إن الجمهور لن يتفاعل ويستجيب إلا لمن يحمل الثقة بنفسه والايمان بما يقول، فهو مسؤول عن كلامه وعن أفكاره، وهو ما جسده الأئمة الاطهار خلال معاشرتهم لمجتمعاتهم، فما كان يصدر منهم، يُعد الأول والاخير، ولا يحيدون عنه مطلقاً مهما كلفهم من استفزاز السلطة، وتسقيط المناوئين، بل حتى التضحية بأرواحهم...
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}.
سورة الانفال: الآية42
الصبر قيمة دينية سامية تعكس نمطاً من السلوك الانساني المترفع على اللحظة الراهنة، متطلعاً الى نتائج أفضل في ظروف وحالات متعددة، لذا نجد تصنيفاً جميلاً للصبر يستوعب جوانب عدّة من حياة الانسان، فثمة صبراً الى المصيبة، وصبراً على الذنب، وصبراً على البلاء، الى جانب تفريعات من هذه الاصناف الرئيسة تتعلق بالسلوك والثقافة، ربما يكون منها؛ الصبر على أذى الجار، او الصبر على مشاكسة الابناء، والصبر على الفشل، وما الى ذلك، ومنها ايضاً؛ الصبر لأداء الرسالة الفكرية والثقافية الى الجمهور، ولعلها من أشد ما نحتاجه في الوقت الحاضر مع كثرة وسائل الاعلام والتواصل والاتصال وتبادل الافكار والرؤى والمعلومات عبر التقنيات الحديثة، حتى أصبحت القناعة والإيمان عملتين نادرتين في ساحة التخاطب حالياً.
الصبر لإيصال الحقيقة
من إفرازات عصر السرعة؛ اتساع مساحة القناعة في الاذهان، وتراجع مساحة الإيمان في النفوس بكل شيء في الحياة، والسبب –من جملة اسباب-؛ صعوبة الخروج بنتيجة محددة وسريعة من دوامة "النسبية"، و"الإطلاق" في المفاهيم والقيم، الى جانب مسألة التوثيق في المصادر، فثمة من يُشكك، وآخر يُقدّس، بما يضعنا في ساحة صراع أداتها التطرّف ونحن بعد في المرقاة الأولى قبل الصعود الى مراقي التقدم العلمي والثقافي انطلاقاً من تلكم الحقائق المتعلقة بالإنسان والحياة والمجتمع والتاريخ، الامر الذي يدفع البعض لتفضيل القناعة على الإيمان بهذه الفكرة او تلك النصيحة وفق مبدأ الحاجة والمنفعة، فيكون من السهل –عند البعض- التحول بالقناعة من هذا الى ذاك.
وقد رصد العلماء حالة الصدّ لأية محاولة إرشادية او تبليغية بنيّة إفادة الناس في حياتهم الشخصية والأسرية، وجوانب مختلفة اخرى، وجرى نقاش حول الآلية الحسنة للدعوة الى سبيل الله –تعالى- منطلقين من قاعدة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي أكثر من فريضة عبادية، تتعداها الى مسعً للبناء الانساني والاجتماعي والحضاري، إنما المشكلة في طريقة التعامل مع الرفض للخطاب الإرشادي رغم طابعه الايجابي المحبب الى النفوس.
طائفة من العلماء والفقهاء شرطوا وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باحتمال التأثير الايجابي في المخاطب مستندين على الدليل العقلي بغياب الدليل الشرعي، وهو ما ناقشه سماحة المرجع الديني السيد صادق الشيرازي في كتابه: "نهج الشيعة، تدبرات في رسالة الامام الصادق الى شيعته"، بعدم وجود دليل شرعي على التخلّي عن التبليغ لأداء الصلاة في اوساط الشباب لعدم تفاعلهم واستجابتهم، "فان الواجب هو إتمام الحجة على الجميع عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، { لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}، وإتمام الحجة قضية مهمة بمفردها لأن الله اراد ذلك، وإن لم نولها الاهمية اللازمة".
ويستشهد سماحته "بالمصاعب التي واجهها رسول الله، صلى الله عليه وآله، في عصره إذ لم تعد موجودة في العصر الراهن، فاذا ما واجه المؤمنون مصاعب ومشاكل في هذا الطريق، عليهم الاقتداء والتأسّي برسول الله، الذي جسد بحق المصداق الأول للصالحين على الأرض، وهو الذي عانا وتحمل ألوان العذاب والبلاء ولم يتنازل قيد أنملة عن حقه و واجبه"، ومن بعده واصل الطريق الأئمة المعصومون، والأولياء الصالحون، صبروا على وعورة الطريق، ومعاناة لا توصف في زمانهم، كما فعل المتأخرين من العلماء المجاهدين والمصلحين الثائرين، فهم لم يحملوا راية الإصلاح والتغيير استجابة لرغبة الناس، وإنما تأدية لواجب مقدس، وهدف انساني نبيل.
وفي المؤلف المشار اليه يدعونا الامام الصادق في سياق توصياته بالصبر "وتكظّموا الغيظ الشديد في الأذى في الله"، بأن لا نضع أنفسنا في موقف الجهل، "فتدبروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه"، وقد فسّر سماحة المرجع الشيرازي "الجهل" بالسَفَه، "إذ ان السفيه هو من يعلم الشيء ولا يعمل به"، وهو اختبار شديد لكل ذي لُبّ من اصحاب البيان والقلم والفكر، فهم مدعوون على طول الخط للصبر على و رباطة الجأش في مسيرة نشر الحقائق الى الجمهور بما يرتقي بهم الى مستوى الوعي والمسؤولية، وتجنب الاخطاء والانحرافات التي تكلف الكثير.
الثقة بالنفس والايمان بما يُقال ويُكتب
الصبر كممارسة عملية تستند بالدرجة الاولى قاعدة نفسية في ذات صاحبه بأن الله معه في صبره على من يعارضه ويسعى لتسقيطه، مما يعطيه زخماً معنوياً، فتكون ثقته بالله –تعالى- وبنفسه في آن، فتهون عليه مختلف اشكال الضغوطات والمنغّصات خلال تأدية دوره الرسالي بإيصال الكلمة والحقيقة الى الجمهور.
إن الجمهور لن يتفاعل ويستجيب إلا لمن يحمل الثقة بنفسه والايمان بما يقول، فهو مسؤول عن كلامه وعن أفكاره، وهو ما جسده الأئمة الاطهار خلال معاشرتهم لمجتمعاتهم، فما كان يصدر منهم، يُعد الأول والاخير، ولا يحيدون عنه مطلقاً مهما كلفهم من استفزاز السلطة، وتسقيط المناوئين، بل حتى التضحية بأرواحهم.
اضف تعليق