لقد كنت آمل أن أحمل لكم أخبار جيدة تتناسب مع هذه التوقعات المتفائلة بخصوص حصول تغيير كبير في الخارطة السياسية العراقية نتيجة الانتخابات، لكن يؤسفني أن أحمل بعض الأخبار السيئة التي قد تقلل كثيراً من هذا التفاؤل وتكشف مرة أخرى عن فجوة عميقة بين ما تتوقعه النخب...
بقلم: منقذ داغر
يسود إعتقاد واسع بين النخب العراقية أن الانتخابات المقبلة في العراق هي انتخابات مفصلية وستؤدي إلى حصول تغيير كبير في خارطة القوى السياسية المتحكمة بالمشهد العراقي منذ عام 2003. وقد تعززت هذه القناعة بعد إعلان الكاظمي عن مقترحه لإجراء الانتخابات البرلمانية المبكرة في 6 حزيران 2021. كما زاد الأمل بحصول تغيير حقيقي بعد تعديل قانون الانتخابات العراقي بشكل جذري وتعيين مفوضية مستقلة جديدة للانتخابات تتألف من قضاة (مستقلين). كل هذه التغييرات المرتقبة جعلتني أفحص وعبر سلسة من استطلاعات الرأي العام العراقي لأتبين ما إذا كانت تلك الظروف قد أنتجت آراء أكثر تفاؤلاً في الرأي العام العراقي حول طبيعة السياسة العراقية خلال الأشهر الثلاثة الماضية.
لقد كنت آمل أن أحمل لكم أخبار جيدة تتناسب مع هذه التوقعات المتفائلة بخصوص حصول تغيير كبير في الخارطة السياسية العراقية نتيجة الانتخابات، لكن يؤسفني أن أحمل بعض الأخبار السيئة التي قد تقلل كثيراً من هذا التفاؤل وتكشف مرة أخرى عن فجوة عميقة بين ما تتوقعه النخب، وما يفكر به الجمهور العراقي. فقد كشفت استطلاعات الرأي العام الأخيرة أن الشارع العراقي، وبالذات الشباب منه لديهم رؤية مختلفة عن تأثير الانتخابات المقبلة على تغيير الوضع السياسي.
وفي الوقت الذي أجري فيه اثنين من هذه الاستطلاعات بواسطة عينة عشوائية احتمالية وطنية شملت 2000 و3000 مستجيب عراقي على التوالي وباستخدام الكومبيوتر بدلاً من الورقة والقلم فإن الاستطلاع الثالث أجري باستخدام الهاتف CATI على عينة عشوائية بسيطة شملت 1300 مقابلة.
إن من البديهي القول أن الشرط الأول لتحقيق تغيير حقيقي في خارطة القوى السياسية العراقية المهيمنة على البرلمان والحكومة منذ مدة طويلة، هو تحقيق معدل مشاركة عالي في الإنتخابات المقبلة يتجاوز ما حصل في انتخابات 2014، و2018. فمن المعلوم أن القوى التقليدية المسيطرة على البرلمان لديها جمهور وقاعدة صلبة ستخرج لتصوت لها في كل الأحوال ومهما كان حجم تلك القاعدة صغير. لذلك فكلما قل معدل المشاركة في الإنتخابات كلما زادت فرص تلك الأحزاب وذلك نظرا لالتزام قواعدهم الانتخابية بالحضور والتصويت.
وللأسف فلا تبدو النسبة المتوقعة للمشاركة في الإنتخابات المقبلة مشجعة إذ لن تتجاوز بحسب الإستطلاعات التي أجريناها 35-40 % ممن لهم حق التصويت. والمؤسف أن الغالبية المطلقة المقاطعة للانتخابات (أكثر من ثلثي المقاطعين) هم من الشباب بين 18-35 سنة.
إن تشجيع العراقيين، والشباب منهم على وجه الخصوص على المشاركة في الانتخابات المقبلة ليس مهماً لإحداث تغيير في المشهد السياسي حسب، بل هو أهم لمنع الإنزلاق نحو العنف والمجهول. ولكي يشارك الناس في الإنتخابات ينبغي أن يكونوا واثقين من شيئين مهمين وهما أن أصواتهم لن يتم تزويرها أو السطو عليها، وهذا يقتضي ثقة بنزاهة الانتخابات، وإن أصواتهم ستؤدي إلى التغيير الذي يريدونه ولن تكون جولة أخرى من جولات خيبة الأمل التي إعتادوها سابقاً.
تشير أرقام الإستطلاعات إلى أن أكثر من 60% من العراقيين عموماً (وفي بعض المناطق أكثر من ذلك بكثير) لا يثقون بنزاهة الإنتخابات ومن يثقون بالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات أقل من 30%. من جانب آخر فإن أقل من 15% من العراقيين يعتقدون أن تصويتهم في الإنتخابات المقبلة سيؤدي إلى تغيير المشهد السياسي والخارطة السياسية الحالية للقوى المؤثرة في القرار!
هذه النتائج تؤكد أن الانتخابات المقبلة، إذا جرت في ظل الظروف الحالية، وما لم يحصل تغيير في عامل مؤثر على معتقدات الجمهور العراقي، فإنها سوف لن تحدث التغييرات التي يأملها كثير من العراقيين وبخاصة أولئك الذين خرجوا إلى الشوارع منذ أكتوبر 2019 ليتظاهروا مطالبين بالتغيير. ومما يزيد الأمر سوءاً هو فجوة عدم الثقة بمؤسسات الدولة العراقية، رغم حصول تحسن ملموس في مستوى رضا العراقيين عن تلك المؤسسات وعن رئيس الوزراء مؤخراً. بالمقارنة مع أعلى درجة تفضيل بلغاها رؤساء الوزراء السابقين له فإن درجة التفضيل الحالية للكاظمي هي الأعلى (الشكل 1).
مع ذلك فلا زال أكثر من 55% من العراقيين لا يثقون بالحكومة. كما أن أكثر من النصف أيضاً لا يثقون بالقضاء، في حين لا يثق بالبرلمان العراقي أكثر من 15% ولا بالأحزاب السياسية أكثر من 10% ولا ينتمي لتلك الأحزاب أكثر من 2% من شباب العراق. (الشكل 2)
فجوة الثقة بمؤسسات الدولة العراقية والتي تتزامن مع إيمان واسع بوجود ما يسمى بدولة الأشباح أو سيطرة الدولة العميقة (غير الرسمية) على الدولة الرسمية، جعلت كثير من العراقيين وبالذات الشباب يفضلون التغيير خارج الإطار المؤسسي. كما أن الفهم العراقي للدولة العميقة هو أن الميليشيات المتحالفة مع إيران تسيطر على صناع القرار السياسي في العراق. وحتى لو كانت هناك تغييرات في هيكل سلطة الحزب السياسي، فإن الدولة العميقة ستستمر، وبالتالي لن تتغير طبيعة المجال السياسي العراقي وهو ما يهم حقًا.
إن الشعور العميق بالتهميش بين الشباب العراقي وعدم ثقتهم بالمؤسسات السياسية وحاجتهم الطبيعية كبشر للشعور بالأهمية Needs for Significance هي التي جعلت إنتفاضة تشرين 2019 في بغداد وجنوب العراق هي الأطول والأشد قوة وتأثير منذ تأسيس الدولة العراقية في 1921.
وما لم تستطع مؤسسات الدولة العراقية استعياب واستقطاب هؤلاء الشباب فسوف لن يكون سوى العنف هو البديل عن الديمقراطية المعوقة التي حاولت الولايات المتحدة زرعها في العراق بعد 2003. إن توفير الضمانات الحقيقية والمقنعة من قبل الحكومة العراقية والمجتمع الدولي للشباب العراقي بأن الإنتخابات المبكرة المقبلة ستكون مختلفة هذه المرة وستتميز بالنزاهة والشفافية هو المخرج السلمي الوحيد والمتاح حالياً لتجنب سيناريو العنف والانزلاق للمجهول. ويبدو أن النافذة المتاحة لذلك تغلق تدريجياً ما لم يتم إنجاز عمل حقيقي في هذا الصدد.
اضف تعليق