الارتباط بين تمكين المرأة الريفية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة يبدو جليًا في العراق، فمن خلال تعزيز دورها في تحسين الانتاجية الزراعية وزيادة دخل الاسرة، يمكن تحقيق هدف القضاء على الفقر والجوع، كما ان تبني النساء لممارسات زراعية مستدامة، مثل الزراعة العضوية وتقليل الاعتماد على المبيدات الكيميائية وزراعة المحاصيل...
قد لا يبدو جليا للوهلة الاولى العلاقة القائمة بين المرأة الريفية والتنمية المستدامة، والتي يمكن فهمها بوضوح من زاوية البعد الاجتماعي لهذه الاخيرة، فلم تعد التنمية المستدامة تقتصر على الجانب الاقتصادي وحده، حيث أصبح البعد الاجتماعي أحد ركائزها الاساسية، والذي في أصله يهتم بالإنسان ويعتبره جوهر كل تنمية وهدفها الاسمى، ويهتم الجانب الاجتماعي للتنمية المستدامة بالعدالة الاجتماعية، وبترقية معيشة الفرد لاسيما فيما يتعلق بالرعاية الصحية والتعليم والبطالة والفقر. لذا فقد انصب تركيز الجهود الدولية منذ بداية الالفية على إدراج المشاكل الاجتماعية، وأهمها الفقر كأهداف يتوجب القضاء عليها.
ومن هذا المنطلق، تلعب المرأة العراقية دورا أساسيا في الحياة اليومية في المناطق الريفية -على وجه الخصوص-، حيث تشكل عنصرا فعالا في الزراعة والصناعات اليدوية وإعالة الأسرة ومساهمتها الكبيرة في دعم اقتصاد الأسرة والمجتمع، مما اكسبها ان تكون حجر الزاوية في استدامة الحياة اليومية، ورغم ذلك، مع تصاعد الاهتمام العالمي وبذل الجهود لتحقيق التنمية المستدامة الا ان الركيزة الاساسية في تحقيق التنمية المستدامة لا تزال تواجه تحديات متعددة تعيق تحقيق امكاناتها الكاملة جعلتها عرضة للتهميش الاقتصادي والاجتماعي، لذا بات من الضروري أن يكون للمرأة الريفية مكانة مركزية في أي خطة وطنية للنهوض بالمجتمع الريفي، ليس فقط كجزء من الحل، بل كقائدة للتغيير.
المرأة الريفية ودورها الاقتصادي
تُعد المرأة الريفية -التي تشكل حوالي 30% من اجمالي نساء العراق- العصب الحيوي للإنتاج الزراعي، حيث تعمل لساعات طويلة في زراعة المحاصيل الاستراتيجية كالحنطة والشعير والاساسية كالخضروات والفواكهة والبقوليات وغيرها من الانشطة الزراعية، كما تساهم في ادارة اعمال تربية المواشي والدواجن وفقا لتقارير محلية مركزية، مما يجعلها العمود الفقري للزراعة، وتشير تقارير التنمية الريفية إلى أن النساء الريفيات يشكلن نسبة كبيرة من القوى العاملة في الزراعة، مما يضعهن في صميم منظومة الأمن الغذائي الوطني، إلى جانب دورها الزراعي، وتبرز المرأة الريفية كصانعة للحرف اليدوية التقليدية، مثل السجاد اليدوي والتطريز فائق الجودة والأدوات المنزلية المصنوعة من خوص سعف النخيل، وهي منتجات تحمل بُعدا ثقافيا واقتصاديا يُسهم في تنويع دخل الأسر الريفية، واظهارا لإبداع المرأة الريفية، كما تشارك الكثير من النساء الريفيات في التجارة المحلية الصغيرة، مثل بيع المنتجات الزراعية الطازجة والحرف اليدوية في الأسواق، مما يُضيف قيمة اقتصادية للمجتمعات الريفية، وتُساهم في تحريك عجلة الاقتصاد غير الرسمي، رغم افتقارهن إلى الدعم المؤسسي والتنظيمي اللازم.
التحديات التي تواجه المرأة الريفية
رغم دورها المحوري، تواجه المرأة الريفية في العراق سلسلة من التحديات: أبرزها الأمية، حيث تفتقر الكثير من النساء في المناطق الريفية إلى فرص التعليم، ما يؤدي إلى تقليص فرصهن في التوظيف والتطوير الذاتي، وتشير الإحصائيات إلى ارتفاع معدل الأمية بين النساء الريفيات مقارنة بنساء المدن يتجاوز 30% في بعض المناطق، مما يحرمهن من فرص التعليم والتدريب اللازم لتحسين حياتهن، بسبب العادات الاجتماعية والأدوار التقليدية التي تُزيد من صعوبة انخراط الفتيات في التعليم.
وبالرغم من أن المرأة الريفية هي العاملة الأساسية في الحقول الزراعية، إلا أن أقل من 10% منهن لا يمتلكن الأراضي الزراعية التي يعملن عليها، كما تُواجه النساء صعوبات في الوصول إلى الموارد الزراعية كالتمويل والأرض واستحصال القروض الزراعية والمعدات الحديثة مما يُقيد إنتاجيتها. كما أن الخدمات الصحية والتعليمية في بعض المناطق الريفية التي غالبا ما تكون نادرة أو بعيدة فأنها تعمق معاناتها اليومية وتؤثر على مستوى الحياة الاسرية، كما تُعد المواصلات العامة والخدمات التعليمية شبه غائبة، ما يُفاقم عزلة المرأة الريفية. بالإضافة الى ذلك، تشكل التقاليد المحلية عائقا أمام تطور الريفيات، ففي العديد من المجتمعات الريفية، يُتوقع من النساء القيام بالأعمال المنزلية ورعاية الأسرة فقط، مما يحرمهن من فرص التطور المهني أو المشاركة في الحياة العامة.
المرأة الريفية والتنمية المستدامة
الارتباط بين تمكين المرأة الريفية وتحقيق أهداف التنمية المستدامة يبدو جليًا في العراق، فمن خلال تعزيز دورها في تحسين الانتاجية الزراعية وزيادة دخل الاسرة، يمكن تحقيق هدف القضاء على الفقر والجوع، كما ان تبني النساء لممارسات زراعية مستدامة، مثل الزراعة العضوية وتقليل الاعتماد على المبيدات الكيميائية وزراعة المحاصيل المقاومة للجفاف عن طريق تقنيات الري الحديثة كفيلة بأن تساهم في التخفيف من آثار التغير المناخي والحفاظ على البيئة.
وفي القرى العراقية، يمكن رصد قصص نجاح كثير من النساء اللواتي استطعن تحويل حياتهن من خلال مبادرات صغيرة، مثلًا تأسيس مجموعة من النساء تعاونيات زراعية لإنتاج وتسويق المنتجات المحلية، مما ساعد في تحسين دخلهن وإيجاد فرص عمل لأخريات في الحرف اليدوية، فمثل هذه المبادرات قد زادت من دخل النساء المشاركات بنسبة 40% خلال عام واحد، ووفرت فرص عمل جديدة للعديد من الاسر.
السياسات المطلوبة لتمكين المرأة الريفية
يتطلب تمكين المرأة الريفية في العراق سياسات متكاملة تبدأ بتحسين فرص التعليم من خلال إنشاء مدارس قروية أو توفير برامج تعليمية متنقلة لتقليل نسبة الأمية وتوفير ورش تدريبية حول الزراعة الحديثة والحرف اليدوية وادارة الاعمال، كما يُعد تسهيل وصول النساء إلى امتلاكهن للأراضي الزراعية والقروض الميسرة والموارد الزراعية أولوية، مما يتيح لهن تطوير مشاريعهن الزراعية والحرفية، ولا يمكن إغفال أهمية إشراك النساء الريفيات في صنع القرار المحلي، سواء من خلال تمثيلهن في المجالس البلدية أو تعزيز دورهن في الجمعيات الزراعية لضمان سماع اصواتهن في السياسات المحلية، بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تُخصص الحكومة برامج لدعم المشاريع الصغيرة التي تُديرها النساء، مثل تمويل التعاونيات الزراعية النسائية وتوفير منافذ تسويق لمنتجاتهن كحوافز اقتصادية لمشاريع تُسهم في تعزيز الاقتصاد الريفي.
ختاما نقول، لا يمكن الحديث عن تنمية ريفية حقيقية ومستدامة دون وضع المرأة الريفية في قلب المعادلة، فهي ليست فقط منتجة ومُعيلة، بل تمتلك القدرة على تغيير واقع مجتمعها إذا ما توفرت لها الفرص والدعم اللازم، كما إن الاستثمار في تمكين المرأة الريفية في العراق لا يعني فقط تحسين حياة ملايين النساء، بل يُعد خطوة استراتيجية لتحقيق التنمية المستدامة على مستوى الوطن، ناهيك عن إن المرأة الريفية في العراق ليست مجرد عنصر داعم للتنمية، بل هي محور أساسي لبناء مستقبل مستدام للمجتمع العراقي، رغم التحديات التي تواجهها، فإن تمكينها اجتماعيا واقتصاديا يفتح أبوابا واسعة للنهوض بالاقتصاد الريفي وتحقيق الأمن الغذائي، مما يتطلب الأمر إرادة سياسية ودعما مجتمعيا لتحويل طاقاتها الكامنة إلى قوة دافعة للتنمية المستدامة.
اضف تعليق