تجتمع الغيوم بعد افتراقها في جناح السماء، عابثة ضائعة في جو الصيف القائظ، ولأن الحرارة كانت على أشدها، فقد كان الناس ينفثون الهواء الثقيل من صدورهم آملين في هواء بارد منعش.
في حي شعبي، حافية القدمين، لاهثة.. الهواجس تبعثرها مرة وتعتصرها مرة أخرى.
تحاول الركض بسرعة فيبطئ من سرعتها خوفها، جُل تفكيرها كيفية العودة للبيت دون طفلها، من يدثرها من البرد، نسيت عباءتها، ماذا حل بها؟!.
لا تدري، لا تدري كيف تمالكت نفسها، وأمسكت دموعها ولم تنهار أمامه، كيف خرجت مهرولة، إنها جاءت لتستبقيه وليس لتودعه، وأن تسقط دموعها في حضرته، بعد خطوات قليلـة تحت السماء الساخنة، وعند أول بركة دم قابلتها، استقرت قدمها في قاعها، وقفت، دموعها سوداء، فالكل يبحث عن الجثث، والاشلاء، تمشي ببطء غير عابئة بمن حولها، ظنها المارة أنها تبحث عن شيء ما؟.
لهم العذر في ذلك، فهم لم يروا ما بداخلها، امرأة ثكلى مجروحة القلب، ينتابها الخوف، والأكثر.. الحلم الذي تشتت بداخلها، إنها أم تبحث عن جثة طفلها، أنهكتها الاوجاع، فتوقفت والتفتت الى الوراء لعله يكون مصاباً، عباس، عباس، لَملَمت أوراقه المبعثرة في المكان، ما ضرّ هذا الوقت لو توقّف قليلا؟ لو توقفت الثواني عن التّقافز، أرى دموعها تصرخ، وعلى ثغرها تتزاحم الأحرف، لكن لا جواب، لامستها رعشة قاسية، روحها الهائمة، تجتمع النظرات في رؤى الهواجس فتقع في أغوار الاحلام، خطوات حائرة، ينبعث الصراخ والعويل من كل مكان، تشابكت الأيادي وتباعدت الأحقاد، هل هو كابوس مزعج؟ الوقت يقتات نفسه؟ خلف السيارة المحترقة، توجس، تتأمل الأشلاء المتطايرة في الهواء، تقمص الخوف ردائها، تتشابك الأفكار بعد أن حاصرتها فكرة واحدة هي موت طفلها، تتحدث بلغة الهمس بين الجثث المقطعة.
طال الحديث فيما بينهم، تمد ذراعيها نحو السماء، يا راد يوسف إلى يعقوب ارجع لي ولدي، هكذا تترابط الحروف الأمنيات وفي دنيا الغدر، تترقب الجثث، وقلبها حائر، وان كانت جثته مقطعة لكن صدرها يعرف من رضعه، تبحث في زوايا المكان المحطم الممتلئ بالدخان الأسود، كما تشاء وعن أي شيء، هنا يد مقطوعة، خصلات شعر، قطعة لحم كبيرة، خائفة أن تعثر على جسد طفلها، في اللحظة التي يتعطل فيها القلب والعقل معا، سكتت قليلاً، بدأتْ تشعر بالاختناق من كثرة الدخان المتصاعد إلى السماء، السوق كله محترق، الأجواء في المدينة مظلمة، بدأت النار تستعر تحت الرماد، القلوب الفاقدة تكتوي بالآلام، تتّقد وقد أزفت الأرواح بين طيات الوطن، مثلما تنطوي الغيوم في السماء.
ما زالت واقفة بين عشرات الوجوه، صراخ المعولات، هذه تنعى أخاها وتلك أباها، وهذه لفقد طفلها تنوح، انتبهت على حقيبة زرقاء عند جانب أحد المحلات المحطمة، هذه حقيبة عباس، تهرول نحوها، تعانق حقيبة طفلها، تأخذ نفسا عميقاً، تمسح وجهها الحزين، تجلس مع أغراضه المبعثرة على الرصيف، تملأ سمعها بصوت طفلها الذي خرج قبل ساعة فقط، أمنية وحلم عمر، وحصاد سنين وانتظار طويل، تبددت كل أحلامها سراب، زهرةٌ احرقت وتناثرت أوراقها في الهواء، جسد صغير.
ضاع كل شيء، رياح الغدر أخذت منها أغلى ما تمتلك، وأعطت لها بالمقابل مرارة وحسرة وحيرة طيلة عمرها، جلست أعلنَت عجزها عن الوقوف، قالوا لها أن ولدك واقفاً جنب السيارة المفخخة، اختنقت بعبرتها، وعندما حصل الانفجار، لم نعثر على جسده وما عثرنا عليه هي حقيبة المدرسة ودفاتر واقلام، وفردة واحدة من حذائه ،عظم الله اجرك بولدك عباس، ها قد انتهت الإسعاف من رفع الجثث المقطعة، ولم يعثروا على ولدي.
أين انت يا كل اشواقي، استيقظ يا عباس، تأخرت عن موعد الامتحان ومعلمتك تنتظرك، ولم يبق شيء أكملت اليوم آخر امتحان لك، تعال يا ولدي، اعالج كل شرايينك النازفة، واخيط كل قطعة منك، تعال ، انا لا اصدق ما قالوا، صغيري، قبل ساعة غسلت جسدك، وعطرت ثيابك، وسرحت شعرك، مازحتني كثيرا اليوم، أيها الموت خذني انا، اقتلوني انا، قطعوا جسدي انا فقط ارجعوا لي ولدي، صغيري يخاف من الظلام، يخاف من النوم بعيدا عني، سريره الخشبي خذوه له لعله لا يخاف عندما يراه يتذكرني وانا أناغي له (دللول يلولد يبني... دللول) خففوا الوطء لعل شيئا من أشلائه هنا أم هناك، بعثروه، مزقوه، جسد ولدي.. روحي تحتضنك، أولئك الذين سرقوا اعماركم لتبقى كراسيهم، لهفي على ولدي، وآ ولداه، باكية تنعى روحها، كَيفَ لي يا ولدي، وأنت لا قبر لك، ولا منار، كَم تمَنيت أَن أَنقشَ لك يَدك ليلة عُرسِك، كَم تَمنيت أَن أراك عريسا، خان الدهر والسلطان، وها أَنا أُودِعُك لِمثواك الأخِير، طافت بأرجاء المدينة ونفسها رازحة تحت عبء من القهر والحنين، تقلب ناظريها في الإرجاء لعلها تعثر على جسد طفلها، ما زالت على حالها تراوح في موضعها كما عهدتها منذ حادثة الانفجار.
اضف تعليق