ويعكس خرق إيران الوشيك للاتفاق النووي (خطّة العمل الشاملة المشتركة) والهجمات في الخليج اليأسَ المتزايد الذي ينتاب القادة الإيرانيين مع تزايد ضيق الخناق الذي تسبّبه العقوبات التي أعاد فرضها ترامب. وليس هذا بمجرّد ردّ فعل إيراني على التصرّف الأمريكي، بل يشكّل تزايد التوترات إقراراً بأنّ...
سوزان مالوني
تسارعت وتيرة الأزمة البطيئة الحركة بين إيران والولايات المتحدة هذا الأسبوع مع إعلان طهران أنّها قريباً ستتحدّى القيود المفروضة عليها بموجب الاتفاق النووي المُبرم في العام 2015 بشأن مخزونها من اليورانيوم المنخفض التخصيب. وتأتي هذه الخطوة البارزة الأولى التي اتخذتها إيران والتي تنحرف عن الاتفاق النووي منذ أن انسحبت الولايات المتحدة منه في العام 2018 في أعقاب سلسلة من الهجمات على ناقلات نفط في الخليج العربي، فضلاً عن ضربات بالصواريخ وبالطائرات المسيّرة على بنى تحتية سعودية وإماراتية وعلى الحضور الأمريكي في العراق. وجرت الموجة الأخيرة من العنف حتّى بعد مغادرة رئيس الوزراء الياباني طهران خالي الوفاض بعد جهد للوساطة شجّع على بذله الرئيسُ ترامب على ما يبدو.
ويعكس خرق إيران الوشيك للاتفاق النووي (خطّة العمل الشاملة المشتركة) والهجمات في الخليج اليأسَ المتزايد الذي ينتاب القادة الإيرانيين مع تزايد ضيق الخناق الذي تسبّبه العقوبات التي أعاد فرضها ترامب. وليس هذا بمجرّد ردّ فعل إيراني على التصرّف الأمريكي، بل يشكّل تزايد التوترات إقراراً بأنّ إيران لا يمكنها أن تتحمّل جموداً مستمراً، مع آمال غير أكيدة بتلقّي إعانة اقتصادية من إدارة أمريكية عتيدة. فإيران أمام هوّة اقتصادية عميقة وهي تتوقّع تداعيات سياسية داخلية جرّاء ذلك، لذا بدأت طهران مؤخّراً بطرح ضبط النفس الذي فرضته على نفسها جانباً وباختبار ردّ فعل العالم تجاه ردود مدروسة. والمفاجأة الوحيدة أنّ انتقام إيران استغرق هذا القدر الكبير من الوقت، وحتّى هذا الشهر لم يكن بانتقام لافت.
وتقوم إيران حالياً بضخّ شعور بالإلحاح داخل المجتمع الدولي حول الوصول إلى مسار يُخرجها من مواجهتها المتأجّجة مع واشنطن. وشرح المرشد الأعلى للثورة الإسلامية آية الله علي خامنئي مؤخراً أنّ التفاوضَ من موقع ضعف فخٌّ، وأنّ المسار الوحيد المتاح لدولة ترزح تحت الضغط الأمريكي هو اللجوء إلى “أدوات الضغط” الخاصة بها لحثّ واشنطن على تغيير مقاربتها. والتصعيد طريقة خطيرة لزيادة النفوذ، بيد أنّ طهران بارعة في اللجوء إلى الاستفزاز لكسب الأفضلية.
فقد أجّجت صور ناقلات النفط المحترقة في ممرّ الطاقة الأهمّ في العالم المخاوفَ من أنّ إيران والولايات المتحدة تسلكان مساراً تصادمياً. وأسباب القلق من أنّ كلتا الجهتين تفتقر إلى المهارة، أو النية، لتفادي الصراع مشروعة. ويقع الكثير على المحك، لكنّ الوقت لم يفت لتأجيل تدخّل عسكري أمريكي كارثي آخر في الشرق الأوسط. وتسلّط المناوشات الأخيرة الضوء على مخاطر ما أصبح جموداً استراتيجياً بين واشنطن وطهران، وهو جمود سينتهي بكارثة للطرفين إذا استمرّا باعتماد استراتيجيتيهما الراهنتين. وعلى الرغم من الخطابات المندّدة والعداوة المتجذّرة، تفضّل دوائرُ انتخابية نافذة لدى كلا الطرفين تفاديَ المواجهة. ويتمحور التحدّي الآن حول تهدئة النفوس والبدء بوضع إطار عمل واقعي للعمل الدبلوماسي.
تبادل متوقّع في الردود
تشكل الأحداث الأخيرة تصعيداً جديداً خطيراً في المواجهة المتأجّجة بين الولايات المتحدة وإيران، خارقة بذلك سنة كاملة من الهدوء النسبي الذي طغى على الموضوع الإيراني حتّى عندما قضت واشنطن على الاتفاق النووي في العام 2018 وشنّت هجوماً عنيفاً وواضحاً على الاقتصاد الإيراني. وتصاعدت حدّة الحملة الأمريكية بشكل ملفت منذ أوائل مايو، إذ زاد البيت الأبيض فجأة من جهوده لوقف الصادرات النفطية الإيرانية وصنّف قوات إيران العسكرية النخبة منظمة إرهابية أجنبية وكشف النقاب عن عقوبات جديدة تستهدف قطاعَي الفولاذ والبتروكيميائيات في إيران وألغى بعض الأذونات اللازمة لإيران لتستمرّ بالامتثال بالاتفاق النووي وعزّز تموضعه العسكري الأمريكي بوضوح في الخليج.
إثر هذه الخطوات، تزايدت التوتّرات بسرعة مع سلسلة من الحوادث التي شملت هجوماً على ناقلات نفط وأنابيب نفط في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والمغادرةَ الطارئة لبعض الدبلوماسيين الأمريكيين من العراق وورودَ تقارير أنّ البيت البيض يبحث في خيارات عسكرية في ما يخص إيران وهجوماً بالصواريخ على “المنطقة الخضراء” قرب السفارة الأمريكية في بغداد، بالإضافة إلى ضربةٍ صاروخية على مطار سعودي شنّها متمرّدون حوثيون تدعمهم إيران أدّت إلى جرح 26 مدنياً. وهذا الأسبوع، تعرّضت عدّة مواقع في العراق تأوي موظّفين أمريكيين وعراقيين ضربات بالصواريخ وقذائف الهاون، بما في ذلك عدّة قواعد عسكرية ومنشأة لشركة نفط أمريكية. ولجأ ترامب للردّ إلى حبّه المفرط للتغريد على موقع تويتر، فحذّر في أواسط مايو أنّ أي نزاع سيعني “نهاية إيران الرسمية”، وزادت الإدارة الأمريكية أكثر فأكثر من عمليّات انتشارها العسكري في المنطقة رداً على سلسلة الهجمات هذه.
لا يجدر أن يسّبب أيّ مما حصل مفاجأة، لا بل الردّ من طهران هو النتيجة المتوقّعة والمرتقبة لحملة “الضغط الأقصى” التي تنتهجها واشنطن على إيران. فالهجوم المضادّ أمرٌ محوري لاستراتيجية الردع لدى إيران. فبالنسبة إلى قيادةٍ تأثرت رؤيتها العالمية بالاجتياح الذي قام به صدام حسين في العام 1980 وبالحرب التي تلته والتي امتدّت لثماني سنوات، فكرة أنّ الانصياع للضغط لا يؤدّي إلا إلى تزايده هي فكرة مترسّخة بعمق. ونفور إيران من الخضوع أمرٌ مفهوم جداً في واشنطن. ويعتبر الكثيرون ممّن هم في اليمين أنّ هذا التوجّه هو ما يدفع إلى التفكير في أنّ اعتماد القوة الطاغية هو الطريقة الوحيدة لصدّ إيران عن السياسات التي تسبب عدم الاستقرار.
وقاربت إدارة ترامب إيران انطلاقاً من هذا التفكير، فبذلت جهداً متعمداً غير ضروري لمحاولة الدفع بطهران إلى حافة الانهيار الاقتصادي. ويشكّل هذا السلوك محور استراتيجية ترامب إزاء الشرق الأوسط. ومع ذك، يبدو أنّ البيت الأبيض لم يضع خطة لإدارة تداعيات تأجّج متوقع في التوترات، أو وعلى القدر ذاته من الأهمية ومثلما شدّد مؤخراً بريان هوك، المبعوث الأمريكي حول إيران، لتحقيق هدفها الطموح لكن الغامض “بأن تتصرّف إيران كدولة طبيعية”.
سواء أكان عدم التخطيط لظروف طارئة واضحة يشير إلى تهوّر مقصود من البيت الأبيض، أم كان مجرد نتيجة لعملية السياسات المُختلّة التي تعانيها هذه الإدارة، أم كان مزيجاً من هذَين العاملين، لقد أوصلنا إلى وضع التناحر الراهن الذي روّع أسواق النفط وجعل إيران تتبوأ مرتبة عالية على قائمة واشنطن التي تعجّ بالتحديات الراهنة أصلاً.
نجاح العقوبات
وعلى صعيد التأثير، فاقت سياسة ترامب حيال إيران توقّعات ناقديها في إيران والغرب. فعلى مدى السنة الماضية، سرعان ما تمّ القضاء على أي أمل بأنّ أوروبا يمكنها أن توازن ولو جزئياً إعادة فرض العقوبات الأمريكية، مع بذل الشركات والمؤسسات المالية جهوداً سريعة لتحرير نفسها من عمليات الانخراط التي أجرتها للعودة إلى السوق الإيرانية في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي. ومنذ نوفمبر، عندما دخلت الإجراءات الأمريكية التي تستهدف صادرات النفط حيّز التنفيذ من جديد، واجهت طهران صعوبات لتحافظ على إنتاجها، إذ بات حالياً في أدنى مستوياته في السنوات الخمسة الماضية. وتشير علامات مبكرة أنّ الامتثال الإجمالي لقيود صارمة أكثر حتّى فُرضت في مايو سيخفّض الصادرات بمقدار 500 ألف برميل إضافية في اليوم أو أكثر.
وكان لهذا كلّه أثرٌ مدمّر على إيران والإيرانيين. فلطهران خبرة عريقة في فنّ التحايل على العقوبات وحماية البلاد من تداعياتها. بيد أنّ المزيج بين تطبيق واشنطن المتصلّب وضمور المرونة الإيرانية نتيجة سوء الإدارة والفساد والعقوبات الطويلة الأمد، قد أضعف قدرة طهران على صدّ هذه الضربات الأخيرة. فعلى مدى السنة الماضية، تدهورت قيمة العملة الإيرانية بمقدار الثلثين ويناهز التضخّم نسبة 40 في المئة ومن المتوقّع أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 6 في المئة هذه السنة بحسب صندوق النقد الدولي.
ومع أن المنتجات الزراعية والسلع الطبية مستثناة من كلّ العقوبات الأمريكية، تضاعفت أسعار السلع الأساسية، بما فيها الكثير من المنتجات الغذائية، ضعفَين أو ثلاثة أضعاف، والكثير من الأدوية قليل التوافر. وينتظر الإيرانيون لساعات في خطوط طويلة لتلقّي مؤن اللحم المدعومة، وتفكّر الحكومة في إعادة تطبيق نظام الحصص الذي أعال البلاد في خلال حربها المدمِّرة مع العراق. وقد حلّت حالةُ حصار كالحة متقلقلة مكان الاحتمالات التي بدت لفترة وجيزة ضمن المتناول في الفترة الهانئة الذهبية التي تلت المفاوضات النووية.
ويظهر لدى الأطراف الأخرى في الاتفاق النووي، أي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، تعاطفٌ حقيقي مع نكبة الإيرانيين وبعض الامتعاض الحقيقي حيال الأحادية المزعجة التي تعتمدها إدارة ترامب. لكنّ الآليات الواقعيةَ المتاحة لتلك الدول للتخفيف من التداعيات قليلةٌ. فليس باستطاعة أيّ من هذه العواصم إرغام المصارف والشركات على التعامل مع إيران. وحتّى لو أتيحت لها القدرة على ذلك، لا مصلحة لها في وضع اقتصاداتها وصناعاتها نصب عيني وزارة الخزانة الأمريكية. وبالارتكاز على مصالح مشتركة أوسع وعلى الافتراض بأنّه من المحتمل العودة إلى التعاون المتعدد الأطراف مع إيران، حرص الأوروبيون بشكل خاص على تفادي الابتعاد الكامل عن واشنطن إزاء السياسة حيال إيران. نتيجة لذلك، لم تفضِ الإدانات الكثيرة التي انهالت على خروج ترامب من الاتفاق النووي إلى الكثير في ما يخص التعويض الملموس أو المساعدة الفعلية لإيران.
استفزاز حذر؟
ليس لطهران الكثير من الخيارات الجيّدة لقلب هذه الحسابات لمصلحتها، ممّا يفسّر السبب الذي جعل ردّها على سياسة “الضغط الأقصى” التي يعتمدها ترامب مدروساً أكثر بكثير من التوقّعات الكارثية التي أطلقها المراقبون والمناصرون منذ سنة. فلا تقدّم أيّ من الردود على السياسات المتاحة للحكومة، مثل تحدّي الاتفاق النووي بأكمله أو الردّ علناً على المصالح أو المُقدّرات الأمريكية، مساراً صالحاً لتحرير إيران من القبضة الأمريكية المُحكمة أو لتحسين التهديد الوجودي المُحتمل الذي تشكّله العقوبات الأمريكية المستمرة والشديدة على الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وحتّى للإجراءات التي تعطي بعض القدرة الممكنة على النكران، مثل الهجمات السيبرانية، قد لا تؤدّي خيارات الردّ المتاحة لطهران سوى إلى مفاقمة أزمتها الراهنة.
نتيجة لذلك، استوعب القادة الإيرانيون وطأة عقوبات “الضغط الأقصى” بحذر غير معهود، ولا سيما منذ خروج ترامب من خطّة العمل الشاملة المشتركة. فحتى بعد 12 شهراً من الهجوم غير المتهاون لإدارة ترامب على الاتفاق النووي، بقي الاتفاق راسخاً، حتّى مع تصاعد المواجهة بين واشنطن وطهران. ولم يبدأ ردٌّ إيراني مدروس نوعاً ما بالبروز سوى في الأسابيع القليلة الماضية، بعد فترة طويلة من التأكّد من أنّ المجتمع الدولي لن يقوم بأي إجراءات بطولية لإبعاد إيران عن وطأة الضربات الموجعة التي تسببها العقوبات الأمريكية وليس سوى بعد أن عملت واشنطن على زيادة حدّة الحصار عبر عدم القبول بالتنازلات للاستمرار بتصدير النفط الإيراني.
وفي ما يخص الاتفاق النووي، انتظر القادة الإيرانيون سنة كاملة بعد الانسحاب الأمريكي منه للمباشرة بسلسلة من التصعيدات المتواضعة والمحسوبة، فأنهوا انصياعهم لعدد من الالتزامات التي يفرضها الاتفاق. وهَدفَ ذلك إلى بلورة التحذير الذي أطلقوه منذ أن بدأ ترامب باستهداف الاتفاق، ألا وهو أنّ المعاملة بالمثل ضرورية لاستمرارية الاتفاق ولقيوده على نشاطات إيران النووية. ففوراً بعد الانسحاب الأمريكي، أعلن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي أنّ “الأمة الإيرانية وحكومتها لن تقبل بأن يتم إخضاعها للعقوبات وأن تسمح بتقييد برنامجها النووي في الوقت عينه”.
مع ذلك، حتى الآن تفادت طهران عمداً اتخاذ خطوات تؤدّي إلى هلاك الاتفاق. فلو كانت النية التخلّص من الاتفاق النووي نهائياً، بإمكان القادة الإيرانيين اتخاذ خطوات حازمة أكثر بكثير، مثل التخلّي عن تطبيق البروتوكول الإضافي لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أو اعتماد فرّازات طرد مركزي متقدّمة في منشأة فوردو التحت أرضية لتخصيب اليورانيوم. لقد طرح القادة الإيرانيون هذه الاحتمالات (وغيرها)، لكن حتى اليوم ما زالت خطوات طهران للابتعاد عن الاتفاق مضبوطة ويمكن الرجوع عنها. في الواقع، قرار طهران بالتغاضي عن الحدود التي تفرضها خطة العمل الشاملة المشتركة على مخزون اليورانيوم المخصّب والماء الثقيل سبّبته أساساً إعادةُ فرض الولايات المتحدة قيوداً على تصدير الإنتاج النووي الإيراني، مع العلم أن طهران قد عجّلت في الإطار الزمني لهذا الخرق.
وتعتبر الإشارات التي أرسلتها الأحداث في الخليج العربي بارزة أكثر. فلم يتمّ التثبّت بشكل مستقل من تورّط إيران، لكن تَظهر أدلّة موثوقة ومتزايدة تدعم الشكوك في أنّه كان لإيران يدٌ في العمل التخريبي الذي أصاب الشهر الماضي ناقلتَي نفط راسيتين في الفجيرة في الإمارات العربية المتحدة وفي الهجمات بالطائرات المسيّرة على محطّتَي ضخ على طول خطّ الأنابيب شرق-غرب التي تعبر المملكة العربية السعودية، وذلك من خلال علاقتها الزبائنية مع الميليشيات الحوثية في اليمن. واللافت أنّ كلا الهجومين استهدفا بنى تحتية مصمّمة خصيصاً لتجاوز مضيق هرمز، وهي تشكّل عناصر من تخطيطٍ للطوارئ وضعته الدول الخليجية على مرّ عقود للتخفيف من ضعفها إزاء طهران. وفي كلتا الحالتين، كان الضرر طفيفاً نسبياً، ممّا يقلّل من احتمال وقوع أضرار جانبية و/أو اللجوء إلى ردّ أمريكي تصعيدي.
وفي الهجمات التي وقعت الأسبوع الماضي على ناقلتَي النفط في خليج عمان، يبدو أنّ إيران قد رفعت من عامل الخطورة ولكن بشكل متزايد لا أكثر. فإلحاق الضرر بسفن في عرض البحر عوضاً عن في المرفأ في قناة شحن مزدحمة يزيد من احتمال الانكشاف أو وقوع ضحايا مدنيين. مع ذلك، عبر استهداف سفن صغيرة نوعاً ما لم تكن محمّلة بالنفط الخام وعبر خوض هجمات يبدو أنّها هدفت لإلحاق الضرر بالسفن وليس لإغراقها، بدا أنّ هذه الهجمات الأخيرة مصمّمة لكي لا تؤدّي إلى حدث تغييري فعلي على صعيد التداعيات الأمنية أو البيئية.
وتسلّط طهران الضوء، من خلال ردودها المدروسة، على مزاياها النسبية التي تشكّلها الميليشيات الوكيلة والحرب غير التقليدية وعلى قدرتها على الردّ على الضغط الأمريكي بطرق تقلّل إلى أدنى حدّ من مخاطر وقوع مواجهة مباشرة. وهذا يخوّل القادة الإيرانيين أن يلتزموا بعقيدتهم العريقة التي تربط أمن صادراتها من الطاقة بأمن صادرات الطاقة لدى الدول المجاورة لها. فكما حذّر نائب في البرلمان الإيراني في العام 2012، مُكرّراً ما قاله عدد كبير من المسؤولين الأمنيين الإيرانيين في الماضي والحاضر: “إن أراد العالم أن يجعل هذه المنطقة غير آمنة، سنجعل العالم غير آمن”. وتعريض صادرات الطاقة لدى الدول المجاورة لإيران للخطر يمنحها ما يتخطّى لذة الانتقام فحسب. فمجرّد بروز تهديدات بعرقلة إمدادات الطاقة يمكن أن يفضي إلى ارتفاعات في الأسعار، مما يحسّن مداخيل إيران المخنوقة من أيّ صادرات تتمكّن من المحافظة عليها. ويمكن أن يعرقل ارتفاع أسعار النفط إمكانية إعادة انتخاب ترامب التي ترتكز بشكل كبير على ادّعاءات الإدارة بتحقيق تحسينات اقتصادية.
المحافظة على رباطة الجأش
قد يطيب لإدارة ترامب بتصعيد الوضع ردّاً على الاستفزازات الأخيرة التي قامت بها إيران. لكنّ هذا سيكون هفوة. فتكتيكات الإدارة الأمريكية العدوانية التي تلقي بكامل ثقلها في التعامل مع إيران تتناقض في جوهرها مع إصرار ترامب الذي عبّر عنه مراراً وتكراراً وبتشديد على إخراج الولايات المتحدة من الصراعات العسكرية المكلفة والطويلة في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من المخاوف المستمرّة من أنّ مستشاري ترامب عازمون على التحريض على صراع مع طهران، استبعد الرئيس سراً التصعيد العسكري وقلّل علناً من أهمّية المناوشات الأخيرة. بيد أنّ التناقضات ضمن المقاربة الأمريكية الراهنة أفضت إلى مأزق استراتيجي. فقد تبيّن أن “الضغط الأقصى” غير كافٍ للتسبّب بانهيار أو استسلام إيراني، وقدرة طهران على تدبير أمورها تحت الإكراه لم يخفّف من التحدي الوجودي الذي يواجهه قادتها أو كَفَّ تكتيكات واشنطن العنيفة. فلا واشنطن ولا طهران قادرة على الانتصار أحادياً وصراحة، وتولّد الاستراتيجية التي تنتهجها كل جهة مخاطر صعبة الحلّ لخصمها.
لكنّ الولايات المتحدة تحظى بالأفضلية بدون شكّ. فسياسة الضغط الأقصى التي يلجأ إليها ترامب يمكنها أن تدفع بالاقتصاد الإيراني إلى شفير الهاوية، ممّا يقيّد قدرة إيران على تمويل جهاتها الوكيلة ومغامراتها العسكرية الإقليمية ويفاقم عدم الرضا عن نخبتها الحاكمة وفي ما بينها. لكن لسوء الحظ، لا تستطيع السياسات الأمريكية وحدها أن تحقق هدف الإدارة المعلن، ألا وهو تحويل إيران إلى “دولة طبيعية”. فهذا في نهاية المطاف محصور بيد الإيرانيين والقيادة الإيرانية. ولهو من الممكن بالتأكيد أنّ الضغط الاقتصادي الهائل قد يعجّل مسيرة الإيرانيين الطويلة والعسيرة نحو حوكمة مسؤولة أكثر، لكن من الممكن أيضاً وبالقدر ذاته أنّ الحرمان على يد خطر خارجي سيعطي القوّة لزمرة أقوى من الغوغائيين الإيرانيين.
وعلى الرغم من أنّ طهران لا يمكنها فعلياً عزل اقتصادها عن العقوبات الأمريكية، ليست البلاد عزلاء على الإطلاق. فكما شهد العالم على مدى الأسابيع الستة الماضية، بإمكان قادتها الردّ بطرق أصابت نقطة ضعف الإدارة الأمريكية، أي الاقتصاد، من خلال خطوات تعرقل الإمدادات أو تولّد الشكوك لرفع أسعار النفط بما يكفي لإبطاء النمو أكثر في الاقتصاد العالمي ولتخييب ظنّ قاعدة المصوتين لترامب. وبإمكان الميلشيات المدعومة من إيران أن تزيد من حماوة الوضع لشركاء الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان وللجنود الأمريكيين المتمركزين هناك. ولن تقتصر التداعيات المتأتية عن أي تصعيد مباشر بين القوات الإيرانية والأمريكية على إيران، بل ستؤجّج المنطقة وترتّب خسائر بشرية ومالية وانتخابية لا أحد في الولايات المتحدة مستعدّ لدفعها من دون مسبّب حقيقي، ولا سيما في سنة انتخابات.
وحتى مؤخراً، أبدت إيران ضبطاً للنفس في ردّها على التحديات التي تواجهها قيادتها. لكن كما تُبيّن هذه الأحداث الأخيرة، ليس ضبط النفس الإيراني بآلية موثوقة لتفادي الصراع. واعتماد الضغط على المدى الطويل من دون اللجوء إلى الدبلوماسية، كما قد يفضّل بعضُ مَن هم في إدارة ترامب، سيترك واشنطن في موقع ضعيف بشكل خطير للتعامل مع التهديدات الوشيكة اليوم. ففي حال تمكنت الجمهورية الإسلامية من النفاذ بريشها، ستكون نهاية القيود على برنامجها النووي ضمن المتناول بحلول اليوم الذي يقسم فيه رئيس الولايات المتحدة التالي اليمين الدستورية. فمن دون خلف أو بديل للاتفاق النووي، ستكون إيران على بعد سنوات قليلة فقط من إنشاء برنامج نووي مُشرّع دولياً مع عوائق فعلية قليلة أمام بلوغها قدرة تصنيع سلاح نووي.
البحث عن مسار آخر
ما يلزم الآن أكثر من ذي قبل هو مبادرة دبلوماسية جدّية للبدء بوضع إطار عمل من أجل إدارة التحديات الكبيرة التي تشكلها إيران على الأمن الإقليمي والدولي. لقد طلب ترامب علناً إجراء حوار مباشر مع القادة الإيرانيين في عدة مناسبات. ويبدو أنّه طلب من رئيس الوزراء الياباني شينزو أبي بذلَ جهد وساطة، ويُشاع أنّه وصل إلى حدّ أنّه أعطى رقم البيت الأبيض إلى طهران عبر قنوات دبلوماسية رسمية. وشدّد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في وقت سابق من هذا الشهر على أنّه ليس للإدارة الأمريكية شروطٌ مسبقة للتحدّث مع إيران وهي جاهزة للتعامل مباشرة مع طهران.
في المقابل، ليس كبار القادة الإيرانيين أبداً على المستوى ذاته من الانفتاح، ويصرّون أنهم لن يفاوضوا والسيف مسلول على عنقهم ويرفضون رفضاً قاطعاً المساومة حول ما يصفونه أنّه القدرات الدفاعية الأساسية للبلاد، على غرار الصواريخ. لكن خلف هذه الواجهة، تساءلت المؤسّسة السياسية الإيرانية سرّاً طوال أشهر حيال إمكانات التفكير في مسار دبلوماسي لإخراج البلاد من مأزقها الحالي، وجرى الكثير من الانخراط الإيراني مع وسطاء محتملين. وأطلق منشقّون معروفون وسياسيون معتدلون مؤخراً رسالة مفتوحة تدعو لإقامة محادثات غير مشروطة، فيما أشار السياسي الإصلاحي مصطفى تاج زاده بوضوح أنّ المفاوضات مع واشنطن يمكن أن تتمّ قبل صراع عسكري أو بعده.
وأعطت زيارة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الأخيرة إلى نيويورك إشارة إلى أنّ طهران مستعدة لجسّ النبض، حتى لو كان ذلك عبر نقاشات ضيقة النطاق تتمحور حول تبادل للأسرى. فمنذ شهرين، قدّم ظريف أداء باهراً على محطة فوكس نيوز كان موجهاً إلى مَن هو في البيت الأبيض، مدغدغاً نرجسية ترامب وعدم ثقته بمستشاريه الصقوريين. وفي الأسبوع الماضي، خطت طهران خطوة أبعد مع إطلاق سراح نزار زكا، وهو لبناني حامل تأشيرة إقامة دائمة أمريكية بعد احتجازه لأكثر من ثلاث سنوات بتهمة تجسّس زائفة.
آن الأوان لتخطّي إرسال الإشارات وزيادة النفوذ لقاء كلفة عالية إلى هذا الحد. فينبغي على إدارة ترامب العمل على تطوير عملية دبلوماسية جدّية مع انخراط ثنائي مباشر مع طهران. وينبغي أن تكون التوقّعات لهذه الدبلوماسية واضحة ومحدودة، فما من احتمالات واقعية لتحقيق اتفاق شامل يعالج نطاق المخاوف الطموح الذي عرضه بومبيو في العام المنصرم. لكنّ تجربة إدارتَي بوش وأوباما برهنت على أنّ الحوار المباشر يمكنه أن يؤدّي إلى انفتاحات متواضعة لحلّ مسائل ملموسة، مثل حجز إيران غير العادل لأشخاص أمريكيين، فضلاً عن فرصٍ للتخفيف المتبادل من حدّة الصراع وبناء الثقة حول الصراعات الإقليمية التي تنخرط فيها القوتان العسكريتان لهذين البلدين. ومع الوقت، يمكن أن تؤمّن قناة موثوقة بين واشنطن وطهران الأساسَ لمفاوضات جدّية أكثر بخصوص تمديد مستقبلي لقيود الاتفاق النووي على برنامج إيران النووي فضلاً عن مسائل أخرى تثير القلق.
وسيكون لتحقيق التوازن بين الضغط والدبلوماسية الأمريكيَّين منافع أوسع لإدارة ترامب. فالتشكيك العلني الانعكاسي الذي أتى ردّاً على تأكيد الإدارة على ضلوع إيران في الهجمات الأخيرة يشكل دليلاً على انحسار كبير صعب الحلّ في مصداقية واشنطن. ومن شأن محاولة جدّية للانخراط الدبلوماسي مع إيران، ولا سيما بالتعاون مع الحلفاء، أن تُطلق العملية الطويلة لاستعادة الثقة بتقييمات المخابرات الأمريكية وتقوية قدرات الردع الأمريكية.
من الفرضيات إلى التطبيق
يبدو أنّ سياسة ترامب حيال إيران تحاول الجمع بين الأسس الجوهرية لرؤيتين متنافستين للسياسة الخارجية الأمريكية، واحدة مترسّخة في إعادة ترسيخ التفوّق الأمريكي بالقوة والثانية مقيّدة بإحساس بضبط النفس والبراغماتية وليدِ حربين مدمّرتين لم تنتهيا حتى الآن. فقد استشاط نقاد الاتفاق النووي الإيراني غضباً لأن الإدارة وشركائها الأوروبيين والروس والصينيين في المفاوضات رضوا بالقليل. فكما عبّر عضو مجلس الشيوخ الأمريكي طوم كوتون في العام 2017: “كانت هذه العقوبات الأقسى التي واجهتها إيران يوماً، وقد ساعدت على إركاع النظام. وقد تعلّمت في الجيش أنّه إن كان خصمك على ركبتيه تطرحه أرضاً وتخنقه. لكنّ أوباما مدّ يد العون وساعد آيات الله على الوقوف”.
وأصرّ كوتون ومعارضون آخرون على الاتفاق النووي أنّه مع ما يكفي من الوقت والتطبيق الصارم، كان بإمكان العقوبات المدمّرة المفروضة آنذاك أن تؤدّي إلى قيود صارمة أكثر بكثير على قدرات إيران النووية بالإضافة إلى تنازلات شديدة حول تموضعها الإقليمي. وقد أصبحت هذه الفرضية المغرية اعتقاداً راسخاً لدى الكثيرين، بمن فيهم الحزب الجمهوري وقادة إسرائيل والمملكة العربية السعودية والدول الخليجية الأخرى. والآن هو الوقت الأنسب لأولئك الذي يناصرون اللجوء إلى دبلوماسية طموحة أكثر مع طهران ليربطوا كلامهم بأفعال.
اضف تعليق