ، في مرحلة بالغة التعقيد من تاريخ الدولة العباسية، بعد استشهاد والده الإمام علي الرضا (عليه السلام) على يد المأمون العباسي، تولى الإمامة في سن مبكرة، وكان ذلك بحد ذاته تحديا للمفهوم التقليدي للإمامة الذي كان يشترط فيه النضج العمري، ما دفع بعض الشيعة آنذاك للتساؤل والتشكيك، إلا أن الإمام الجواد (عليه السلام) سرعان ما فرض حضوره العلمي والمعرفي حتى في بلاط الخلفاء العباسيين أنفسهم.
شهد عصره نهاية حكم المأمون وبداية حكم المعتصم، وهي فترة امتازت بشدة الرقابة ومحاولات الالتفاف على دور ائمة اهل البيت (عليه السلام) من خلال الاحتواء السياسي، كما حصل عندما زوج المأمون ابنته أم الفضل للإمام الجواد (عليه السلام)، في محاولة ظاهرها التقريب وباطنها المراقبة وتطويق التأثير، رغم ذلك لم يستجب الإمام لهذا الاحتواء، بل وظف حضوره داخل النظام نفسه لكشف تناقضاته وتأكيد مشروعه الإصلاحي.
فلسفة القوة الناعمة في منهج الإمامة
مفهوم القوة الناعمة بحسب المصطلحات الحديثة يشير إلى التأثير الثقافي والمعرفي والأخلاقي غير القسري، وهي الأداة التي اعتمدها أئمة أهل البيت (عليه السلام) في مواجهة أنظمة الاستبداد، لم يركن الإمام الجواد (عليه السلام) إلى السلاح أو المواجهة المباشرة، بل ركز على تأسيس خطاب معرفي يعيد بناء الوعي الجمعي للأمة، وقد أشار المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه الحرية في الإسلام الى ان: "الإمام لا يحتاج إلى جيش مادي ما دام يملك جيشا من العقول والأرواح، فالحرية الفكرية والروحية هي التي تخلق الإنسان القادر على مقاومة الطغيان"، وهو ما يجسد تماما دور الإمام الجواد (عليه السلام) في صياغة وعي مضاد للاستبداد من داخل بنية المجتمع.
وقد أظهر الإمام قدرة عقلية هائلة في المجالس العلمية المفتوحة، وفي المحاججات الفقهية والكلامية مع كبار علماء القصر العباسي، أبرزها مناظرته الشهيرة مع يحيى بن أكثم، التي شكلت فضيحة معرفية للسلطة، حيث عجز كبار فقهائها عن مجاراته، هذه المعركة لم تكن مجرد مواجهة فكرية، بل ممارسة للقوة الناعمة التي فضحت هشاشة النظام الديني الرسمي للدولة، واعادت للناس ثقتهم بمنهج أهل البيت (عليه السلام).
الإمام الجواد (عليه السلام) ومقاومة الاستبداد
لم يكن الإمام الجواد (عليه السلام) ثوريا بالمفهوم الإنقلابي، لكنه كان مصلحا جوهريا، إذ اعتمد أسلوب التغلغل في عمق المجتمع عبر نخبه، متخذا من شبكة الوكلاء والفقهاء وسيلة لنقل مفاهيم الإمامة ومواجهة الانحراف، وعبر السيد محمد الشيرازي في كتابه اللاعنف في الإسلام: "ان المنهج اللاعنفي للإمام لا يعني الركون أو التراجع، بل يعني بناء بدائل ثقافية ومؤسساتية تقف في وجه الاستبداد من غير أن تمنحه مشروعية العنف"، وهذا ما قام به الإمام الجواد (عليه السلام) حين بنى مجتمعا معرفيا مستقلا داخل مجتمع مرتهن للدولة.
لقد رفض الإمام الجواد (عليه السلام) شرعنة السلطة العباسية، ولم يصدر أي موقف يفهم منه أنه يقر بشرعية الحكم القائم، بل أكد على استقلال المرجعية الدينية والعلمية للإمامة، فكانت محاولاته لبناء مجتمع معرفي شيعي تقوم على الوعي، لا على ردود الأفعال، وكما اشار السيد محمد باقر الصدر في كتابه أهل البيت تنوع أدوار ووحدة هدف: "لم يكن هدف الأئمة إسقاط السلطان بقدر ما كان هدفهم إسقاط الشرعية الفكرية والأخلاقية التي يستند إليها الظالمون، فمشروعهم مشروع أمة لا مشروع دولة فقط"، ويجسد الإمام الجواد (عليه السلام) هذا المعنى بدقة؛ إذ اشتغل على تحصين الأمة معرفيا وعقديا لتكون قادرة على مقاومة الانحراف الداخلي قبل الخارجي.
كما ان أحد أعمدة مشروعه الإصلاحي تمثلت في زرع الثقة في النفس الشيعية، المتضررة آنذاك من موجات القمع والتصفية، حيث ركز على إعداد جيل من العلماء أمثال ابن أبي عمير وصفوان الجمال وغيرهم ممن شكلوا النواة الفكرية لمدرسة أهل البيت (عليه السلام) بعده.
إسقاطات على واقع العراق المعاصر
يعاني المجتمع العراقي المعاصر من إرث الاستبداد، رغم انتهاء الحكم الديكتاتوري منذ أكثر من عقدين، إلا أن مظاهر الاستبداد البنيوي ما زالت حاضرة في الثقافة السياسية، وفي العقل الجمعي، وفي العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهنا تأتي أهمية استلهام منهج الإمام الجواد (عليه السلام) في التغيير الهادئ والعميق.
القوة الناعمة التي مارسها الإمام (عليه السلام) تمثلت في بناء الإنسان، وإحياء الضمير، وخلق شبكة نخبوية مثقفة تؤمن بالإصلاح قبل أن تمارسه، وهذا ما نحتاجه في العراق اليوم؛ حيث لا يكفي إسقاط النظام أو تداول السلطة، بل المطلوب تغيير الوعي الذي يقبل بالفساد ويعتاد التبعية.
كما أن الإمام الجواد (عليه السلام) لم يهادن السلطة الظالمة، لكنه لم يخسر معركته معها، بل واجهها بأساليب معرفية متينة، حافظ فيها على استقلاليته، واستثمر كل مساحة ممكنة لخدمة اصلاح الأمة، وهذا درس بالغ الأهمية في كيفية التعامل مع الأنظمة السياسية القائمة دون الذوبان فيها أو مواجهتها بالمجابهة الخاسرة.
بناء مشروع إصلاحي يستلهم من الإمامة
إن مشروع الإصلاح في العراق بحاجة إلى أدوات (جوادية) تتمثل في خطاب واثق، عقل ناضج، مواقف متزنة وتحشيد للقوة المعرفية، فالعراق لا يعاني من نقص في الأصوات الغاضبة، بل من نقص في العقول البناءة، الإمام الجواد (عليه السلام) كان أمة في رجل، فتح أفقا جديدة في معنى الإمامة كقيادة روحية وفكرية تتعامل مع الواقع لا تهرب منه، وتؤمن بالإصلاح عبر الوعي لا العنف، إن إحياء هذا المنهج في بيئة عراقية منقسمة ومشوشة هو واجب المثقف المؤمن.
ختاما
القوة الناعمة في منهج الإمامة ليست ضعفا، بل ذروة الحكمة، فهي تمثل سلاح العارفين حين تعجز السيوف، ومسار الأنبياء حين تتصدع العروش، لقد جسد الإمام محمد الجواد (عليه السلام) هذا النهج في زمن بلغت فيه السلطة أوج عنفها، فقاومها بعلمه، وفضحها بحكمته، ومهد لإحياء ضمير الأمة بصبره.
في عراق اليوم، نحن نواجه شبح الانهيار القيمي، وانحطاط الخطاب السياسي، نحتاج إلى أن نعيد اكتشاف معنى الإمامة كقوة تغيير ناعمة، ونستلهم من الجواد (عليه السلام) تأثيره المعرفي، وحضوره البعيد عن الضجيج، وموقفه الثابت ضد الظلم، فالاستبداد لا يزول بالسيف، بل بالعلم والخلق والوعي، وهذه هي وسائل التغيير الحقيقي في الأمة، وهو ما يتقاطع جوهريا مع واقع العراق اليوم، حيث الأزمة في الوعي لا فقط في السياسة.
اضف تعليق