الابن الناشئ على احترام الأبوين له، تغمره مشاعر الاحترام لنفسه، وتحفه مشاعر الاحترام من محيطه الاجتماعي، لاسيما لمن يعده الوالدان أن يكون ذو شأن في المجتمع، كأن يكون عالم دين، أو طبيب، او مهندس، او أي اختصاص آخر له مدخلية في التأثير على حياة المجتمع...
خمس سنوات فقط عاشها الإمام الجواد الى جوار أبيه الامام الرضا، عليهما السلام، وكأنها خمسون سنة لكمية الحنان والاحترام والتعظيم الذي اغدقه للامام التاسع من أئمة الهدى، لاسيما وأن الامام الرضا عالمٌ بالفراق المبكر والمؤلم المفروض عليه، مما يجعله يستعجل خطوات التربية والتعليم ليكون ابنه من بعده بكامل الاستعداد لتولّي مهام الإمامة، و هو جدير بها.
ذكرت المصادر أن الأب لم يخاطب ابنه قط باسمه الصغير (محمد)، وإنما بكنيته؛ أبي جعفر، فكان يقول: "كتب الى أبي جعفر"، "وكنت أكتب الى أبي جعفر"، وهو بعد صبياً، ربما في الثالثة او الرابعة من العمر، علماً أن الشيعة المقربين سمعوا من الرضا قوله: "أبو جعفر وصيي، وخليفتي في أهلي من بعدي".
إن في احترام الأب لابنه منذ السنة الاولى والثانية عندما يضع قدميه على الأرض، ويستمع للكلام من حوله، ثم يحاول التكلم ومخاطبة المحيطين، تعد من أعظم الدروس في التربية، وهو ما يقدمه لنا الإمام الرضا في منهجه السماوي الرفيع مع ابنه الامام الجواد الذي نعيش هذه الايام ذكرى استشهاده الأليمة، فهي معادلة منطقية؛ الابن الناشئ على احترام الأبوين له، تغمره مشاعر الاحترام لنفسه، وتحفه مشاعر الاحترام من محيطه الاجتماعي، لاسيما لمن يعده الوالدان أن يكون ذو شأن في المجتمع، كأن يكون عالم دين، أو طبيب، او مهندس، او أي اختصاص آخر له مدخلية في التأثير على حياة المجتمع.
الشخصية المحترمة للامام الجواد جعلته مُهاباً ومؤثراً في الساحتين: السياسية والاجتماعية، ففي الساحة السياسية أثبت أنه، على خطى آبائه وأجداده، وأعلى شأناً من الحكام والسلاطين مهما أوتوا من قوة، وقد تعرّف عليه المأمون العباسي لأول مرة، كما في الرواية التاريخية، عندما كان الاخير في رحلة صيد فمرّ على مجموعة صبيان يلعبون، وكان الامام الجواد واقفاً بالقرب منهم، فلما دنا موكب المأمون مع جمع من الفرسان، فرّ الصبيان فوراً إلا الامام الجواد بقي في مكانه، فسأله المأمون عن سبب عدم التحاقه بأترابه فأجابه الامام، عليه السلام: لم يكن في الطريق ضيق لأوسعه عليك بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها! فعندما سئل عنه، قيل له إنه الامام الجواد بن الامام الرضا، عليه السلام، فعرف المأمون سر هذه الشجاعة ومصدرها.
أما على الصعيد الاجتماعي فان شيعة أهل البيت استقبلوا الامام الجواد بعد استشهاد أبيه الرضا، عليهما السلام، خليفة لجدّه رسول الله، وهو صبي صغير، وفي الرواية أن جمهور الشيعة توافدوا على المدينة "لينظروا الى أبي جعفر الجواد، فدخل عمه عبد الله بن الامام الكاظم، وكان شيخاً كبيراً نبيلاً عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجادة، فجلس وخرج ابوجعفر من الحجرة، وعليه قميص قصب، ورداء قصب، ونعل جدد بيضاء، فقام عبد الله فاستقبله وقبل بين عينيه، وقام الشيعة وقعد ابوجعفر على كرسي ونظر الناس الى بعض وقد تحيروا لصغر سنّه، فابتدر رجل من القوم فقال لعمه: أصلحك الله، ما تقول في رجل أتى بهيمة؟
فقال عبد الله بن الامام الكاظم: تقطع يمينه ويضرب الحدّ.
فغضب ابوجعفر، عليه السلام، ثم نظر اليه وقال:
اتق الله يا عمّ! إنه لعظيم ان تقف يوم القيامة بين يدي الله –تعالى- فيقول لك: لم أفتيت الناس بما لاتعلم؟
فقال له عمه: استغفر الله ياسيدي، أ ليس قال هذا أبوك، عليه السلام؟
قال الامام الجواد: إنما سُئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها فقال أبي: تقطع يمينه للنبش، ويضرب حد الزنا فإن حرمة الميتة كرمة الحية.
فقال له عمّه: صدقت ياسيدي وأنا استغفر الله.
نفس الموقف تكرر مع علي بن جعفر الصادق، عليه السلام، وكان شيخنا طاعناً في السن، عندما استقبل الامام الجواد في المدينة في مسجد رسول الله، وهو بلا رداء ولا حذاء، يعظمه ويحترمه أشد الاحترام، فدعاه الامام الجواد بأن "اجلس يا عمّ رحمك الله، فقال ياسيدي كيف أجلس وأنت قائم؟ فلما رجع علي بن جعفر الى مجلسه جعل اصحابه يوبخونه ويقولون: انت عمّ أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل! فقال: اسكتوا، اذا كان الله -وقبص على لحيته- لم يؤهل هذه الشيبة وأهّل هذا الفتى ووضعه حيث وضعه، أنكر فضله؟! نعود بالله مما تقولون بل أنا له عبد". (لمحات من سيرة المعصومين، عليهم السلام- منار دفار البدري).
إن الحرص الشديد على صياغة الشخصية المحترمة والمهابة منذ الطفولة الاولى، يعد مطلباً استراتيجياً في المنهج التربوي لأئمة أهل البيت، ايماناً منهم بالقضاء والقدر، وأن الله –تعالى- غيّب الآجال عن العباد، الى جانب التهديدات من الاطراف المناوئة، فلابد من وجود الشخصية المؤثرة والقيادية الناجحة في المجتمع للقيام بالمهام الرسالية بأقرب فرصة ممكنة، لا أن ننتظر ان يكبر الصبي ويكون شاباً يافعاً ثم يدخل الدورات التأهيلية، والمدارس الدينية ليتعلم علوم الدين والأخلاق، ومن ثم يكون انساناً مؤهلاً لقيادة المجتمع.
اضف تعليق