قال تعالى: وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا.
تعدُّ الحياة المباركة للصدّيقة الزهراء(ع) -برغم قصرها– المصداق التطبيقي الأمثل للمرأة المسلمة، فقد أوكلت الشريعة الخاتمة تطبيق أكثر المفاهيم والقيم الإسلامية –سيما ما يتعلق بالمرأة- على أرض الواقع بالصدّيقة الزهراء(ع). وقد كان تعامل رسول الله(ص) مع ابنته فاطمة الزهراء(ع)، بما يمثله التعامل القولي والفعلي للنبي(ص) من سنة تقتدى، تشريعا لكثير من الأحكام والمفاهيم الإسلامية تأسيسا وتأكيدا.
كما ان حياتها المباركة شكلت نقطة انطلاق جديدة للمرأة في مختلف أدوارها الحضارية. فقد اضطرب المعيار الاجتماعي في تقويم المرأة وتحديد منزلتها في المجتمع، قديما وحديثا، متأرجحا بين الإفراط والتفريط. وتقلبت النظرة الاجتماعية إليها بين من صورها شيطانا يسول المعصية والذنب، وبين من جعلها السيدة المطلقة في المجتمع تحكم فيه بإرادتها ومشيئتها من دون حسيب أو رقيب.
ومن خلال هذين الاتجاهين المتضادين يبرز التقويم الاجتماعي للمرأة وفق النظرة الإسلامية، فنرى الإسلام –من خلال منظومة أحكامه وتشريعاته ومبادئه وأخلاقياته– يساوي بين الرجل والمرأة فيما تقتضيه الحكمة والمصلحة. ويفرق بينهما في بعض الواجبات والحقوق والأحكام تبعا لاختلاف الخلقة والتكوين الجسدي والعاطفي والعقلي لكل من الجنسين، وبالتالي يتحقق التعاون والتكامل والتكافل بينهما بما يضمن نجاح الحياة الاجتماعية وديمومتها.
وانطلاقا من هذا التأسيس نستطيع التعرف على الأدوار العظيمة للزهراء(ع) وأثرها على الأمة في مختلف أدوارها الحضارية. ولنأخذ بعضا من تلك الأدوار على سبيل المثال:
1) فعلى الصعيد الاجتماعي،
كانت الزهراء(ع) المثل الأعلى والأسوة الحسنة للمرأة المسلمة في مختلف العلاقات الاجتماعية، أدت ما عليها من الحقوق على أتمّ وجه حتى أصبحت سيرتها العطرة مثلا أعلى يجدر الاقتداء به، وموردا من موارد الآداب اٍلإسلامية في ميادين التطبيق. فكانت(ع) فحينما يدخل عليها أبوها رسول الله (ص) تقوم من مجلسها تعظيما واحتراما له وتقبّل يده وتجلسه في مجلسها، وكانت تكشف الكرب والهموم عنه بسبب ما كان يواجهه من التحديات الكبيرة التي كانت تعترض الدعوة الإسلامية، وتغدق عليه مشاعر الرحمة والحنان، حتى سميت لأجل ذلك (أم أبيها).
وفي بيت زوجها أمير المؤمنين(ع) كانت نعم الزوجة، ونعم المربية لأولادها، فلم تكلف زوجها فوق طاقته فيما يتعلق بأمور المعيشة، بل كانت تسهم في بناء بيت الزوجية لتغمره دفأ وحنانا وحياة. يروى أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رأى فاطمة (ع) وعليها كساء من أجلة الإبل وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله(ص)، فقال: يا بنتاه، تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول الله الحمد لله على نعمائه والشكر لله على آلائه، فأنزل الله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى}.
فمع ما أصابها من عبادة الله سبحانه من قيامها في المحراب ليلا حتى تورمت قدماها، ومع ما أصابها نهارا من خدمة بيت زوجها، وتربية أبنائها، حتى قال علي (ع) أصابها من الضر والضرر الشديد، لم تشتك مما جرى عليها، وتجاوزت عن مرتبة الصبر على تلك الشدائد إلى مرتبة الشكر عليها، فهي لم تر مصيبة حتى تصبر عليها، بل رأتها ألطافا إلهية ظاهرية.
2) وأما على الصعيد الفكري،
فقد كانت(ع) تلميذة الوحي الأولى، تقتبس علومها من سراج النبوة وقنديل الإمامة، ولقد كانت تعاليمها وأحكامها وكلماتها المباركة نبراسا يستضيء به العالِم والحكيم، وكنزا من كنوز المعرفة والبيان، ينبئك عن ذلك مما في خطبتيها اللتين ألقتهما على المهاجرين والأنصار ونسائهم، بما تحمل من درر البيان وشذور المعارف. وقد تصدى لشرح تلك الخطبتين، بل ومطلق كلماتها العطرة، العديد من العلماء والحكماء، وقُدمت الكثير من الرسائل الجامعية وهي تقتبس من سراج علمها وهديها.
3) وأما على الصعيد العقائدي،
فقد جعلها الله تعالى حجة له على خلقه كما جعل أباها وزوجها وأولادها كذلك، وروي عن الإمام الحسن العسكري(ع) أنه قال (نحن حجج اللّه على خلقه، وجدّتنا فاطمة(ع) حجّة اللّه علينا). بل جعلها صاحب الشريعة المقدس(ص) معيارا وميزانا يميَّز به المؤمن من المنافق، والحق من الباطل، بما تواتر عن النبي(ص) قوله" إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ".ومن كان الله يرضى لرضاه ويغضب لغضبه بلا قيد ولا شرط، لابد أن يكون رضاه وغضبه - بضرورة العقل - منزهين عن الخطأ والهوى.
روي عن الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب(ع) قال: رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثم الدار.
ولكن – وللأسف الشديد - لم تراع الأمة حرمة بنت نبيها، فلم تحفظه في أقرب الناس إليه، ولم تصغ إلى أمر ربها، وكتابُه يصدح بالحق ويأمر بمودة قربى الرسول(ص)، فجرعوها عظيما من المصائب والأذيات وسلب الحقوق وانتهاك الحرمات، حتى صار –بسبب وضوحه وظهوره- مرتكزا من مرتكزات شيعة أهل البيت(ع) وبدهي من بدهياتهم الاعتقادية.
يروى عن السيد زينب بنت أمير المؤمنين(ع)، قالت: لما اجتمع رأي الأول على منع فاطمة عليهما السلام فدك والعوالي، وايست من إجابته لها، عدلت إلى قبر أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله فألقت نفسها عليه، وشكت إليه ما فعله القوم بها وبكت حتى بلت تربته عليه السلام بدموعها وندبته، ثم قالت في آخر ندبتها:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم فقد نكبوا
الى آخر الأبيات.
ولم تزل الزهراء(ع) معصبة الرأس، ناحلة الجسم، منهدة الركن، باكية العين، محترقة القلب، يغشى عليها ساعة بعد ساعة، حتى اقتربت منيَّتُها ودنا أجلها. والتحقت بربها مهضومة مظلومة. ولما وارها أمير المؤمنين(ع) في قبرها التفت الى جهة قبر رسول الله(ص) وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله مني، والسلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة عينك، وزائرتك والبائتة في الثرى ببقعتك، والمختار لها الله سرعة اللحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، وضعف عن سيدة النساء تجلُّدي، إلا أن في التأسي لي بسُنَّتك والحزن الذي حلَّ بي بفراقك، موضعَ التعزي، فلقد وسَّدتك في ملحود قبرك، بعد أن فاضت نفسك على صدري، وغمضتك بيدي، وتوليت أمرك بنفسي، نعم، وفي كتاب الله أنعم القبول. إنا لله وإنا إليه راجعون. لقد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول الله، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم، كَمدٌ مقيح، وهَمٌّ مهيج، سرعان ما فُرِّق بيننا، وإلى الله أشكو. وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك عليّ وعلى هضمها حقها، فاستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلا وستقول، ويحكم الله، وهو خير الحاكمين. ولولا غلبة المستولين علينا، لجعلت المقام عند قبرك لزاما، وللبثت عنده معكوفا، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية، فبعين الله تدفن ابنتك سرا، وتهتضم حقَّها قهرا، وتُمنع إرثَها جهرا، ولم يطل العهد، ولم يخلُ منك الذكر، فإلى الله - يا رسول الله - المشتكى، وفيك أجمل العزاء، وصلوات الله عليك وعليها ورحمة الله وبركاته.
اضف تعليق