وينبغي إعطاء الأولوية في هذا التعاون لحقول الغاز في إقليم كردستان العراق، إذ تبرز حاجة ماسة إلى الغاز لتوليد الكهرباء في جميع أنحاء العراق، في حين أن تطوير حقول الغاز هذه هو مشروع معقد وكثيف رأس المال يمكن أن يستفيد من دعم الدولة. ومن النُهج البناءة والعملية التي...
بقلم: الدكتور محمد عابد مزعل العبودي
من خلال وضع استراتيجية مشتركة للتنمية قائمة على المنفعة المتبادلة والاستفادة من عوائد حقول الغاز وموارد الطاقة في شمال العراق بالشراكة مع إقليم كردستان العراق، يمكن أن تتشكل رؤية للمصالحة والتسوية البناءة للخلافات القائمة بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية العراقية في ما يتعلق بإدارة موارد الطاقة في إقليم كردستان العراق.
تحظى محافظة السليمانية في إقليم كردستان العراق بعدد من حقول الغاز الكبيرة، وإذا تم تطوير هذه الحقول بطريقة بناءة وعملية، فيمكنها أن تساعد بشكل كبير في تلبية الطلب المحلي على الطاقة في العراق. إلا أن ما تشهده البلاد منذ زمن طويل من نقص في الاستثمار والبنية التحتية، إلى جانب العلاقات المتوترة بين الحكومة الاتحادية العراقية وحكومة إقليم كردستان، أدى إلى عرقلة الاستغلال التام لهذه الموارد.
ووفقا للقانون، يجب أن تكون ادارة الموارد تحت إشراف الحكومة المركزية في بغداد. ومع ذلك، قررت حكومة إقليم كردستان إدارة تلك الموارد بشكل مستقل وذلك على الرغم من أن وزارة النفط الاتحادية العراقية أبدت مرونة حين قبلت إدارة حكومة إقليم كردستان لهذه الحقول، إلا أن الافتقار إلى الشفافية في ما يتعلق بالعقود مع شركات النفط العالمية والتكاليف وطريقة تطوير الحقول شكل مساءلة حساسة بغداد وأربيل. وتأمل وزارة النفط في إجراء مفاوضات مع وزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان باعتبارها هيئة موحدة ذات موقف واضح في ما يتعلق بتعاونها المستقبلي مع وزارة النفط. ولكن هذه ليست الحال إذ لا تزال الخلافات قائمة في الرؤية والأجندات ضمن حكومة إقليم كردستان، في ما يتعلق بتطوير حقول الغاز.
في هذا السياق، تشكل الإشارات الأخيرة إلى انفتاح حكومة إقليم كردستان المتزايد تجاه التعاون مع الحكومة الاتحادية العراقية فرصة فريدة للتعاون على تطوير حقول الغاز هذه. وقد شهد موقف حكومة إقليم كردستان تحولًا كبيرًا ومحمودًا منذ إغلاق خط الأنابيب الممتد بين العراق وتركيا، إذ بذلت جهودًا حثيثة لتسوية خلافاتها مع الحكومة الاتحادية العراقية التي قامت بالمثل. وتجدر الإشارة إلى أن الجانبين ركزا مؤخرًا على تبسيط عقود النفط الخاصة بحكومة إقليم كردستان لتحظى بقبول وزارة النفط. وعلى وجه التحديد، أبدى رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان مؤخراً اهتماماً بإرسال فرق للتفاوض ووافق من حيث المبدأ على معايير إدارة الموارد، ويحدث ذلك بعيدا عن قضية تكاليف خط الأنابيب للبرميل الواحد، التي لا زالت عالقة.
وإذا توصل الطرفان في نهاية المطاف إلى تسوية هذه الخلافات، فقد تبرز فرص جديدة ومهمة للتعاون الكبير والبنّاء في مجال تطوير قطاع الطاقة، وتحديدًا الغاز الطبيعي والغاز المصاحب، بما في ذلك المشاركة الدولية النشطة.
حقول الغاز الطبيعي في إقليم كردستان العراق: الوضع الحالي
أغلب الغاز الموجود في العراق هو الغاز "المصاحب" المرتبط بحقول النفط العملاقة الموجودة في جنوب العراق، إلى جانب الغاز الحر غير المطورة بالكامل في حقل عكاز غرب العراق وفى المنصورية شرق العراق. وفي حين يحتوي إقليم كردستان العراق على العديد من حقول الغاز، إلا أن معظمها لا يزال غير مطور.
يعدّ حقل "خورمور" حقل الغاز الطبيعي المنتج الوحيد في الأراضي الخاضعة لإدارة إقليم كردستان العراق، ويشغّله اتحاد دولي برئاسة شركة إقليمية. يبلغ مستوى إنتاج الغاز الحالي 430 مليون قدم مكعب قياسي، بالإضافة إلى 15 ألف برميل من متكثف الغاز الطبيعي و1000 برميل من الغاز النفطي المسال. ويغذي خط أنابيب بطول 180 كيلومترًا ثلاث محطات كبيرة لتوليد الطاقة بنظام الدورة المركبة، تقع اثنتان منها في السليمانية وواحدة في أربيل، بقدرة إجمالية مركبة تبلغ 3500 ميغاوات. ولكن نتيجة القيود الحالية التي تطال إنتاج الغاز في حقل "خورمور"، لا يتجاوز إنتاج المحطات من الكهرباء 2000 ميغاوات، في حين أن احتياجات إقليم كردستان العراق من الطاقة تقدر بـ 5500 ميغاوات في الشتاء و7000 ميغاوات في الصيف.
ويجري حاليًا العمل على توسيع المرافق القائمة في "خورمور" لزيادة الإنتاج بمقدار 250 مليون قدم مكعب قياسي يوميًا، ومن المتوقع أن ينتهي بحلول نهاية العام 2024. وينبغي أن تكون هذه الزيادة كافية لتوفير الوقود لتوليد الكهرباء وتلبية طلب إقليم كردستان العراق بالكامل.
هذا وقد منحت حكومة إقليم كردستان في العام 2007 حقل الغاز الحامض الكبير "جمجمال" الذي تم اكتشافه في ثلاثينات القرن الماضي للاتحاد ذاته الذي يدير حقل "خورمور"، بهدف تطويره. إلا أن الاتحاد لم يطوّر "جمجمال" ومن المستبعد تطويره على المدى القريب، نظرًا للتوترات المستمرة المتعلقة بتطوير الغاز في إقليم كردستان العراق.
يقع الحقلان على حدود محافظتَي "كركوك" و"صلاح الدين". وتُعتبر العلاقة بين الاتحاد المشغل لحقل غاز "خورمور" وحكومة إقليم كردستان معقدة ومتقلبة جدًا، إذ قضى قرار تحكيم بأن تمنح وزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان الاتحاد المشغل مبلغ 2.2 مليار دولار. كما كثرت أيضًا قضايا التحكيم والتسويات خارج المحكمة بين المساهمين الرئيسيين وشركائهم في الاتحاد. وحاول الاتحاد المشغل لحقل غاز "خورمور" أيضًا الدخول في مفاوضات مع وزارة النفط لتزويد "شركة نفط الشمال" بالغاز الخام. ومع ذلك، تبرز هنا مشكلة قانونية وهي أن منطقة خورمور تُعتبر من المناطق المتنازع عليها بين بغداد وأربيل وليست منطقة معترف بها من قبل حكومة إقليم كردستان، وبالتالي بالنسبة للحكومة الاتحادية، فإن شراء الغاز من خورمور يعني شراء الغاز الخاص بها. علاوة على ذلك، ينبغي شراء الغاز من حقل خورمور من خلال شركة نفط الشمال، مما يعني إنفاق حوالي 100 مليون دولار على الغاز غير المعالج وبيع الغاز بسعر تعاوني لشركة غاز الشمال، مما يعني أن شركة نفط الشمال تخسر المال.
لا تخضع الحقول المكتشفة، ولكن غير المطورة في "بينا باوي" و"ميران" و"توب خانة" حاليًا لأي اتفاقيات حول مشاركة الإنتاج، ولكن تم التعاقد مع شركة تشغيل كندية بشأن حقل "كوردامير" غير المطور بدوره. وفي هذا الإطار، يكمن التحدي الرئيسي المتعلق بهذه الحقول في ما تحتويه من كميات كبيرة من الكبريت والحاجة إلى حلول تقنية معقدة كثيفة رأس المال لمعالجة الكبريت والتخلص منه.
وفى هذا السياق، لن يكون تطوير هذه الحقول عمليًا إلا إذا تم استخدام الغاز لتوليد الكهرباء بما يلبي الطلب المحلي داخل العراق. وكل هذه الحقول قابلة للتطوير المشترك من قبل وزارة النفط في الحكومة الاتحادية العراقية ووزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان بما يصب في مصلحة العراق بأكمله.
تجدر الإشارة إلى أن حكومة إقليم كردستان حققت أيضًا نجاحات سابقة في جذب شركات النفط العالمية بسرعة بعد العام 2006، من الشركات الصغيرة جدًا إلى بعض الشركات الكبرى، للتنقيب وتطوير حقول النفط والغاز في إقليم كردستان، ولا سيما التطوير السريع للغاز الطبيعي في ظل ظروف صعبة جدًا. ويمكن للعراق أن يستفيد كثيرًا من التوسع في هذه التجربة الإيجابية.
علاقات حكومة إقليم كردستان مع تركيا
شكل تصدير الغاز الكردي إلى تركيا أحد العوائق الرئيسية أمام التعاون الوثيق بين بغداد وأربيل في مجال الطاقة. تمارس السلطات التركية نفوذًا ماليًا وسياسيًا كبيرًا على حكومة إقليم كردستان وتتحكم تركيا بالوصول عبر الموانئ البحرية والحدود البرية مع العراق مباشرة إلى إقليم كردستان العراق، وبالمجال الجوي فوق تركيا وبالتالي الطريق الجوي المؤدي إلى إقليم كردستان. وكما تبين مؤخرًا، أدى توقف الصادرات عبر خط الأنابيب من إقليم كردستان العراق إلى تركيا إلى شل الاقتصاد المحلي في الإقليم. وقد شهدت العلاقات بين السلطات التركية و"الاتحاد الوطني الكردستاني" الذي يسيطر على محافظة السليمانية التي تضم معظم موارد الغاز، تدهورًا كبيرًا خلال العامين الفائتين.
وحتى الآونة الأخيرة، كان الموقف التفاوضي لحكومة إقليم كردستان مع وزارة النفط يتأثر بشكل غير متكافئ بالمصالح الوطنية والاقتصادية التركية. ومن الجدير بالذكر أن تركيا حريصة على التحكم بإنتاج موارد الغاز والوصول إليها في شمال العراق، فضلاً عن الاستفادة تجاريًا من الطاقة منخفضة التكلفة لتلبية احتياجاتها المحلية وتنويع سبل وصولها إلى مصادر الغاز.
ومع ذلك، يجب إعادة النظر في هذه العلاقة في إطار إعادة تصور علاقة الطاقة بين حكومة إقليم كردستان وبغداد. فالعراق يعاني من نقص هائل في الطاقة ويحتاج إلى كل الغاز المتوفر لتلبية الاحتياجات المحلية في المستقبل المنظور. ونظرًا للطلب المحلي المرتفع والمتزايد على الطاقة في العراق، ينبغي أن ينصب التركيز الوطني على تلبية هذا الطلب ومنحه الأولوية من خلال تطوير حقول الغاز الطبيعي المكتشفة وكذلك استغلال الغاز المصاحب. ومن غير الملائم التحدث عن صادرات الغاز في هذه المرحلة إلا بعد تلبية هذا الطلب المحلي.
النتيجة المرجوة
عند تسوية الخلافات المتبقية والتوصل إلى اتفاق بين وزارة النفط ووزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان، يجب أن يتمكن الكيانان من التعاون بشكل وثيق لتطوير موارد الطاقة بشكل مشترك من خلال آلية تعاون. وينبغي إعطاء الأولوية في هذا التعاون لحقول الغاز في إقليم كردستان العراق، إذ تبرز حاجة ماسة إلى الغاز لتوليد الكهرباء في جميع أنحاء العراق، في حين أن تطوير حقول الغاز هذه هو مشروع معقد وكثيف رأس المال يمكن أن يستفيد من دعم الدولة.
ومن النُهج البناءة والعملية التي قد تساعد بغداد على الاستفادة من موارد الطاقة التي يوفّرها حقل "خورمور"، أن تواصل وزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان انخراطها المباشر مع الاتحاد الحالي المشغل للحقل، وهو أمر ممكن بعد التوصل إلى اتفاق، بدلاً من محاولة وزارة النفط الاتحادية إدارته بشكل مباشر. ويمكن تحويل الغاز إلى كهرباء داخل إقليم كردستان ومن ثم نقله إلى أنحاء أخرى من العراق، لتستفيد بالتالي بغداد بشكل غير مباشر من غاز حقل "خورمور".
وباعتماد هذا النهج، يمكن لوزارة النفط تفادي مشروع ينطوي على إنفاق رأسمالي مرتفع ونتائج لن تتحقق إلا على المدى الطويل إذا انخرطت بنفسها في الحقل. كما يمكن لـ “شركة نفط الشمال" الحصول على الغاز الخام من "خورمور" ومعالجته ومن ثم تسليمه إلى "شركة غاز الشمال" بسعر مدعوم محققة خسارة، في حين تسلّم الأخيرة الغاز إلى وزارة الكهرباء بخسارة. تعدّ الاستفادة من "نقل الغاز عبر الكابلات" طريقة أسرع وأكثر كفاءة لاستغلال هذا المورد من خلال القطاع الخاص الحالي في إقليم كردستان العراق وتسليمه مباشرة إلى المستهلك في أنحاء أخرى من العراق على شكل كهرباء.
يتوفر مثالان على استخدام الغاز المصاحب لتوليد الكهرباء. يتعلق الأول بحقل "كورمالا" الذي يستخدم حوالي 110 ملايين قدم مكعب قياسي في اليوم من الغاز المصاحب كوقود لإنتاج الكهرباء في محطة كهرباء "كورمالا" في أربيل. بالإضافة إلى ذلك، تمكنت وزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان من الاستغلال السريع لحوالي 40 مليون قدم مكعب قياسي في اليوم من غاز الشعلة الخام من حقل "كرميان" الذي يغذي محطة كهرباء محلية، وهذا مثال عن مشروع "نقل الغاز عبر الكابلات" حيث يتم تصدير بعض الكهرباء إلى أجزاء أخرى من العراق.
يوضح هذان المثالان كيف يمكن لوزارة النفط في الحكومة الاتحادية العراقية ووزارة الثروات الطبيعية في حكومة إقليم كردستان التعاون لتطوير مشاريع مستقبلية. وتتوفر فرص أخرى مهمة في ما يخص الغاز المصاحب من حقول محافظة دهوك، ولكنها تترافق مع تحديات أكبر نظرًا لارتفاع نسبة الكبريت في الغاز.
وينبغي لمثل هذا التعاون أن يأخذ في الاعتبار إنشاء شركة طاقة وطنية مستقلة مدعومة من الحكومة الفيدرالية تتمحور حول إقليم كردستان العراق ويكون مقرها فيه، على غرار شركات النفط العراقية الإقليمية أو القائمة في المحافظات. قد لا تقتصر أنشطة هذا الكيان على النفط والغاز، بل قد تشمل أيضًا استغلال غاز الشعلة وتوزيع الطاقة، مما يوفر فرصة للخروج بسيناريو مربح بالنسبة لبغداد وأربيل.
اضف تعليق