كان هناك تحذير في الولايات المتحدة وأوربا من عمليات يقوم بها أفراد على صلة مباشرة أو غير مباشرة/إنتماء آيديولوجي بتنظيمات داعش الارهابية، وكان التركيز الأمني والإعلامي على الصنف الأخير، ثم شهدنا بعد فترة من هذه التحذيرات ظاهرة الذئاب المنفردة التي كانت التحذيرات والدوائر الأمنية في أميركا وأوربا تطلقها إسما ووصفا على هؤلاء الأفراد الارهابيين وقد استهدفت تلك الأعمال مؤخرا دول أوربا الغربية بشكل مركز.

فقد شهدت مدن ألمانيا وفرنسا وهولندا والسويد عمليات من هذا النوع اعتمدت في تنفيذها انواع من الأسلحة بدائية الصنع كالعبوات الناسفة أو بدائية الآلية كالسكاكين والأدوات الحادة الجارحة، ثم تطورت الى عمليات دهس مقصود، وأخرها استخدام المسدس الشخصي كما حدث في أخر اعتداء في جادة الشانزليزيه في باريس، لزرع الفوضى والإحساس بالرعب بين شعوب ودول أوربا، ولم تكن نوعية هذه العمليات وعددها في الولايات المتحدة بالمستوى الذي يحصل في اوربا، وهو ما دعا ترامب الرئيس الأميركي الى إجراءات مشددة في قضية اللجوء ودخول الأراضي الأميركية لكن إجراءاته المتشددة صنعت منه متطرفا آخر في قبالة التطرف الأصولي.

وقد كشفت وسائل التحقيق وإجراءاته عن تصنيف لهؤلاء الأفراد الذين أغلبهم من فئات عمرية تنتمي الى مراهقين وشباب وتم تصنيفهم بانتمائهم الأيديولوجي لأفكار داعش والتطرف الأصولي وصلتهم بهذا التنظيم عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي وفيها تتم البيعة وأخذ العهود ومنح الضوء الأخضر لهذا على بعد بتنفيذ ما يراه ويخطط له بمفرده، فيكون جيشا بمفرده كما جاء في توصيفات وتوجيهات الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي الذي دعا الى إدارة لا مركزية لعمليات الإرهاب في العالم وابتكر مقولة (ان كل مسلم يجب ان يمثل جيشا من رجل واحد).

وقدمت مواقع الشبكة العنكبوتية تسهيلات هائلة أمام توجيهات ونصائح قادة التنظيم الإرهابي وهم في مراكز القيادة لهؤلاء الاعضاء المنفردين عن تنظيمات داعش والمنتمين ايديولوجيا الى عقيدة الإرهاب السلفية الطابع والجذر التاريخي، وقد شكلت تلك الحالة صورة من مساوئ التقنية والتكنولوجيا التي استندت الى مفاهيم الرأسمالية المتوحشة والباحثة عن الربح بغض النظر عن مشروعيته الإنسانية والأخلاقية، فقد وضعت مجلة (إلهام) الالكترونية الصادرة عن تنظيمات القاعدة خبرة صناعة قنبلة وكان العنوان الذي اختارته (كيف تصنع قنبلة في مطبخ أمك) وهو تعبير يكشف عن الفجاجة الاجتماعية التي تتعامل بها هذه التنظيمات الارهابية بإزاء ضحاياها الأيديولوجيين وفئات المراهقين والشباب الضالة باستحضارهم ذاكرة الطفل لا سيما في العلاقة مع المطبخ الذي تشغله الأم دائما بصناعة الحلوى في حالة حضور الأطفال بين جدرانه.

انه اعتراف ضمني من قبل هذه التنظيمات بانها تستغل الفئات العمرية التي لم يكتمل لديها النضج الثقافي، بل وحتى التربوي وقد بلغت هشاشة النضج في مثل هذه الفئات الى الحد الذي وصف بعض التحقيقات الرسمية أفرادها الذين نفذوا عمليات متأخرة بأنهم تطرفوا أخيرا، بل ان بعضهم له سوابق جرمية وحالات شذوذ مما يعني ان الجانب العقائدي والسياسي يشغل حيزا ضئيلا لديهم، لكن هوس الموت والرغبة في الخلاص من الحياة وجدت لها مسوغات نفسية وشرعية ضالة في عقيدة الإرهاب وداعش.

لاسيما وان عيشهم المشتت وغير المنضبط بمعايير الدول والمجتمعات التي آوتهم ومنحتهم حق اللجوء وعدم قدرتهم على اندماج كلي او جزئي في حياة هذه المجتمعات مهد الى إحساس بالعزلة والانفراد الذي جاءت أفكار داعش والإرهاب لتضفي عليه ذئبية وحشية وتصوغه على شكل ذئب منفرد ذي وظيفة مزدوجة، فتتشكل وظيفته بالنسبة لداعش في الثأر من الدول التي أعلنت الحرب عليه.

ووظيفة الذئب المنفرد بالنسبة لذاته هو الثأر من تلك المجتمعات المفارقة لأصوله الثقافية التي كانت تتشكل فيها سلفية متجهمة ثم اصولية متطرفة وهي أصول فكرية وأيديولوجية لم تكن قادرة على الاستجابة الى متطلبات عالم حديث يقف على اعتابه او مخترقا له باللجوء والاقامة، عالم صحراء يهدد دوما بالكيد له والقضاء عليه، ونجد تيرير فعلته أو صراعه ضمن مقولة أو مفهوم الصراع بين البداوة والحضارة التي تعد أهم مقومات عالمنا الشرقي...

الذئاب المنفردة ورمزية الصرع

كان أول من استخدم مصطلح الذئاب المنفردة هو أبو مصعب السوري في كتابه دعوة المقاومة الاسلامية، وكان في حينها في تنظيم القاعدة ثم انتقل الى عضوية تنظيم داعش وشغل منصب قائد ميداني لدى داعش في الموصل. ويكشف استحضار داعش صورة الذئب المنفرد وتوصيف أعضائها بها الذين انقطع بهم المكان عن تنظيمها ومناطق حصرها، يكشف عن انتماء رؤساء داعش وقادتها الى ثقافة بدوية ظلت تحتفظ بها ذاكرتهم وانغرست عميقا في تصوراتهم وسلوكهم، ولذلك جاءت حركتهم امتداد ثقافي لظاهرة الصراع بين البداوة والحضارة وتكريس لسلوك بدوي قديم إزاء المدن ومناطق الحضر، وهو ما يفسر ذلك الاندفاع لدى داعش في تحطيم رموز الحضارة القديمة والانتقام من مخلفاتها التي عجز أسلافهم من البدو عن تحطيم كل تفاصيلها.

فالحضارة ثقافة أرض، ولعل انتماء أغلبهم الى مناطق في الشرق في آسيا الوسطى كانت مصدرا لغزوات البدو المتتالية التي أسقطت الحضارات والدول منذ غزوات السلاجقة في القرن الحادي عشر الميلادي وهم من الغز بدو الترك، ثم أعقبتها غزوات المغول المدمرة في القرن الثالث عشر الميلادي وهي قبائل بدوية أسسوا إمبراطورية لهم على ظهور الخيل، ثم ظهرت كامتداد لهم غزوات التتار الوحشية في القرن الثالث عشر أيضا بعد انقضاء عصر المغول وتتألف قبائل التتار من الترك انتهاء بغزوات الترك العثمانيين من بدو الاناضول، وقد شكلت في العالم الحديث مناطق ودول هذه العناصر أو بقايا قبائل البدو فيها مصدرا خطيرا لتمويل التنظيمات الإرهابية بالعناصر البشرية الخطيرة، فنجد ألقاب الشيشاني والايغوري وغيرها من تلك الاصول البدوية حاضرة في تنظيم داعش.

هذا عن الأجانب في داعش، أما العرب فان صحراء العرب ومحال البدو هي التي قذفت بأغلبهم نحو العراق والشام، فهناك أكثر من سبعة آلاف سعودي كانوا من بين عناصر الإرهاب توزعوا بين القاعدة وداعش في العراق، وهناك ملاحظة ميدانية، فان التنظيمات الإرهابية في العراق انتشرت واتسعت في المناطق المحاذية للصحراء والتي تشكل امتدادا طبيعيا للصحراء السورية الكبرى، و ينتمي أبو بكر البغدادي زعيم داعش الى تلك المناطق التي تقف على أعتاب الصحراء، بل وتنتمي الى تلك الفيافي والقفار، ويدخل بقوة موروث الصحراء في إعدادها وتنشئتها.

ولقد كانت صورة الذئب والمتخيل العربي فيه واحدا من ذلك الموروث الذي أولعت به الذاكرة البدوية/العربية، وضمنته الكثير من أمثالها وأشعارها، وقد شغل به البدوي في حديثه عن سلوك الكائن الوحشي أو المنفرد في الصحراء، لاسيما وأن المنفرد فيها هو ما انقطعت وشائجه مع قومه وعصبيته، فالخليع والطريد هو من انخلعت أواصر العلاقة عن جماعته وعاش منفردا أو ملتحقا بمجموعة من صعاليك الصحراء، ويطلق عليهم الذؤبان أيضا وهي ظاهرة لم تقتصر على انسان الصحراء دون حيوانها أو ذئبها.

يقول إمرؤ القيس:

لقيت عليه الذئب يعوي كأنه.....خليع خلا من كل مال ومن أهل

ويقول المرقش:

ولما أضأنا النار عند نزولنا.....عرانا عليها أطلس اللون بائس

ويعجب شاعر بدوي آخر من صنيع ذئب منفرد وهو على غدير ماء فيقول:

ألم تعجب للذئب بات يعوي.....ليؤذن صاحبا له باللحاق

وهكذا ألفت صحراء العرب أو ثقافة العرب ظاهرة الذئب المنفرد وهو ما أنفرد دون قطيعه وحينها يكون مستوحشا في ظل انفصاله عن جماعته مما يحدو به أن يكون وحشا أفتك وأخطر، وفي هذا يقول كعب ابن زهير:

وان يعد في شيعة لم يثنه نهر.....وان غدا واحدا لا يتقي الظلما

وعناية الذاكرة البدوية/العربية به من بين كل المفترسات والضاريات هو إلفه السكن في صحراء العرب وملازمته لها في العيش، ويكون على مساس واحتكاك دائم بحياة البدوي لاجتماعهما على مطاردة الصيد من أجل لحمه وطعمه وارتياد الواحة والغدران لإرواء الظمأ الحار في الصحراء، وهناك من أصناف اللقاء بينهما ما حدثنا به الشعراء من العرب من الشنفري الى الفرزدق الى البحتري الى آخرين كثر لاسيما لقائهم بالذئاب المنفردة ويصف الفرزدق لقاء عابرا له مع ذئب منفرد فيقول:

وأطلس عسال وما كان صاحبا.....دعوت بناري موهنا فأتان

فقلت له لما تكشر ضاحكا.....وقائم سيفي من يدي بمكان

تعش فان واثقتني لا تخونني.....نكن مثل ياذئب يصطحبان

وأنت إمرؤ والغدر كنتما.....أخيين كانا أرضعا بلبان

وخيانة الذئب وظلمه وغدره هي مما احتفظت به الذاكرة العربية في توصيفه وتعريفه، فقد قالت العرب فيه أخون من ذئب، أظلم من ذئب، الذئب غادر والذئب فاجر، ولاحياء له، وفي هذا يقول المتنبي:

ليس حياء الوجه في الذئب شيمة.....ولكن من شيمة الأسد الورد

وفي غدره يقول العجاج:

فلا تكوني ياابنة الأشم.....ورقاء دمى ذئبها المد مّى

والورقاء هي الذئبة التي تأكل ذئبها اذا رأت دم جراحه ولذلك قالوا: أعق من ذئبة.

وتنجح بذلك مطابقته للذئب المنفرد الإرهابي، فهو يعق ويخون ويظلم ويغدر بالمجتمعات التي مدت له يد العون وأنقذته من الجوع ومساويء الحال، بل أغرب مطابقة بين ما ذكره الجاحظ عن جرو الذئب فيقول (ولو أخذ انسان جرو ذئب صغير من جرائه لما نزع الا وحشيا غدورا مفسدا) وموضع المطابقة أو المقارنة هو الجيل الرابع من المهاجرين الى أوربا الذين تبنوا أفكار التطرف والارهاب ونفذوا عمليات إرهابية في الدول التي يقيمون بها.

وتلك المطابقة التي يستند لها قادة داعش في التأصيل الثقافي لاختيارهم لقب أو اسم الذئاب المنفردة انما تستمد من تلك الصور المنتزعة في ذاكرة البدو في جرأة الذئب وغدره وظلمه وفتكه وانكبابه على الصيد بمفرده في صحراء العرب، وهي شكلت ذلك الموروث الثقافي لدى قادة داعش في استحضار صورته بل وأسمه وصفته لإلصاقها واطلاقها على أفراد انخرطوا في أيديولوجياتهم وانقطع بهم الوصل عنهم، وغدوا على مسافة من البعد كحال الذئب المنفرد في الصحراء الذي لا يألف المدن العامرة والحضارة الزاهرة، وهو موروث عملي يرمز من خلال صورة الذئب المنفرد الى طبيعة الصراع الذي يخوضه هؤلاء الافراد/الذئاب المنفردة، بل وترمز الى هوية كل الصراع الذي تخوضه داعش ضد الاديان والانسان، بل وضد العالم كله الذي ينفرد داعش به أو في الحرب على الكل الذي بات شعارا لداعش.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002 – 2017 Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق