ستواجه الحكومة الجديدة تحديات فورية في حكم بلد في حالة متردية، ووضع اقتصادي متدهور باستمرار، ومجموعة كبيرة من المجموعات المسلحة تتنافس للحصول على المزايا ووجود خلافات جوهرية على الهوية السياسية للسودان لم تتم تسويتها بعد. إن إيجاد مسار إلى الأمام في السودان سيتطلب قيام الجهات الفاعلة الرئيسية بتقديم التنازلات...
لقد فتح الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الجيش السوداني ونخب السودان السياسية المنقسمة الباب أمام تشكيل حكومة مدنية. ولذلك ينبغي على الموقعين على الاتفاق أن يعملوا على كسب دعم أوسع خلال المرحلة الراهنة من المفاوضات، في حين يتعين على الجهات الفاعلة الخارجية أن تكون مستعدة لتقديم التمويل إذا صمد الاتفاق.
قد تكون حكومة مدنية على وشك التشكل في السودان، لكن ما يزال هناك قدر كبير من العمل ينبغي القيام به لإبقاء الأمور على المسار الصحيح في المرحلة الانتقالية في البلاد بعيداً عن الحكم الاستبدادي. ففي 5 كانون الأول/ديسمبر 2022، أبرم الجيش اتفاقاً إطارياً مع عشرات القادة المدنيين، وعد فيه جنرالات الجيش بالتخلي عن جزء كبير من سلطتهم السياسية. ويعد الاتفاق، الذي أتى نتيجة نقاشات هادئة على مدى أشهر، إنجازاً رئيسياً، لكنه يواجه سلسلة طويلة من التحديات. إذ إنه يقصي المتمردين السابقين وآخرين ممن يمكن أن يقوضوا الحكومة الانتقالية إذا لم يتم إشراكهم. وكثيرون من أولئك الذين يقفون ضد الاتفاق، بمن فيهم “لجان المقاومة” في قلب الحركة الاحتجاجية المطالبة بالحكم المدني، يشكون في التزام الجنرالات بأحكام الاتفاق.
وبالتالي فإن إجراء محادثات أوسع بين القادة المدنيين، وهي المحادثات التي بدأت في كانون الثاني/يناير لمعالجة قضايا مهمة لم يغطها الاتفاق، وبناء مشاركة أوسع هما أمران حيويان إذا كان للاتفاق أن يحظى بالشرعية التي يحتاجها للنجاح. كجزء من مفاوضات “المرحلة الثانية” هذه، يتوجب على القوى المعارضة للانقلاب أن تشكل جبهة أكثر توحداً إضافة إلى إشراك المتمردين السابقين، وزعماء القبائل وأحزاب المعارضة الأخرى. وينبغي على الولايات المتحدة والقوى الخارجية الأخرى التي دفعت للتوصل إلى الاتفاق أن تحثهم على فعل ذلك. كما يتعين على الشركاء الغربيين والخليجيين أن يضغطوا على الجيش للوفاء بالتزاماته، وإذا صمد الاتفاق، أن يقدموا دعماً مالياً سريعاً لتعزيز قوة الحكومة المدنية وإنقاذ الاقتصاد.
فترة من الاضطرابات
لقد شهد السودان اضطرابات منذ الانتفاضة الشعبية في عام 2019 التي أطاحت بالديكتاتور السابق عمر البشير الذي حكم البلاد لمدة طويلة. فقد خرج ملايين السودانيين، الذين أغضبهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى الشوارع احتجاجاً على حكمه المستمر منذ ثلاثة عقود، والذي كان قد تحول إلى شراكة بين الجيش وحزب المؤتمر الوطني الإسلامي. في النهاية وفي 11 نيسان/أبريل، وبعد أربعة أشهر من الانتفاضة، تحول الجهاز العسكري للبشير ضده.
ومنذ ذلك الحين، والسودان غارق في أزمة سياسية، تصارع فيها المؤسسة العسكرية المصممة على الاحتفاظ بالسلطة ضد حركة احتجاجية مصممة على الوصول إلى الحكم المدني. ووسط احتجاجات كبيرة وعمليات قمع وحشية، اتفق الجنرال عبد الفتاح البرهان، القائد العسكري في السودان، ومحمد حمدان دقلو (“حميدتي“) نائبه، الذي يرأس قوات الدعم السريع شبه العسكرية التي تسيطر على جزء كبير من الريف السوداني، اتفقا في آب/أغسطس 2019 على تقاسم مسؤوليات الحكم مع ائتلاف مدني يعرف باسم قوى الحرية والتغيير، والعمل على إجراء انتخابات جديدة والانتقال إلى الحكم المدني. ضمت قوى الحرية والتغيير معظم أحزاب المعارضة التقليدية إضافة إلى نقابات العمال، ومنظمات المجتمع المدني، وبعض حركات المتمردين و“لجان المقاومة” في الأحياء، والتي كانت قوة رئيسية في حشد الناس للخروج إلى الشوارع. رفضت اللجان التعاون مع الجيش، ورغم أنها نسقت مع قوى الحرية والتغيير، فإنها وجهت أيضاً انتقادات لقادتها على كيفية أدائهم في الحكومة الانتقالية.
أحدثت السنتان من تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين الذي تلا اتفاق آب/أغسطس 2019 بعض الانفراج في الاقتصاد السوداني، الذي استفاد من رفع العقوبات الدولية في أعقاب الإطاحة بالبشير، لكن عطّلته التوترات بين المعسكرين العسكري والمدني، إضافة إلى الاقتتال الداخلي بين أعضاء قوى الحرية والتغيير. وفي الوقت الذي بدأت تصل فيه بعض التزامات المانحين، ولو ببطء أكثر مما ينبغي، لدعم جهود الحكومة الجديدة لإعادة إطلاق الاقتصاد المتهالك، صارع القادة السياسيون الجدد في السودان لفك قبضة الجيش عن السلطة. كما حفل المعسكر المدني أيضاً بنزاعات بين أحزابه التي تنظر إلى بعضها بعضاً على أنها خصوم في الانتخابات المستقبلية. ومع اقتراب أحد المواعيد النهائية لتسليم الجيش “المجلس السيادي” المؤقت بشكل كامل للمدنيين، استخدم الجيش ذريعة الخلافات السياسية لإحكام سيطرته الكاملة مرة أخرى في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، فحلّ الحكومة واعتقل كبار مسؤوليها، بمن فيهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك.
أدخل الانقلاب السودان في مواجهة طويلة. بدا الجنرالات متفاجئون بالمقاومة الشديدة لاستيلائهم على السلطة، سواء في الداخل، حيث واجهوا احتجاجات منتظمة وحملات عصيان مدني، أو في الخارج، حيث واجهوا انتقادات شديدة. إذ علق الاتحاد الأفريقي عضوية السودان فيه في اليوم الذي تلا الانقلاب، بينما جمدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ملايين الدولارات المخصصة للمساعدات التنموية التي كانا قد تعهدا بها لدعم المرحلة الانتقالية في السودان. كما توقفت برامج المساعدات من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهي بقيمة محتملة تبلغ مليارات الدولارات، وكذلك توقفت المفاوضات الحرجة للإعفاء من الديون. واستمر الاقتصاد في دوامة من الأزمة المعمقة ووصلت الاضطرابات العنيفة جميع الأرجاء المترامية في البلاد. وفشل الجيش في الحصول على الدعم الكامل من داعميه التقليديين، بمن فيهم السعودية، والإمارات العربية المتحدة وروسيا، التي لم تقدم أي منها دعماً كبيراً لحكومة ما بعد الانقلاب. كما فشل الجنرالات في اجتذاب ما يكفي من النخب السياسية للوقوف معهم لتشكيل حكومة ذات مصداقية، الأمر الذي يتركهم فعلياً وحدهم في تحمل مسؤولية التردي المستمر للبلاد.
استمر المأزق. وكان أحد أسبابه أن سياسيين رئيسيين في المعارضة المدنية كانوا يخشون الخلاف مع لجان المقاومة والحركة الاحتجاجية القوية بالنظر إلى انعدام الثقة العميق بالجيش، الذي سيطر على السلطة بشكل متكرر خلال الفترات القصيرة من الحكم المدني الذي تمتع بها السودان منذ استقلاله في عام 1956. في أيار/مايو 2022، أطلقت الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، وهي كتلة إقليمية في القرن الأفريقي، مبادرة عُرفت بالآلية الثلاثية للوساطة بين الأطراف. لكن لا قوى الحرية والتغيير ولا لجان المقاومة وافقتا على الانضمام، ما أدى إلى إطالة أمد المأزق.
اتفاق إشكالي
حدث التقدم نحو الاتفاق عبر قناة منفصلة. إذ بدأت الولايات المتحدة والسعودية، اللتان تمثلان العمود الفقري للحوار الأمني الرباعي (كواد) (وهي مجموعة من الشركاء الخارجيين تضم أيضاً المملكة المتحدة والإمارات العربية المتحدة)، بتيسير محادثات مباشرة موازية بين كتلة قوى الحرية والتغيير الرئيسية والجيش. لكن رغم تحقيق هذه المحادثات تقدماً، فإنها أقصت جهات فاعلة مهمة، بما فيها عدة أحزاب معارضة، ولجان المقاومة وعدد من مجموعات المتمردين السابقين. كما أغضبت دبلوماسيي الاتحاد الأفريقي وإيغاد، الذين رأوا أن المحادثات تقوض الآلية الثلاثية. في مطلع تموز/يوليو 2022، انسحب البرهان من المفاوضات، وأطلق إعلانه المفاجئ بأن الجيش سيترك للمدنيين تشكيل حكومة بأنفسهم. لكن الأطراف المدنية (التي نظرت إلى عرض الجيش على أنه خدعة لتحميلهم المسؤولية عن المأزق السياسي) ظلت منقسمة حيال إيجاد مسار إلى الأمام.
تم التوصل أخيراً إلى اتفاق بعد أن وضع رجال قانون سودانيون مسودة لدستور جديد ينص على استعادة السلطة المدنية خلال فترة انتقالية، والذي أصبح الأساس لتجدد المحادثات من خلال الآلية الثلاثية والحوار الأمني الرباعي (كواد) على حد سواء. كتلة قوى الحرية والتغيير الرئيسية أعلنت في 16 تشرين الثاني/نوفمبر أنها كانت قد توصلت إلى اتفاق مع الجيش بشأن معظم القضايا المحورية. وبعد مشاورات مع سياسيين خارج ائتلاف قوى الحرية والتغيير، وقعت الأطراف الاتفاق الإطاري في 5 كانون الأول/ديسمبر. وشمل الموقعون على الاتفاق البرهان، وحميدتي وأكثر من 50 مدنياً، بمن فيهم قادة قوى الحرية والتغيير، وبضعة قادة أحزاب خارج كتلة قوى الحرية والتغيير وممثلين عن الجمعيات المهنية، ومنظمات المجتمع المدني، إضافة إلى مالك عقار، وهو زعيم سابق للمتمردين وحاكم سابق لإقليم النيل الأزرق.
على الورق، يحقق الاتفاق بشكل غير متوقع معظم مطالب الأحزاب المناهضة للانقلاب. وينهي الدور السياسي الرسمي للجيش، ويحل فعلياً ترتيب تقاسم السلطة الذي استمر من آب/أغسطس 2019 وحتى انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021. وينص على نظام انتقالي يصبح فيه مدني رئيساً للدولة، ويكون رسمياً قائداً عاماً للقوات المسلحة والقائد الأعلى لقوات الدعم السريع، رغم أنه من الناحية العملية سيستمر البرهان وحميدتي بقيادة الجيش وقوات الدعم السريع، على التوالي. وبموجب الترتيب الجديد، سيعين المدنيون أيضاً رئيس الوزراء، ومجلساً تشريعياً انتقالياً، ومجلساً قضائياً مؤقتاً يتكون من أحد عشر عضواً. وسيسمي رئيس الوزراء بدوره أعضاء الحكومة وحكام الأقاليم ويرأس مجلس الدفاع والأمن، الذي يكون رؤساء مختلف أجهزة أمن الدولة أعضاء فيه (بما في ذلك، على ما يفترض، البرهان وحميدتي).
كما يحوي الاتفاق أحكاماً يبدو أنها تهدف إلى إعادة توزيع السلطة بعيداً عن قوات الأمن. ويحظر على الأجهزة الأمنية المشاركة في السياسة أو التجارة. وتتولى وزارة المالية إدارة جميع المؤسسات التي تملكها الدولة، والتي هيمنت عليها النخب الأمنية، كنوع من اقتصاد الظل، منذ عهد البشير. في هذه الأثناء، يلزم الاتفاق الجيش بإجراء إصلاحات تفرضها الحكومة، مثل دمج مجموعات المتمردين السابقين وقوات الدعم السريع في جيش احترافي واحد. وتجرى الانتخابات في نهاية الفترة الانتقالية ومدتها سنتان.
يشتكي منتقدو الاتفاق، وهم كثر، من الاتفاق نفسه ومن العملية الكامنة خلفه على حد سواء. ويرغبون برؤية كبار القادة العسكريين (لاسيما البرهان وحميدتي) وقد خضعوا للمساءلة القضائية. كما يجادلون بأن الاتفاق لن يفعل الكثير لإضعاف قبضة الجيش أو وضع ضمانات ضد حدوث انقلاب آخر، رغم أنه من الصعب تخيل ما يمكن أن يمنع حدوث ذلك بشكل يمكن الركون إليه. وبالفعل، فإن الجيش تمتع بصلاحيات في الفترة الواقعة بين عامي 2019 و 2021 تجاوزت بكثير حدود ما نص عليه الاتفاق مع معسكر المدنيين، ولا شك بأنه واثق من أنه سيحتفظ بامتيازات واسعة بصرف النظر عما ينص عليه الاتفاق الحالي. في خطاب بعد توقيع الاتفاق، طمأن البرهان ضباط الجيش بأن الحكومة الانتقالية الجديدة ستترك الجيش مسؤولاً عن شؤونه، رغم البند الذي ينص على اضطلاع القيادة المدنية الجديدة بتوجيه إصلاح القطاع الأمني.
هاجس آخر يتمثل في أن الاتفاق الجديد يهدد بإلغاء الترتيبات السابقة مع مجموعات المتمردين في المناطق النائية من السودان، ولاسيما تلك التي وقعت اتفاق سلام جوبا في عام 2020، الذي كان يهدف إلى توسيع تمثيل المناطق الواقعة خارج مراكز القوى النهرية التقليدية في البلاد. وتعترض مجموعات المتمردين السابقين على اللغة التي تشير إلى أن اتفاق جوبا، الذي يعد الموقعين بـ 25% من المقاعد في الإدارة المدنية، بين تنازلات مهمة أخرى، يمكن أن يعاد التفاوض بشأنه. في حين أن هذا الاتفاق يحتوي عيوباً ونواقص كثيرة، وخلق مجموعة جديدة من المشكلات بالنظر إلى أن مختلف قادة المجتمعات المحلية في سائر أنحاء البلاد يعترضون على أن يتم تمثيلهم من خلال أولئك الذين وضعوا الاتفاق، فإن الموقعين على اتفاق جوبا سيقاومون أي محاولة لتقويض مكاسبهم التي حصلوا عليها بعد عناء.
لكن قد يكون الهاجس الأكبر والأكثر شرعية بشأن اتفاق كانون الأول/ديسمبر، يتعلق بالمسار. فالكثير من المجموعات المعارضة للانقلاب لها مظالم بشأن الأطراف التي تفاوضت على الاتفاق وكيفية تجمعها. فبدلاً من التوصل إلى توافق بين هذه الجهات الفاعلة أولاً (كما دعت إليه مجموعة الأزمات)، فإن قادة قوى الحرية والتغيير تفاوضوا مباشرة مع الجيش. الكثير من أعضاء الائتلاف الأصلي لقوى الحرية والتغيير، بما في ذلك لجان المقاومة، الذين اقترحوا خريطة طريق سياسية خاصة بهم، يشعرون بغضب شديد. كما أن المحادثات أقصت جهات فاعلة مهمة أخرى، بما في ذلك قادة المتمردين السابقين والمجموعات القبلية ذات القواعد البعيدة عن الخرطوم، إضافة إلى الإسلاميين الذين فقدوا السلطة مع سقوط البشير. كما أن حقيقة أن الولايات المتحدة دفعت بقوة للتوصل إلى الاتفاق ولعبت دوراً داخلياً في المحادثات أزعج أيضاً معارضي الاتفاق، بالنظر إلى مدى استياء السودانيين من التأثير الخارجي في حياتهم السياسية، لا سيما من بلد فرض عقوبات شديدة على اقتصادهم على مدى عقود.
لكن في حين يعبر المنتقدون عن نقاط مشروعة، لا سيما فيما يتعلق بالمفاوضات التي لم تكن شاملة بشكل كافٍ، فإن الاتفاق الذي تم التوصل إليه يشكل المسار الوحيد القابل للحياة نحو تسليم السلطة السياسية إلى حكومة مدنية. يواجه السودان تحديات اقتصادية، وأمنية وإنسانية ملحة، وحدها حكومة انتقالية فعالة يمكن أن تساعد على معالجتها. ولمنع حدوث أزمة عميقة وتوفير مخرج من المأزق السياسي الطويل، يتعين على الجهات الفاعلة السودانية أن تدعم الاتفاق حتى مع سعيها إلى بناء دعم أوسع يحتاجه الاتفاق كي يتمكن من الصمود.
عملية شاملة
تعامل الاتفاق الإطاري الذي وقع في كانون الأول/ديسمبر مع الأسئلة المحورية التي تتعلق بكيفية تسليم الجيش السلطة إلى حكومة مدنية وماهية صلاحياته في المستقبل. لكنه لم يعالج عدداً من القضايا المهمة التي فضلت قوى الحرية والتغيير عدم التفاوض عليها بمفردها، جزئياً لأنها تخاطر بإحداث رد فعل شعبي.
على هذه الخلفية، فإن جولة مفاوضات المرحلة الثانية التي بدأت في كانون الثاني/يناير – بشكل رئيسي للشروع في معالجة هذه القضايا وبناء دعم أوسع للاتفاق – من المرجح أن تلعب دوراً محورياً في تحديد مدى قابلية الاتفاق للحياة. ومن أجل مساعدة الحكومة المستقبلية على بناء ائتلاف أكبر وإشراك عدد أكبر من الجهات الفاعلة، فقد أعلن قادة قوى الحرية والتغيير خططاً لإقامة ورشات عمل على مستوى البلاد، بقيادة تجمع المهنيين السودانيين، لمحاولة التوصل إلى توافق فيما يتعلق بالقضايا الخلافية موضع النقاش، بما في ذلك الإصلاحات الأمنية، والعدالة الانتقالية ووضع اتفاق سلام جوبا. لا ينبغي لمختلف المجموعات المدنية المعارضة للاتفاق أن تقوض هذه الفرصة لصياغة أجندة الحكومة القادمة، مع الاعتراف بأنه كلما غرقت فصائل المعارضة في الاقتتال الداخلي، كلما كانت أضعف، وكلما كانت الحكومة التي ستنشأ عن هذه العملية عرضة لحدوث انقلاب آخر.
ينبغي على الجهات الفاعلة الرئيسية أن تتخذ الخطوات الآتية التي تهدف إلى توسيع القاعدة الداعمة لحكومة مدنية انتقالية سيتم تشكيلها بعد التوصل إلى اتفاق نهائي:
أولاً، يتعين على قادة قوى الحرية والتغيير الذين من المتوقع أن يشكلوا الحكومة القادمة أن يسعوا إلى التوصل إلى تسوية مؤقتة مع الفصائل السياسية المدنية الأخرى. وينبغي أن تركز على نحو خاص على لجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني مثل الجمعيات المهنية، ونقابات العمال والمجموعات النسائية التي كانت مكونات محورية في تحالف قوى الحرية والتغيير لكن اصطدمت على نحو متزايد مع قادة هذه القوى بشأن مسار العملية الانتقالية. ومن غير المرجح أن يكسبوا دعم جميع هؤلاء المنتقدين، إلا أن إعادة تشكيل ائتلاف 2018-2019 الذي ولّد الطاقة الكامنة خلف الانتفاضة ضد البشير إلى أكبر حد ممكن سيكون محورياً في إبقاء الضغط مستمراً على الجيش ليقوم بعملية الإصلاح. وفي حين أن لجان المقاومة تحتج أصلاً على الاتفاق الإطاري، فإن الكثير منها منقسمة بشأن الطريق إلى الأمام، وبعضها يعتقد أن من البراغماتي الانخراط في المفاوضات. إضافة إلى ذلك، فإن البعض في هذا المعسكر يفهمون أن معارضة منقسمة من شأنها فقط أن تعزز من قوة الجيش.
قد يكون من الصعب، أو حتى من المستحيل، إقناع الكثير من لجان المقاومة بمباركة اتفاق أدانته أصلاً، لكن ينبغي على قادة قوى الحرية والتغيير الاستمرار في محاولة إيجاد أرضية مشتركة. قد تكون إحدى النقاط المرجعية المفيدة للنقاش مع معارضي الاتفاق الميثاق السياسي الذي وقعته أكثر من 50 لجنة مقاومة في أيلول/سبتمبر 2022، واقترح مساراً إلى الأمام للمرحلة الانتقالية في السودان، ويحتوي الكثير من النقاط المشتركة مع الاتفاق الإطاري الذي وقع في كانون الأول/ديسمبر – بما في ذلك أحكام لتشكيل حكومة مدنية بالكامل وتعيين قائد عام للقوات المسلحة. من جهتها، لجان المقاومة – التي تستطيع المشاركة في مفاوضات المرحلة الثانية بين المدنيين دون التخلي عن رفضها الحوار مع الجيش – ينبغي أن تنضم إلى النقاشات.
وبدلاً من تقويض اتفاق كانون الأول/ديسمبر، ينبغي أن تعترف أن الاتفاق يضع (أخيراً) أساساً للانتقال إلى الحكم المدني الكامل والعمل على تعزيز قوة الأحكام ذات الصلة. كما ينبغي أن تستغل الفرصة للضغط من أجل تحقيق التقدم فيما يتعلق بمطلب رئيسي آخر هو تقديم مرتكبي الفظاعات للعدالة. في الحالات التي تكون فيها لجان المقاومة ببساطة غير مستعدة لإقرار الاتفاق، يمكن لقوى الحرية والتغيير أن تنظر في محاولة التفاوض على “وقف إطلاق نار” تتوقف بموجبه اللجان عن شن الحملات ضد الاتفاق، وإعادة توجيه طاقاتها نحو إخضاع الموقعين للمساءلة بشأن ما اتفقوا عليه. ينبغي لهذا الاتجاه أن يسمح أيضاً لأولئك الذين يرغبون بالعمل داخل الإطار الجديد أن يفعلوا ذلك دون مواجهة اللوم والتقريع من أقرانهم.
ثانياً، يتعين على الموقعين على الإطار أخذ هواجس السودانيين الذين يعيشون في المناطق الريفية الواسعة والمضطربة في كثير من الأحيان خارج الخرطوم بعين الاعتبار في الاتفاق النهائي. إذ يبقى الاتفاق الإطاري متركزاً على الخرطوم، من حيث أن معظم الموقعين عليه موجودون في العاصمة وحولها، حتى بعد عقود هيمن فيها المركز على البلاد بشكل أضر كثيراً بالاستقرار الأوسع في السودان. ينبغي على الموقعين أن يستمروا في الحوار مع أطراف اتفاق جوبا لعام 2020 الذين لم يوقعوا الاتفاق الإطاري.
اثنان من قادة المتمردين السابقين على نحو خاص، جبريل إبراهيم (وزير المالية الحالي) وميني ميناوي (حاكم دارفور)، دعما انقلاب عام 2021 لكنهما يرفضان الاتفاق الجديد، الذي يعبران عن قلقهما بأنه يقوض التنازلات التي حصلا عليها في اتفاق جوبا. كما ينبغي على الموقعين على الإطار أن يتواصلوا مع قادة أكبر مجموعتين للمتمردين – عبد الواحد النور (الذي تعمل قواته في دارفور) وعبد العزيز الحلو (الذي تسيطر قواته على جزء كبير من جنوب ولاية كردفان على الحدود مع جنوب السودان) – وكلاهما رفضا التوقيع على اتفاق جوبا. إذ يمكن للتشاور معهما الآن بشأن أولويات الحكومة الجديدة أن يفتح الأبواب على محادثات سلام مستقبلية، والتي ينبغي أن تكون أولوية قصوى لأي حكومة جديدة.
إضافة إلى هذه المجموعات السياسية المنظمة، ينبغي على الموقعين أن يبذلوا جهداً أوسع لإشراك الزعماء التقليديين وقادة المجتمعات المحلية (مثل زعماء القبائل) في النقاشات، بالنظر إلى أن الكثير منهم يسهمون بدرجة كبيرة في توازن القوى على المستوى المحلي. وينص الاتفاق الإطاري أصلاً على أن الجولة التالية من المفاوضات ينبغي أن تعالج عملية السلام في الشرق، حيث رفض زعماء قبائل البيجا اتفاق جوبا لعام 2020، وأغلقوا طرقات وموانئ رئيسية احتجاجاً على ذلك. لكن ثمة مناطق أخرى في البلاد تخاطر أيضاً بالانزلاق إلى الاضطرابات إذا استمر تهميشها في الاتفاقات النخبوية في المركز. كما ينبغي أن يستشير المفاوضون ممثلين عن المهجرين في سائر أنحاء البلاد، الذين وقعوا ضحية استشراء انعدام الأمن.
ثالثاً، ينبغي على نخبة قوات الحرية والتغيير بشكل خاص أن تعيد النظر في إقصاء الإسلاميين غير المرتبطين بحزب المؤتمر الوطني بزعامة البشير. إن التعامل مع جميع الإسلاميين على افتراض أنهم متعاطفين مع البشير وإقصائهم من المفاوضات من شأنه فقط أن يغذي معارضة جاهزة وتتمتع بارتباطات قوية وتحتفظ بقدر كبير من الدعم بين السودانيين المحافظين.
رابعاً، الاعتراف بأن التواصل مع كل هذه المجموعات سيكون صعباً، وسيتطلب ميسراً محايداً، ولذلك ينبغي على قادة قوى الحرية والتغيير أن يساعدوا في تمكين وسطاء ثلاثيين من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي وإيغاد من التدخل. وفي حين وجدت العملية الثلاثية صعوبة حتى الآن في إيجاد مدخل لها في المساعدة على التوسط للتوصل إلى مسار للخروج من المستنقع السياسي السوداني، فإن اللحظة مواتية لتضطلع بدور قيادي. إن دوراً أقوى للعملية الثلاثية قد يساعد في تهدئة مخاوف أولئك الذين يتهمون نخبة قوى الحرية والتغيير باحتكار المفاوضات. كما ستساعد على حشد الجهات الفاعلة الخارجية وراء إطار واحد شامل وشفاف يمكن لها جميعاً أن تدعمه. ومن أجل معالجة المظالم الإجرائية المتبقية من الجولة الأخيرة من المحادثات، ينبغي على الوسطاء ضمان أن تكون بنود الأجندة مفتوحة لمدخلات من خارج ما يحدده اتفاق كانون الأول/ديسمبر لإجراء المزيد من النقاشات، بحيث يتم اجتذاب عدد أكبر من الأطراف إلى طاولة المفاوضات.
أخيراً، ومن أجل خلق أفضل الرهانات بأن تنجح الحكومة الانتقالية القادمة حيث فشلت الحكومة السابقة، ينبغي لمفاوضات المرحلة الثانية أن تضع خطة عمل واضحة مصممة لتجنب المعارك على النفوذ التي قوضت سابقتها. ينبغي للخطة أن توجه الحكومة للاقتصار على المجالات المحورية للدولة – وبناء الأمة – على سبيل المثال تصميم الإصلاحات الاقتصادية، وتشكيل هيئة مستقلة للانتخابات، وسن تشريعات أساسية من أجل استعادة أجهزة وإدارات حكومية ذات مصداقية، والإشراف على عمليات السلام والسعي إلى إجراء حوار دستوري وطني.
الحاجة إلى الصبر
في حين أن الجهات الفاعلة الخارجية سترغب برؤية نهاية سريعة للمرحلة الثانية وتنصيب حكومة مدنية بسرعة، فإنها ينبغي أن تمنح السودانيين المجال والوقت اللازمين للتوصل إلى مقاربة موحدة أكثر للمضي إلى الأمام، رغم إلحاح وضع حد لأزمة البلاد. ويتعين على الولايات المتحدة، بشكل خاص، لكن أيضاً الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة والقوى الغربية الأخرى، أن تقاوم الرغبة بدفع الأطراف إلى التحرك بسرعة أكبر مما ينبغي نحو تشكيل حكومة. بدلاً من ذلك ينبغي على واشنطن أن تضغط على حلفائها في نخبة قوات الحرية والتغيير لتقديم التنازلات الضرورية لتوسيع قاعدة دعم الحكومة، في الوقت الذي تضغط فيه أيضاً على الجيش للوفاء بالتزاماته.
في هذه الأثناء، ينبغي على القوى الإقليمية المقربة من الجيش، مثل السعودية، والإمارات ومصر، أن تدعم انتقال السلطة إلى المدنيين، لا سيما وأنها تعرف بأن تبعات انقلاب عام 2021 أثبتت مرة أخرى أن الجيش لا يحظى بدرجة من الشعبية تمكنه من حكم البلاد. ولذلك ينبغي على الدول الغربية والخليجية أن تستمر في التنسيق للتوصل إلى رسالة مشتركة للاعبين الرئيسيين في السودان، بحيث يتم تجنب الشعور بوجود أجندات خارجية متعارضة. ينبغي أن يعمل الجميع على ضمان ألا يستخدم الجيش فوضوية المفاوضات كذريعة للخروج من اتفاق كانون الأول/ديسمبر.
ويتعين على الدول الغربية والخليجية، إضافة إلى المؤسسات المالية الدولية، أن تبدأ أيضاً بترتيب المساعدات التنموية والمالية لحكومة مدنية جديدة مباشرة بعد وفاء الجيش بالتزاماته بالتنحي جانباً. وفي حين قد تخشى الجهات المانحة، وهذا أمر مفهوم، من إمكانية حدوث انقلاب جديد، فإن التردد في فتح محافظها المالية من شبه المؤكد أن يضمن فشل المرحلة الانتقالية في السودان في تحقيق التوقعات الرئيسية للجماهير، وهي تحسين الظروف المعيشية للمواطنين العاديين. ويتعين على مجموعة أصدقاء السودان، بشكل خاص، العمل على تنسيق الإغاثة.
ستواجه الحكومة الجديدة تحديات فورية في حكم بلد في حالة متردية، ووضع اقتصادي متدهور باستمرار، ومجموعة كبيرة من المجموعات المسلحة تتنافس للحصول على المزايا ووجود خلافات جوهرية على الهوية السياسية للسودان لم تتم تسويتها بعد. إن إيجاد مسار إلى الأمام في السودان سيتطلب قيام الجهات الفاعلة الرئيسية بتقديم التنازلات، والعمل مع أولئك الذين لا تثق بهم بشكل كامل والاتفاق على أجندة لإعادة البلاد من حافة الهاوية. سيكون ذلك صعباً، لكن من واجب قادة السودان والمواطنين المنخرطين في العملية المحاولة.
اضف تعليق