في عصرنا الراهن تعتمد القيمة الخبرية على عدد القتلى ومقدار الدماء في اغلب الاحداث التي يتم تحويلها الى اخبار ومواد اعلامية اخرى حسب ما تمليه سياسة المؤسسات الاعلامية واهدافها، فيما الصراع الذي يوسم العلاقات بين مختلف الدول والمنظمات على مستوى العالم هو الذي ينعكس على شكل اخبار في وسائل الاعلام، اما ذلك لا يمكن ان يخرج للعلن ما دام يفتقد قيمة الصراع ورائحة الدم.
الحديث عن هموم المواطن بشكل منصف بضاعة خاسرة في وسائل الاعلام الحديثة، اذ تقوم فكرة الاعلام على الربح وهذا الاخير ينقسم الى الربح المادي وتمثله المؤسسات الاعلامية التجارية والتي تغيب عن الواقع سنوات ضوئية من خلال بث المحتوى الهابط الذي يوصف دائما بانه مطلب ورغبة جماهيرية يجب اشباعها وفق مبادئ "الديمقراطية"!؟، اما الجانب الثاني فهو الاعلام الحزبي الذي يتربح سياسيا من خلال توظيف كل ما يقع امامه من احداث سياسية واقتصادية واجتماعية من اجل خدمة اهداف الحزب وتوسيع النفوذ والقوة. اما المؤسسات الاعلامية الحكومية فلا تزال مشغولة في تلميع صورة رجال السلطة بكل الطرق من خلال وضع السلبيات خلف المرآة حتى لا يتلطخ وجه الحاكم باخفاقاته.
هذا هو واقع العمل الاعلامي في جميع انحاء العالم ومن يتحدث عكس ذلك فهو حر في التعبير عن رأيه، لكن نشك في درايته او ضميره، فما نعيشه اليوم ليس الواقع بل هو واقع يصنعه اصحاب النفوذ في المجتمع، وفي هذا المجال يقول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في كتابه المصطنع والاصطناع: "ان غياب الواقع يعود الى حقيقة غياب العلاقة بين الدال والمدلول. وهذا ما يحصل جراء مضاعفة فعالية الاعلام الذي حول كل الحياة الاجتماعية وكل الواقع الى صورة يقدمها الاعلام. ان ما يقدمه الاعلام ليس الواقع كما هو، ولا صورة عنه، بل هو صورة ولدها الاعلام عن صورة اخرى هي بدورها مولدة منه".
وفي ذات السياق يقول باولو فريري أن تضليل عقول البشر هو "أداة للقهر"، فالقوالب الإدراكية التي ينشرها الإعلام، يتم تشكيلها على يد النخبة، أو الحكومات، ثم تقوم الآلة الإعلامية بضخ هائل من المعلومات والأفكار والآراء، في عقل المشاهد والقارئ والمستمع، لتفسر وتبرر تلك الشروط السائدة لهذا الواقع المصطنع، بل وتظهره في صورة خلابة، وبهذا لا يضمن المضللون التأييد الشعبي فقط، بل يخلقون – بعلم أو بدون علم – المتلقي السلبي الذي لا يستطيع مواجهة الأدوات الإعلامية بما يملكه من أدوات معرفية بسيطة لا تصمد أمام قوالب الإعلام الجامدة، ولا الصور المركبة والموجههة التي يصعب تفسيرها، أو الوصول إلى عناصرها الحقيقية.
وحتى لا نضيع في التنظير نحاول هنا ابراز جوانب عملية من "الاخفاء" الذي تتعرض له الكثير من الموضوعات المرتبطة مباشرة بالمواطن العراقي، والمعروف ان تلك الهموم لا تعد ولا تحصى لكنها في الاعلام لا تتعدى بعض الاخبار الهامشية، في الوقت الذي تدعي اغلب وسائل الاعلام تمثيلها لصوت المواطن في مواجهة التحديات، ولناخذ مثالين بسيطين: الاول يتعلق بموضوعات حقوق الانسان والاخر يتعلق بالخدمات المقدمة للمواطن.
بالنسبة للموضوعات الانسانية يفترض انها تكون في المرتبة الاولى في بلد لديه من الشهداء والارامل والجرحى والنازحين ما قد يتعدى اي دولة في العالم، ومعانات هذه الشرائح الاجتماعية المظلومة يفترض ان تنقل للعلن حتى يعلم بها المسؤول ليقوم بواجبه (وهذه احدى اهم وظائف الاعلام)، كما انها تعكس صورة عن حقيقة ما يقدمه ابناء الوطن من تضحيات.
في تقرير صدر عن "بيت الإعلام العراقي" لعام ٢٠١٥ اكد إن راصديه راقبوا طيلة ٧ أيام (للفترة من ٣١ آب إلى ٦، أيلول) مستوى بث قصص إنسانية في نشرات الأخبار لعينة ضمت ٩ محطات فضائية عراقية، والأولوية التي حازت عليها في النشرة أو المحتوى الخبري، من جهة وقت البث وزمنه، وتواجد المراسل في موقع الحدث، وتنوع المتحدثين، والعرض الكامل لأزمة إنسانية ما.
وأشار التقرير إلى أن نحو ٨٠ في المئة من القصص الإنسانية التلفزيونية جرى إنجازها داخل غرف الأخبار من دون التواصل مع الحدث عبر المراسلين، فضلاً عن اقتباس قصص جاهزة عبر خدمات البث المدفوعة من محطات عالمية. كما أكد التقرير أن نحو ٦٠ في المئة من القصص الإنسانية اعتمدت على ما نشرته مواقع التواصل الاجتماعي من صور ومقاطع فيديو، كما أن العديد من القصص جرى بثها كدر فعل لانتشارها في مواقع التواصل. وقال التقرير، إن "محطات تلفزيونية عراقية أسبغت قصصها الأنسانية برأي سياسي متحزب، ولجأت إلى استعال صياغات تحريضية، كما في تناول قصص المعتقلين العراقيين". وهنا تكمن المشكلة الابرز، فالمعالجة المتحيزة تفرغ الموضوع من محتواه وتجعله عصيا على الفهم، ومن ثم يصعب معه تكوين رأي عام تجاه هذه الموضوعات.
اما بالنسبة لموضوعات الخدمات فالواقع يشير الى انها مغيبة وغير حاضرة على شاشات الاعلام العراقي وان وجدت فهي لا تتعدى التوظيف السياسي لها ولا تتم معالجتها الا بما يخدم الاهداف الحزبية، وحسب ما نلاحظه فانها توظف بطريقة تحريضية لتسقيط هذا الطرف السياسي او ذاك، وفي اغلب الاحيان تعالج بطريقة مجزئة لا تقدم معلومات كاملة، ومن ثم تفقد قيمتها في تقديم صورة واضحة عن الواقع.
الموطن العراقي يقف في هذا المشهد "الصراعي"، غريبا لذلك لا نستغرب عندما يصرخ باعلى صوته، ولان الجميع لا يسمع ولا يرى نجد بعض النشطاء استخدموا لغة الشتائم في مواقع التواصل الاجتماعي تعبيرا عن حجم الضغوطات التي يتعرض لها المواطن ورغم ذلك لا يكون لهذه الصرخات اي صدى في المشهد الاعلامي، حتى وان كان "اعلام الشتائم" صفة مميزة للمشهد الاعلامي العراقي، فحتى الشتيمة الاعلامية يجب ان تخدم اصحاب السلطة والنفوذ والا فانها لا تملك اي قيمة اخبارية.
اضف تعليق