الدستور العراقي يشير الى النفط ملك الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات، وينسجم هذا القانون مع القانون الدولي الذي يعتبر الثروات الطبيعية ملك الشعوب، في الوقت نفسه، تُلزم الشركات الكبرى في إقامة مشاريع وتوفير خدمات متنوعة ضمن المنافع الاجتماعية، لكن تلك الأموال تستغل في عمل مشاريع صغيرة...
بقلم: أزهر الربيعي
يستدعي تدهور الصحة العامة في مدن الاستخراج النفطي، إجراءات وطنية ملموسة لإنهاء المعاناة المتضررين عبر توفير مراكز العلاج المتخصصة عبر أموال المنافع الاجتماعية المتأتية من الأرباح البترولية.
في حزيران/يونيو 2023، أُقر مجلس النواب العراقي موازنته العامة الاتحادية، للسنوات 2023،2024، 2025، حيث خصصت الدولة نحو 198.9 تريليون دينار (153 مليار دولار أميركي) لكل عام، وهو مبلغ طائل ويُعتبر الأكبر في تاريخ البلاد. وعلى الرغم من أن العراق يُعتبر من أكبر الدول المنتجة للنفط، إلا أن المراقبين يشعرون بالقلق إزاء هذا الارتفاع في الإنفاق، ولديهم سبب وجيه للاعتقاد بأن تلك الأموال الطائلة لن تصل إلى المواطنين، بل ستذهب لجيوب الفاسدين. وفى السياق عينه، صنف مؤشر مدركات الفساد الذي تصدره منظمة الشفافية الدولية، العراق ضمن الدول الأكثر الدول فسادًا في العالم، ورغم من الميزانيات الضخمة التي تعتمدها بغداد، لا يزال العراقيون يعانون يوميا من هشاشة البنية التحتية، ونقص فرص العمل، وفقر الخدمات في شتى القطاعات، بما في ذلك الرعاية الصحية.
في مدينة البصرة (جنوب العراق)، الغنية بالنفط، يشكو السكان المحليون الذين يعيشون بالقرب من المواقع النفطية، من إرتفاع معدل الإصابة بالأمراض السرطانية، وأمراض الجهاز التنفسي والعصبي، مع ندرة وفرة الأدوية وفقر الرعاية الصحية الخاصة في القطاع العام، ما يُجبر المرضى للسفر خارج البلاد مثل: إيران والهند وتركيا والأردن ولبنان، بإنفاق يصل إلى 6 مليون دولار أميركي شهرًا، بحسب تقارير، لتلقي الرعاية الصحية والعلاج، ما يساعد ذلك على هدر الأموال العامة وتوجيهها نحو الخارج، وقد يستخدما البعض من أجل تبرير تهريب العملة الصعبة، خصوصًا إلى إيران.
ليست هناك بيانات توضح أعداد المصابين بالسرطان منشورة في المواقع الحكومية، بل تتعمد السلطات الصحية حجب أي معلومات أو بيانات توضح أعداد المرضى بالسرطان، فيتم التعامل معها على أنها مواضيع حساسة يجب عدم الخوض بها، ويتم معاقبة من يصرح بأي معلومة إلى وسائل الإعلام، ومع ذلك، يرجح أطباء ظهروا في فيلم بثته هيئة الإذاعة الهيئة البريطانية BBC، ارتباط تلك الأمراض السرطانية بالفعاليات النفطية وأثرها البيئي وضررها بصحة الإنسان. وتأتى التكلفة البشرية كإضافة للخسائر الكبيرة التي تلحقها صناعة النفط بالبيئة، حيث تئنّ البيئة العراقية تحت وطأة الفساد المستشري، مُخلفًا وراءه كارثة بيئية تهدد صحة وحياة الأجيال القادمة، ففي ظل غياب الرقابة والقوانين الرادعة لتقنين كمية الإنتاج بما يتوافق مع المعايير العالمية من أجل الحفاظ على البيئة، تُعلن الحكومة العراقية زيادة الإنتاج وإحالة عدد من الحقول النفطية إلى مناقصات لصالح شركات نفطية كبرى، ضمن جولات التراخيص، من دون مراعاة للمعايير البيئية، فمع كل برميلٍ يُستخرج، تُلوّثُ الأرضَ والمياهَ والهواء، تاركةً وراءها دمارًا بيئيًا لا يُمكن إصلاحه.
حقول عملاقة تنتج النفط والأمراض
وتضم البصرة أكبر حقول النفط في العراق، أبرزها، حقل الرميلة الذي ينتج نحو 40% من إجمالي النفط في العراق، إضافة إلى حقول أخرى نشير إليها في جردة سريعة أدناه، بحسب الأرقام المتوفرة في المصادر المفتوحة غير الرسمية، وتتفاوض أرقام الإنتاج النفطي بين الحين والآخر بسبب ظروف مختلفة، لكنها تقترب بشكل كبير من الأرقام أدناه، فهذه أبرز حقول إنتاج النفط في البصرة:
حقل الرميلة: وهو أكبر حقل نفطي في العراق، ويُنتج حوالي 1.4 مليون برميل نفط يوميًا.
حقل غرب القرنة:1 ويُنتج حوالي 560 ألف برميل نفط يوميًا.
حقل غرب القرنة:2 ويُنتج حوالي 500 ألف برميل نفط يوميًا.
حقل الزبير: ويُنتج حوالي 220 ألف برميل نفط يوميًا.
حقل مجنون: ويُنتج حوالي 450 ألف برميل نفط يوميًا.
حقل اللحيس: ويُنتج أكثر من 140 ألف برميل نفط يوميًا.
حقل نهر عمر: ويُنتج أكثر من 40 ألف برميل نفط يوميًا.
وتظهر بيانات الأقمار الصناعية المتحسسة للمواقع النفطية، أن حقل الرميلة هو من أسوأ حقول النفط في العالم في حرق الغاز المصاحب، قد تتسرب المركبات السامة لتختلط بالهواء أثناء حرائق آبار النفط والمنتجات النفطية. ويمكن أن ترتفع السحابة الدخانية الناتجة عدة مئات من الأمتار وتنتشر على مئات الكيلومترات متبعة اتجاه الرياح، وتنتج المواد النفطية المحترقة مجموعة واسعة من الملوثات، مثل السخام (الكربون في الغالب) والغازات (أبرزها ثاني أكسيد الكربون، وأول أكسيد الكربون، وثاني أكسيد الكبريت، وأكاسيد النيتروجين والمركبات العضوية المتطايرة [مثل البنزين]، والهيدروكربونات العطرية متعددة الحلقات، وكبريتيد الهيدروجين، والغازات الحمضية [مثل حامض الكبريتيك])، والتي تسبب بمخاطر صحية بالغة.
ومن غير المستغرب أن لا يجري تسهيل دخول وسائل الإعلام إلى منطقة الرميلة، وعلى الرغم من ذلك، تمكنت هيئة الإذاعة البريطانية BBC، من توثيق الأضرار البيئية الناتجة عن عمليات حرق الغاز المصاحب لإنتاج النفط في حقل الرميلة، الذي تشغله شركة بريتيش بتروليوم البريطانية. يظهر في الفيلم الشاب حسين علي جلود، وهو يوثق حياته اليومية ومعاناة مع الدخان السام، الذي تسبب بإصابته بمرض سرطان الدم، وتوفي على أثر المرض في 21 أبريل/نيسان 2023.
وتعيش عائلة جلود على مسافة من مواقع الإنتاج النفطية، لا تتجاوز 2 كيلومتر، ويزعم جلود، والد الشاب المتوفى، بأن مرضه أبنه ووفاته نجمت عن الملوثات التي تخلفها عمليات الاستخراج في حقل الرميلة الذي تشغله الشركة البريطانية، وشركات أخرى بسبب وقوع عمليات حرق الغاز قرب منزله، إذ يتخذ الأب الخطوات الأولى من أجل بدء مقاضاة شركة بريتيش بتروليوم المشغلة للحقل، للتعويض عن الأضرار الناتجة نتيجة التلوث البيئي الذي تسببه بوفاة أبنه، وفقاً لمقابلة خاصة بهذه المقالة.
في انتظار العدالة
يأمل جلود أن يتمكن من تأمين الحد الأدنى من المساءلة عن وفاة ابنه، ويرى أن مأساة عائلته تشكل جزء من ظاهرة أكبر. وفى هذا السياق، يقول جلود: "أطالب بتعويض مجزٍ عن فقدي لأبني، رغم أن التعويض لا يعيد أبني للحياة، لكنها حقوق يجب الحصول عليها؛ لقد أنفقت قرابة 180 مليون دينار عراقي (أكثر من 137 ألف دولار أميركي) خلال فترة العلاج داخل وخارج العراق. ليس فقط أبني علي من أصيب بالسرطان، هناك العشرات من المصابين والمتوفين بالمرض دون أن تجد أصواتهم آذانً صاغية، فبعد أن ظهر أبني في الفيلم الذي بثته BBC، لم تتواصل معنا أي جهة، رسمية أو غير رسمية، ولا حتى الشركات النفطية في الرميلة."
ويضيف جلود: "أن مشهد شعلات النفط ودخان الغازات السامة هو مشهد يومي بالنسبة لي ولعائلتي، في أوقات الفجر عندما أخرج لأداء الصلاة، أشم رائحة الغاز السام بشكل يومي، ما يشكل خطراً على صحتي وصحة عائلتي، لقد خسرت علي، ولا أريد أن أخسر المزيد." وأكمل حديثه: "مع شديد الأسف أن شركات النفط العملاقة العاملة في حقل الرميلة، لا تُولي أي اهتمام بصحة الإنسان والأهالي الذين يسكون مسافة قريبة من الحقل، كان على تلك الشركات على أقل تقدير أن تؤمن الرعاية الصحية إلى المواطنين، وتعويض المتضررين من جرّاء النشاطات النفطية التي يقومون بها على مدار اليوم ولسنوات."
لم تعلق شركة بريتيش بتروليوم على الأسئلة التي وجهها لها الكاتب حتى وقت نشر المقال.
ليست منطقة الرميلة وحدها التي يعاني ساكنيها من الأمراض السرطانية وغير السرطانية، فمنطقة نهران عمر، هي الأخرى التي تنتشر فيها الأمراض والتلوث البيئي الناجم عن عمليات حرق الغاز المصاحب للنفط، وتطلق السلطات وعوداً بين الفينة والأخرى بتقليل إنتاج الحقل. لكن، على أرض الواقع، ما زالت وتيرةُ الإنتاج في أوجها، ممّا يُؤدي إلى تفاقمِ التلوثِ وتأثيرهِ السلبي على البيئةِ والصحةِ العامةِ.
في عام 2020، صرح المدير العام الأسبق لشركة نفط البصرة، إحسان عبدالجبار، إلى وسائل الإعلام أن حقل نهر بن عمر من أكثر الحقول جدلًا بشأن الملوثات النفطية والغازات المنبعثة، وأوعز بتخفيض إنتاج النفط الخام إلى الحد الأدنى لحماية البيئة من التلوث. عملياً، لم تقم السُلطات بخفض الإنتاج.
ويقول صفاء خلف، وهو صحافي استقصائي وباحث مستقل في مقابلة مع الكاتب: "أن المُحددات البيئية والحمائية العراقية تضبط المسافة ما بين حقول النفط والمواقع السكنية لغاية 10 كم؛ لكن غالباً ما يتم التغاضي لتنخفض الى 5 كم بسبب مرونة الإجراءات وتداخل المواقع النفطية مع المناطق المأهولة لاسيما في الأرياف. كما أن لائحة تلك المُحددات ظلّت غير مُحدثة، وواقعة تحت تأثير النظرة البيروقراطية القديمة التي تفترض اساساً أن المناطق المأهولة تقع خارج النطاق الجغرافي للنشاط الاستخراجي بفعل قلة السُكان، واستثمار مواقع نفطية مركزية خارج المدن، وحينها - قبل عقود - كان التمدد إلى مواقع بترولية لصيقة أو ضمن المناطق المأهولة غير مطروح، فضلاً أن العراق مرّ بفترات توقف أو خفض إنتاج طويلة بفعل الحروب المتتالية والعقوبات الدولية المُشددة، ما أثر على مراجعة المُحددات البيئية والحمائية."
مهارب قانونية وتملص من المسؤولية
وأضاف خلف: "عقود الإنتاج النفطي (جولات التراخيص)، تُحتم على مُسببي الانبعاثات تعويض المتضررين وتمويل مشروعات تحسين البيئة المحلية؛ حتّى أن الوثيقة الحكومية للمساهمة المُحددة وطنياً بشأن تغير المناخ (NDC)، اقترحت ضرورة تحفيز شركات النفط والغاز على الإبلاغ عن الانبعاثات ضمن أطر شفافة وموثوقة، وإطلاق حملات لقياس الميثان المنبعث، إلاّ إن الشركات التي تهيمن على حقول الاستخراج، ابتكرت مهارب قانونية بمعونة الحكومة المركزية، للتملص من مسؤولية الكشف عن نسب حرق الغاز وآثار ملوثاته، فضلاً تأثيرات البيئية المُدمرة لكامل القطاع الاستخراجي."
وأشار خلف إلى أنه لا توجد أي نية تلوح في الأفق لخفض الإنتاج أو غلق مواقع شديدة التلوث كإجراء عاقل ومسؤول تجاه البيئة المحلية، حتى أن العراق كان من أشد الرافضين لمقترح خفض إنتاج الوقود الأحفوري ضمن مباحثات COP 28، بل ذهب باتجاه إعلان جولتي تراخيص خامسة وسادسة عززت من خارطة الملوثات الأحفورية بتوسعة النشاط البترولي الى داخل المدن والمناطق المأهولة. لذا قد تكون البصرة، هي النموذج الأقوى الذين يبين مدى استهتار سياسات الدولة العراقية غير النظيفة.
ويشير الدستور العراقي في المادة 111 منه على أن النفط والغاز هو ملك الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات، وينسجم هذا القانون مع القانون الدولي الذي يعتبر الثروات الطبيعية ملك الشعوب، في الوقت نفسه، تُلزم الشركات الكبرى في إقامة مشاريع وتوفير خدمات متنوعة ضمن المنافع الاجتماعية، لكن تلك الأموال تستغل في عمل مشاريع صغيرة، دون التركيز على المشاريع الأهم، لاسيما تلك المتعلقة في الصحة وعلاج الأمراض السرطانية التي تنتشر في محافظة البصرة بشكل مخيف.
للدفاع عن قضية ابنهُ، شارك جلود في مؤتمر الأطراف في اتفاقية المناخ في شرم الشيخ، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، كما شارك في مؤتمر الأطراف في دبي، للتوعية بما يجري في حقول النفط وتسببها بالتلوث في مدينته، لكن حضوره، حسب قوله، لم يلق أي اهتمام حكومي أو محاسبة الشركات العاملة وفرض قوانين صارمة للحد من التلوث الناجم عن النفط.
ويقول جلود: "أعيش أنا وعائلتي منذ سنين، في ذلك الوقت، كانت الإنتاج النفطي قليل جدًا، ولم تكن هناك أي شركات أجنبية تعمل في منطقتنا، لكن بعد دخول الشركات النفطية، ومنها شركة بريتيش بتروليوم، زاد الإنتاج النفطي وزادت معه الانبعاثات الغازية السامة، والتي أودت بحياة ابني علي. وعليه، أتمنى أن تُبنى مستشفيات ومراكز متخصصة بعلاج الأمراض السرطانية في منطقة الرميلة، كما على الحكومة والدوائر الصحية إجراء فحوصات ومسوحات للسكان المحليين للتأكيد من إصابتهم أو خلوهم من الأمراض، حيث الوضع الاقتصادي المتدني، وقلة الوعي، والخوف من سماع أخبار إصابتهم بالسرطان، يتردد المواطنون من زيارة المراكز الصحية."
ويرى خلف أن مدينة البصرة قد تحولت إلى ورشة نفطية تنتج تلوثاً مستداماً آخذ بالتوسع والتمدد يوماً بعد آخر على حساب صحة السُكان وتدهور البيئة المحلية وتدميرها، فالمساحات الزراعية والخضراء تتآكل على نحو مستمر لصالح التوسع في النشاط الاستخراجي. باختصار، أصبحت مدينة البصرة غير صالحة للعيش على نحو متزايد، وباتت بعض السلطات والشركات مستعدة للتضحية بسلامة المواطنين من أجل زيادة الإنتاج.
صمت الحكومة العراقية، رغم الموازنات المليارية الضخمة المعتمدة على الريع النفطي غير النظيف، بات يُفاقم من معاناة العراقيين ويحوّل استفادتهم من "الثروة السوداء" إلى نقمة. إذ يستدعي تدهور الصحة العامة في مدن الاستخراج النفطي، إجراءات وطنية ملموسة لإنهاء المعاناة المتضررين عبر توفير مراكز العلاج المتخصصة عبر أموال المنافع الاجتماعية المتأتية من الأرباح البترولية، فضلاً عن فرض محددات بيئية صارمة على الشركات النفطية، من اجل إحراز هدفين أساسيين هما؛ تحقيق العدالة البيئية بخفض الإنتاج، وثانياً إنصاف ضحايا الأنشطة النفطية المدمرة للبيئة ولصحة السُكان المحليين.
اضف تعليق