وقف إطلاق النار في غزة سيكون أفضل وسيلة للخروج من معضلة الراعي التي تعانيها. لكن كي توافق إسرائيل على وقف لإطلاق النار، ستحتاج إدارة بايدن إلى الشروع في استعمال المزيد من أدوات ضغطها. يتعين على واشنطن مطالبة إسرائيل بمتابعة أهدافها الحربية من خلال وقف إطلاق...
بقلم: جوست هلترمان
لم يبدأ داعمو إسرائيل وحماس الحرب في غزة - ولكنهم قادرون على إنهائها
كما لوحظ على نطاق واسع، أُخِذ المسؤولون الأمنيون الإسرائيليون على حين غرة بهجوم حماس المروع في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهو الإهمال الذي سمح باستمرار الهياج لساعات قبل أن تتمكن القوات الإسرائيلية من استعادة السيطرة. لكن الإسرائيليين لم يكونوا الوحيدين غير المستعدين. وكذلك كان حال حلفاء حماس، بما في ذلك راعيها الرئيسي، إيران. فكما أوضحت إيران وأعضاء آخرين فيما يسمى محور المقاومة، فإن حماس لم تطلب موافقتهم على خططها ولم تخطرهم مسبقاً بها.
لكن المسؤولين الإيرانيين قرروا أنهم لا يستطيعون أن يتركوا حماس تصارع وحدها، ولا سيما عندما بدأت الحملة العسكرية الإسرائيلية المدمرة في قطاع غزة في إثارة الغضب في جميع أنحاء الشرق الأوسط. لكنهم كانوا حذرين من إثارة حرب أوسع. ونتيجة لذلك، حاولت إيران، من خلال وكلائها في المحور - بما في ذلك حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق وسورية - السير على خط رفيع بين الاستجابة للمطالبة بالقيام بفعل ما، من جهة، ومنع خروج ردود المحور على الهجوم الإسرائيلي عن نطاق السيطرة. من حيث الجوهر، فإن تصرف حماس، دون التنسيق مع سيدتها الظاهرية، عجَّل في نشوب أزمة خطيرة هددت بجرِّ طهران أيضاً إلى خضمها.
بعد خمسة أشهر من الحرب في غزة، تواجه الولايات المتحدة مشكلة مماثلة. فبصفتها راعية إسرائيل وحليفتها الرئيسية، دعمت الولايات المتحدة إسرائيل بقوة في تصميمها على استئصال وجود حماس في قطاع غزة. لكن الحكومة الإسرائيلية تحدَّت باستمرار المطالب الأميركية بالتحلّي بضبط النفس في أفعالها، مما تسبب حتى الآن في كارثة إنسانية أودت بحياة أكثر من 30,000 فلسطيني. الآن، يهدد القادة الإسرائيليون بالمضي قدماً في شن هجوم كبير في رفح، وهي منطقة في جنوب غزة تضم أكثر من مليون مدني، حتى في الوقت الذي تصرح فيه إدارة بايدن مراراً وتكراراً بأنها تعارض مثل هذه الخطوة.
بإظهار عدم رغبتها في الإصغاء إلى مشورة واشنطن، تخاطر إسرائيل بتقويض موقف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وتعريض إدارة بايدن لاتهامات بازدواجية المعايير في وقت تريد فيه حشد الدعم العالمي لأوكرانيا. وقد ينتهي الأمر إلى جرِّ الولايات المتحدة نفسها إلى صراع عسكري أوسع في المنطقة. لقد اتسع الصدع بين القادة الأميركيين والإسرائيليين إلى درجة جعلت الولايات المتحدة تتخذ خطوة نادرة في 25 آذار/مارس بالامتناع عن استخدام حق النقض ضد قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي يطالب بوقف لإطلاق النار في قطاع غزة.
على الرغم من اختلافهما في الطبيعة، إلَّا أن كلتا هاتين الحالتين توضحان ما يمكن تسميته معضلة الراعي. فعلى مدى عقود، سعت القوى العالمية والإقليمية الكبرى، من الولايات المتحدة وروسيا، إلى إيران والمملكة العربية السعودية، إلى إيجاد حلفاء ووكلاء محليين لتوسيع نفوذها في الشرق الأوسط. من الناحية النظرية، تساعد مثل هذه العلاقات بين الراعي والوكيل على توفير حاجز بين القوى الكبرى، مما يوفر إمكانية إنكار المسؤولية، على نحو قابل للتصديق، عن عمليات يمكن أن تتصاعد لولا ذلك. لكن بقيامهم بتسليح ودعم هؤلاء التابعين الإقليميين، فإن الرعاة منحوا وكلاءهم أيضاً فسحة كبيرة للسعي لتنفيذ سياساتهم الخاصة. ووسط صراع مسلح على نطاق الحرب الدائرة حالياً في قطاع غزة، فإن غياب السيطرة المباشرة يمكن أن يؤدي إلى حوادث تضر بمصالح الرعاة أو حتى تهدد بجرِّهم إلى مواجهة مباشرة مع منافسيهم. في الوقت الذي يضغط فيه القادة الدوليون من أجل إيجاد حل لما يجري في غزة، سيتعين عليهم تفكيك ودراسة المخاطر - والفرص - الخاصة التي خلقتها هذه الديناميكية.
أفعال مرعبة تُنفَّذ عن بعد
ربما تكون علاقة الرعاية الأكثر تعقيداً في الشرق الأوسط اليوم تلك القائمة بين إيران وحلفاءها المحليين المختلفين. بالنسبة لإيران، فإن دعم مجموعة من الجماعات الإقليمية مثل حزب الله وحماس يشكل ما تسميه “إستراتيجية الدفاع المتقدم“. وتهدف هذه الإستراتيجية إلى السماح لإيران بالرد عسكرياً على جبهات متعددة على أي هجوم أو تهديد ضدها دون انخراط القوات الإيرانية بالضرورة. إن معرفة الحكومة الإسرائيلية، على سبيل المثال، بأن ترسانة حزب الله الكبيرة من الصواريخ يمكن أن تصل إلى أهداف في جميع أنحاء إسرائيل قد وفَّر لإيران ضمانة مهمة. لكن نجاح هذه الإستراتيجية لا يزال يتطلب من إيران أن تقرر متى وأين تفعِّل وكلاءها.
إيران وأعضاء المحور ملتزمون بحمل الجيش الأميركي على مغادرة الشرق الأوسط. لكن طهران ترى في ذلك هدفاً بعيد المدى، يجري تحقيقه من خلال جعل احتفاظ الولايات المتحدة بوجودها في المنطقة أمراً أكثر صعوبة وأقل شعبية. ويمكن أن تؤدي أفعال متهورة يقوم بها حلفاء إيران المحليون إلى الإخلال بهذه الأهداف المزدوجة من خلال خلق مواقف لا يمكن التنبؤ بها، كما أظهر هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر بوضوح.
من بين مجموعات المحور، فإن حزب الله قريب على نحو خاص من إيران: فكما تحتاج إيران إلى الحزب بصفته دفاعها المتقدم على الحدود الإسرائيلية، يحتاج حزب الله إلى تمويل إيران ودعمها العسكري لضمان هيمنته على لبنان. ونتيجة لذلك، من غير المرجح أن ينفذ حزب الله هجوماً واسع النطاق على إسرائيل دون موافقة إيرانية. بالمقارنة مع ارتباط حماس، فإن علاقة حزب الله مع راعيته أكثر تكافلية. لكن من غير المرجح أن حتى حزب الله يمكن أن يعلن ولاءه المطلق لطهران إذا كانت الأخيرة ستمنعه من العمل بالشكل الذي يراه مناسباً في البيئة اللبنانية، سواء كحزب سياسي يشارك في البرلمان والحكومة أو كقوة عسكرية.
يتمتع الحوثيون، الغارقون في حربهم الخاصة في اليمن، بعلاقة أكثر مرونة مع رعاتهم الإيرانيين. لأنهم كانوا منبوذين سياسياً لسنوات عديدة في اليمن، فقد تطلعوا منذ فترة طويلة إلى إيران للحصول على الدعم. لكن الحوثيين تجاهلوا، في أكثر من مناسبة، التوجيه الإستراتيجي لإيران. في عام 2015، على سبيل المثال، بعد أن استولى الحوثيون على العاصمة اليمنية صنعاء، نصحتهم طهران بعدم الاندفاع جنوباً نحو عدن في محاولة للسيطرة الكاملة على البلاد. لكنهم مضوا قدماً على أي حال، حيث حوصروا في الجنوب وأجبروا في النهاية على الانسحاب. وكما قال طارق صالح، قائد قوات البحر الأحمر اليمنية ونائب رئيس مجلس القيادة الرئاسي في البلاد، لي ولزميلي في كانون الثاني/يناير في مقره العسكري في بلدة المُخا على البحر الأحمر: “إيران إستراتيجية: تتحرك خطوة خطوة. لكن الحوثيين ليسوا صبورين. يريدون أن يتحركوا الآن“. يمكن لمثل هذا التهور أن يسبب ورطة لإيران.
في هذه الحالة، كوفئ الحوثيون على اندفاعهم. والجدير بالذكر أنه بعد هجوم عدن، بدأت إيران في تقديم مساعدات عسكرية للحوثيين، مما سمح لهم بالدفاع عن أنفسهم ضد التدخل السعودي الإماراتي، وفي الوقت نفسه المحافظة على الوجود الإيراني في اليمن. علاوة على ذلك، فإن التشرذم التام لخصوم الحوثيين -القوات المدعومة من السعودية التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دولياً- أكد أن الحوثيين يمكنهم الاحتفاظ بالسيطرة على جزء كبير من اليمن وأن إيران يمكن أن تحقق نفوذاً متنامياً هناك. ازداد الدعم الإيراني مع استمرار حرب اليمن، مما مكّن الحوثيين من إطلاق مسيَّرات وصواريخ على المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. لقد وفّر ذلك أداة ضغط واضحة لطهران ضد خصومها الإقليميين.
بعد أن استعادت إيران والمملكة العربية السعودية العلاقات الدبلوماسية قبل عام، تراجعت التوترات الإقليمية. أتاحت حرب غزة للحوثيين فرصة زيادة نفوذهم المحلي، هذه المرة من خلال شن هجمات مستمرة ضد السفن التجارية في البحر الأحمر وخليج عدن. وكانوا يتصرفون في ذلك بالتنسيق مع الأعضاء الآخرين في التحالف المدعوم من إيران.
بصفتها جماعة إسلامية سنية، كان لحماس علاقة أكثر مرونة مع إيران. ابتداءً من عام 2012، عندما بدأت انتفاضة شعبية في سورية في تهديد نظام الرئيس بشار الأسد، قطعت حماس علاقتها مع الحكومة السورية وراعيتها إيران لأنهما كانتا تهاجمان الجماعات السنية المتمردة. ونتيجة لذلك، أُجبر قادة حماس على مغادرة دمشق وخفضت إيران تمويلها للمجموعة. أُصلحت علاقات حماس مع طهران قبل بضع سنوات فقط من هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر، بعد أن اكتسب القادة العسكريون لحماس في غزة مكانة بارزة داخل الحركة. وجدد القادة علاقة حماس مع إيران، التي بدأت في تزويدهم بالأموال والأسلحة والتدريب العسكري.
بالنسبة لطهران، فإن إضافة حماس إلى المحور تعني أنها تستطيع الآن ممارسة الضغط على إسرائيل من اتجاهين -لبنان وقطاع غزة- ومن الناحية النظرية حتى إجبار إسرائيل على خوض حرب على جبهتين. لكن كان التفاهم الضمني يقضي بأن حماس ستواصل مواجهة إسرائيل بالطريقة المحدودة نسبياً التي استعملتها خلال الحروب العديدة التي دارت في قطاع غزة منذ أن سيطرت الحركة على القطاع في عام 2007. في 7 تشرين الأول/أكتوبر، انتهكت هذا التفاهم عندما قررت من جانب واحد اتخاذ المسار الأكثر مخاطرة، فيما يبدو على أمل أن يندفع حلفاؤها في المحور لمساعدتها. بدلاً من ذلك، وضع الهجوم إيران وحزب الله في موقف حساس: فقد كافحا لإظهار الدعم لحماس والفلسطينيين مع النأي بنفسيهما عن أفعال حماس وتجنُّب التصعيد.
الجرائم والعقاب
كما أظهرت الحرب في غزة أنّه يجب على الرعاة الاهتمام بشكل خاص بمنع وكلائهم، سواء كانوا دولاً مثل إسرائيل أو جماعات غير دولتية مثل حلفاء إيران المحليين، من الخروج عن السيطرة. ولنتأمل هنا الهجوم الذي شنته كتائب حزب الله، وهي جماعة شبه عسكرية عراقية تدعمها إيران، على موقع عسكري أميركي في شرق الأردن في كانون الثاني/يناير. كما ذُكر على نطاق واسع، في 28 كانون الثاني/يناير، أطلقت المجموعة مسيَّرة مفخخة على الموقع، مما أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين. على الرغم من أن الحادث ربما كان بسبب سوء تقدير وليس متعمداً إلَّا أنها كانت المرة الأولى منذ سنوات التي يُقتل فيها جنود أميركيون على أيدي جماعات مدعومة من إيران. ردت الولايات المتحدة بقصف عدد من المنشآت شبه العسكرية في سورية والعراق وقتل أكثر من 40 مقاتلاً ينتمون إلى مجموعات شبه عسكرية عراقية أخرى (بما في ذلك بعض المقاتلين الذين لا تدعمهم إيران مباشرة)، فضلاً عن القائد البارز في كتائب حزب الله المسؤول عن عملياتها في سورية، أبو باقر السعدي.
في الواقع، أدرك كل من القادة الإيرانيين وكتائب حزب الله على الفور أن هجوم البرج 22 كان قد تجاوز خطاً أحمر أميركياً. في غضون ساعات من الحادث، وصل قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني، إلى بغداد لحث الجماعات الوكيلة لإيران في العراق على وقف الهجمات على القوات الأميركية. أعلنت كتائب حزب الله على الفور أنها ستعلق عملياتها العسكرية، وانسحبت مع الجماعات العراقية ذات التفكير المماثل من مواقعها في سورية. بعث رد قاآني السريع بإشارة إلى واشنطن بأن إيران ليست لديها رغبة في تصعيد الوضع؛ وأرسلت إيران رسالة مماثلة إلى إدارة بايدن عبر المملكة العربية السعودية، وربما من خلال قنوات أخرى أيضاً. علاوة على ذلك، حتى عندما أثار قتل الولايات المتحدة للسعدي، قائد كتائب حزب الله، غضباً في العراق، امتنعت مجموعات المحور عن القيام بأي رد انتقامي، على الرغم من أن كتائب حزب الله تراجعت لاحقاً عن قرارها السابق بتعليق العمليات. ومنذ ذلك الحين، استأنفت الجماعات العراقية الهجمات في سورية، لكنها التزمت بوضوح بخط أحمر يتمثل بعدم قتل الأميركيين.
لكنها ليست المرة الأولى التي تشعر فيها إيران بأنها مجبرة على كبح جماح كتائب حزب الله. ففي أواخر عام 2019، وبعد أن وجهت القوات الأميركية رداً انتقامياً للمجموعة على مقتل أحد مقاوليها (على ما يبدو على يد الدولة الإسلامية)، مما أسفر عن مقتل عدد من مقاتلي كتائب حزب الله، وجهت المجموعة حشداً غاضباً من المؤيدين لها لاقتحام السفارة الأميركية في بغداد. على الرغم من فشلهم في اختراق المجمع بما يتجاوز منطقة الاستقبال، إلا أن الهجوم أقنع إدارة ترامب بقتل قاسم سليماني، سلف قاآني في إدارة المحور. كما أودت المسيَّرة التي قتلته في مطار بغداد الدولي في أوائل عام 2020 بحياة أبو مهدي المهندس، زعيم كتائب حزب الله ونائب منسق الجماعات شبه العسكرية المدعومة من إيران في العراق.
جدير بالذكر أنه على الرغم من أن إيران ردت على القوات الأميركية في العراق بسبب مقتل سليماني، إلا أنها أعربت أيضاً عن استيائها من كتائب حزب الله بسبب الهجوم غير المصرَّح به على السفارة من خلال وقف وصول المجموعة المباشر إلى علي خامنئي، المرشد الأعلى في إيران. إن الوصول مهم للجماعات الإسلامية الشيعية مثل كتائب حزب الله لأن الوصول إلى خامنئي، المرشد الروحي للجماعات، كما أوضح صحفي عراقي في كانون الأول/ديسمبر الماضي لي ولأحد زملائي في بغداد، شرف نادر يشير إلى الأهمية التي توليها طهران لمثل هذه الشراكات.
يمكن لإيران اتخاذ المزيد من الخطوات لكبح جماح وكلائها، بما في ذلك تعليق الدعم العسكري. لكن يبدو أن معظم أعضاء المحور يدركون جيداً الخطوط الحُمر التي تتوقع إيران منهم مراعاتها. في هجماتهم على السفن التجارية في البحر الأحمر، على سبيل المثال، حرص الحوثيون على عدم قتل البحارة الأميركيين، على الرغم من أن هذا قد يكون أيضاً مسألة حظ، نظراً للكمية الهائلة من الذخائر التي يطلقونها. علاوة على ذلك، يوحي استمرار هجماتهم أن الحوثيين لم يرتدعوا كثيراً بسبب الضربات الأميركية والبريطانية. إن التفسير الأكثر منطقية لسبب عدم استهداف الحوثيين لأفراد أميركيين، حتى وهم يصعِّدون هجماتهم، هو أن طهران أمرتهم بعدم القيام بذلك.
بهجومها في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ذهبت حماس أبعد بكثير من أي مجموعة محورية أخرى في تحدي القواعد غير المعلنة لراعيها. من خلال إشعال حرب شرسة مع إسرائيل، خلق الهجوم صدعاً كبيراً بين حماس والمحور. أشارت إيران وحزب الله إلى استيائهما من حماس لعدم إبلاغهما بخطتها - وهو رد فعل ضخَّمه بلا شك مدى سوء تقدير حماس للرد الذي ستتلقاه من إسرائيل. من جانبهم، أعرب قادة حماس عن خيبة أملهم العميقة من عدم وجود دعم أقوى من المحور، حتى إنهم أشاروا إلى أن إيران غير مهتمة بتحقيق تغيير حقيقي للفلسطينيين. قال لي أحد القادة السياسيين لحماس في الدوحة في كانون الأول/ ديسمبر: “إيران تدعم الفلسطينيين معنوياً وروحياً، ولكن ليس وفقاً للتطلعات الفلسطينية. وهذا يعزز فكرة أن الفلسطينيين يجب أن يدافعوا عن أنفسهم“.
وهكذا أوقعت حرب غزة طهران في مأزق هو جزئياً من صنعها. فمن خلال تسليح حماس لدرجة أن تتمكن من شن هجوم عسكري قوي على إسرائيل، فقدت إيران السيطرة على الحركة التي تحتاجها لإستراتيجيتها الدفاعية المتقدمة. إن نتيجة الحرب غير مؤكدة وقد لا تنتهي بنوع من وقف إطلاق النار الدائم الذي يقول أعضاء المحور إنه سيكون مطلوباً كي يتوقفوا. ومن ثم، فإن خطر نشوب حرب أوسع لا يزال قائماً ومن المرجح أن يزداد مع تفاقم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة.
تلميذ الساحر
إيران ليست القوة الوحيدة التي يجب أن تتعامل مع الحلفاء المحليين الجامحين. ينطبق الأمر على الولايات المتحدة أيضاً، التي وجدت في القيادة الإسرائيلية الحالية شريكها الأكثر عناداً. تتفق كل من الولايات المتحدة وإسرائيل على هدف القضاء على قدرة حماس على تهديد إسرائيل، لكنهما تختلفان بشكل حاد على الوسائل. فبعد أشهر من الهجوم الجوي والبري الإسرائيلي الذي دمر أجزاء كبيرة من قطاع غزة، وقتل وأصاب عشرات الآلاف من المدنيين، وشرد ما يقرب من مليوني شخص - تعهد بايدن بأنه سيكون له حديث صارم وحاسم مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. لكن الزعيم الإسرائيلي، الذي تعتمد سيطرته الهشة على السلطة على الدعم المستمر لشركائه في الائتلاف اليميني، رفض بتحدٍّ مخاوف الولايات المتحدة وتوجيهاتها الإستراتيجية، حتى في الوقت الذي لا تزال فيه بلاده تعتمد بشكل كبير على الأسلحة والذخيرة الأميركية.
وصلت العلاقة المتوترة إلى ذروتها بسبب الهجوم الذي تهدد إسرائيل بشنه على رفح. تقع رفح في جنوب قطاع غزة، وقد تضخمت الآن مع قدوم أكثر من مليون فلسطيني اقتُلعوا من أجزاء أخرى من القطاع، وتواجه بالفعل أزمة إنسانية؛ وبالنسبة لبايدن، أصبح الهجوم الإسرائيلي عليها خطاً أحمر. من أجل مطالبة إسرائيل باتخاذ خطوات للحد من إلحاق الأذى بالسكان المدنيين في رفح، استدعى بايدن المسؤولين الإسرائيليين إلى واشنطن لمناقشة هجومهم المخطَط له. من الناحية النظرية، كان ينبغي أن تكون هذه فرصة للراعي لتأديب وكيله. لكن في الواقع، أصبحت العلاقات الأميركية الإسرائيلية أكثر تعقيداً.
بعد امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على قرار وقف إطلاق النار الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 25 آذار/مارس - وهو خروج نادر عن حماية واشنطن المعتادة لإسرائيل في هذا المنتدى - رد نتنياهو بإلغاء زيارة الوفد الإسرائيلي لواشنطن. من غير الواضح ما إذا كان نتنياهو يستخدم ببساطة التهديد بالهجوم لإجبار حماس على وقف إطلاق النار بشروط إسرائيل، أو ينوي بالفعل إرسال الجيش الإسرائيلي إلى رفح لملاحقة كتائب حماس المتبقية التي يُزعم أنها متحصنة هناك. وفي كلتا الحالتين، تحدى الزعيم الإسرائيلي بقوة رغبة بايدن التي أعرب عنها بقوة لوقف إطلاق النار.
يثير هذا الخلاف غير العادي مسألة ما سيتطلبه الأمر بالنسبة للولايات المتحدة لاستخدام النفوذ الحقيقي الذي تمتلكه على إسرائيل، أي جعل المساعدة العسكرية الهائلة التي تقدمها بشكل روتيني - وعلى وجه التحديد الأسلحة الهجومية المستخدمة في غزة - مشروطة بقيام إسرائيل بمواءمة سلوكها مع النهج الأميركي لإنهاء الحرب. قد تكمن الإجابة جزئياً في مدى تأثير الدعم الأميركي لإسرائيل في غزة على فرص بايدن الانتخابية في تشرين الثاني/نوفمبر. ولكن باستثناء هذه الخطوة، فإن عدم قدرة الولايات المتحدة والدول الأوروبية على كبح جماح إسرائيل كان له بالفعل تأثير ملموس على مكانتها العالمية. على سبيل المثال، وجد الدبلوماسيون الأميركيون والأوروبيون أن الأبواب المفتوحة لشركائهم في التجارة والتنمية تغلق فجأة. وسعى المنافسون العالميون مثل الصين وروسيا إلى استغلال الغضب الشعبي في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا بسبب المعايير المزدوجة المتصوَّرة في الردود الغربية على الغزو الروسي لأوكرانيا والاحتلال العسكري الإسرائيلي الطويل للأراضي الفلسطينية - مما قد يجعل من الصعب على الولايات المتحدة الحفاظ على جبهة موحدة ضد روسيا.
يمكن للأحداث المحيطة بحرب غزة أن تسرِّع من تراجع القوة الأميركية، في هذه الحالة بمساعدة وتحريض من إسرائيل، وهي وكيل عنيد عازم على السعي إلى حل عسكري لسعيه الطويل لتحقيق قدر أكبر من الأمن في بيئة معادية بشكل دائم. من الصعب أن نرى كيف يمكن لإسرائيل أن تحقق هذا الهدف، بعد 76 عاماً من الفشل في تحقيق ذلك، دون تسوية تفاوضية مع الفلسطينيين - وهو نهج لطالما أعلنت الولايات المتحدة تأييدها له.
حل الرعاة؟
بالنسبة لإيران والولايات المتحدة، أثارت الحرب في غزة الخطر الأكبر المتمثل في حدوث مواجهة عسكرية مباشرة. أشارت كلتا الحكومتين إلى أنهما لا تسعيان إلى مثل هذه المواجهة، على الأقل في الوقت الحالي. هذا مطمئن، لكن لا وجود لشيء من قبيل السيطرة الكاملة في العلاقات بين الراعي والوكيل، ولا توجد طريقة مضمونة لمنع الحوادث أو الحسابات الخاطئة من إثارة حرب إقليمية شاملة. من الصعب احتواء الدورات التصعيدية في المواجهات الإقليمية عندما يحث الصقور من كلا الجانبين قادتهم على القيام بأعمال انتقامية أكثر دراماتيكية - كما هو الحال عندما دعا بعض أعضاء الكونغرس الجمهوريين إدارة بايدن إلى السعي للانتقام من إيران بعد حادثة كتائب حزب الله.
في المقابل، يتعين على الحلفاء المحليين للرعاة الاستجابة لجماهيرهم، ولا سيما إذا كانت الأحداث تتطلب ذلك. على سبيل المثال، إذا أصاب صاروخ يطلقه حزب الله أو طرف فلسطيني من لبنان مدينة إسرائيلية وتسبب في خسائر جماعية، من شبه المؤكد أن القادة الإسرائيليين لن يكون لديهم خيار سوى الرد بقوة أكبر بكثير مما فعلوا حتى الآن. علاوة على ذلك، أدى تشريد عشرات الآلاف من الإسرائيليين وعدد مساوٍ تقريباً من اللبنانيين من ديارهم على جانبي الحدود الإسرائيلية-اللبنانية إلى خلق ضغوط جديدة على قيادتي البلدين. يطالب السكان من كلا الجانبين بعمل حاسم - عسكري إذا لم يكن دبلوماسياً - من شأنه أن يسمح للنازحين بالعودة بأمان.
قد يفسر الوعي بهذه المخاطر جزئياً الجهود التي تبذلها كل من واشنطن وطهران للمحافظة على بعض المسافة من شركائهما منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر. وبذلك، رفع كلا الراعيين درجة الإنكار القابل للتصديق إلى مستوى فن بلاغي رفيع، مما يشير إلى عدم موافقتهما على تصرفات وكلائهما، مع ترك العلاقات الأساسية دون تغيير. (حتى امتناع الولايات المتحدة غير المعتاد عن التصويت في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يجب أن يُفهم على هذا النحو).
بالنظر إلى احتمال أن يؤدي قرار متهور أو عمل تصعيدي من قبل أحد وكلائهما إلى نشوب حرب إقليمية، يجب أن يكون الراعيان حريصين على اتخاذ خطوات من شأنها أن تقلل من خطر مثل هذا السيناريو. كلاهما لديهما طرق لكبح جماحهم، لكنهما لن يفعلا ذلك إلا إذا كانا يعتقدان أنهما يستطيعان تجنب فقدان ماء الوجه في هذه العملية. يتطلب هذا تفاهمات متبادلة ضمنية يمكن تحقيقها من خلال دبلوماسية الأبواب الخلفية الهادئة. من المشجع أن كبار المسؤولين الأميركيين والإيرانيين أجروا محادثات غير مباشرة في مناسبتين على الأقل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، وأرسلت حكوماتهما رسائل إلى بعضها بعضاً بطرق غير مباشرة أخرى أيضاً.
بالنسبة لإيران، فإن أفضل طريقة للمضي قدماً هي قيام قطر – وهي ليست حليفة، ولكن بلداً تحتفظ معه بعلاقات ودية - بالتوسط بنجاح في وقف إطلاق النار في غزة الذي كانت تحاول تنسيقه مع الولايات المتحدة ومصر. لا يوجد ما يشير إلى أن إيران تقف في طريق هذا الهدف. على العكس من ذلك، يعرف المسؤولون الإيرانيون أنه يجب عليهم عدم تعطيل وقف إطلاق النار المدعوم من الخليج إذا كانوا يأملون في الاستفادة اقتصادياً من تقارب إيران الأخير مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. لكن في حالة سريان وقف إطلاق النار، ستحتاج طهران إلى حمل حلفائها المحليين على التراجع. سيتعين على حزب الله وقف هجماته على إسرائيل، وعلى الحوثيين وقف هجماتهم على السفن التجارية، وعلى الجماعات شبه العسكرية العراقية وقف هجماتها ضد المصالح الأميركية في العراق وسورية. قد لا يتخلى المسؤولون الإيرانيون عن الهدف الإستراتيجي المتمثل في طرد الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، لكن يمكن أن يحثوا قوات المحور على التراجع على المدى القريب.
وبالنسبة للولايات المتحدة أيضاً، فإن وقف إطلاق النار في غزة سيكون أفضل وسيلة للخروج من معضلة الراعي التي تعانيها. لكن كي توافق إسرائيل على وقف لإطلاق النار، ستحتاج إدارة بايدن إلى الشروع في استعمال المزيد من أدوات ضغطها. يتعين على واشنطن مطالبة إسرائيل بمتابعة أهدافها الحربية من خلال وقف إطلاق النار وصياغة خطة عملية لغزة لليوم الذي يلي توقف الحرب، بالتنسيق الوثيق مع الولايات المتحدة والحكومات العربية وأوروبا. وينبغي على الولايات المتحدة دعم هذا المطلب بإجراءات حقيقية. ستكون وسيلة الضغط الواضحة، عندما لا تنجح الإغراءات الأخرى، هي اشتراط استمرار توريد الأسلحة الهجومية على التقدم نحو إنهاء الحرب. وبالمثل، يمكن لواشنطن أن تحاول الحد من العنف الإسرائيلي في الضفة الغربية من خلال وقف صادرات البنادق الأوتوماتيكية التي يستخدمها المستوطنون الإسرائيليون هناك.
قد تكون إحدى المفارقات الأكبر في الحرب الحالية هي أنه، كراعيين لعملاء جامحين، فإن كلاً من الولايات المتحدة وإيران لديهما قواسم مشتركة أكثر مما قد يعترفان به. سيستفيد كلاهما من وقف إطلاق النار الذي ينهي خطر نشوب حرب إقليمية. ويمكن القول إن كلتيهما ستكونان قادرتين على ادعاء بعض الفضل وراء الكواليس لدعم وقف إطلاق النار هذا والتأكد من صموده. بالطبع، ليس من المؤكد متى أو حتى ما إذا كان الراعيين سيكونان قادرين على وقف هذه الحرب. لكن على عكس القوى الخارجية الأخرى، لديهما على الأقل أدوات للقيام بذلك. وإذا لم يستخدماها قريباً، فقد يجدان أن الحرب في قطاع غزة ليست سوى مقدمة لاندلاع حرب أكثر خطورة.
اضف تعليق