كم عدد المرات التي قررت فيها الاشتراك في نادٍ صحي لممارسة التمارين الرياضية والالتزام بنمط حياة أكثر نشاطًا، وانتهى بك الحال بالجلوس على الأريكة تشاهد التلفاز، أو تتابع مواقع التواصل الاجتماعي عبر هاتفك الجوال؟ إذا كان هذا هو حالك مع الرياضة، فاعلم أن عقلك قد يكون السبب الرئيسي في استجابة لقوانين التطور البيولوجي لدى البشر...
بقلم: علا الغزاوي
أظهرت نتائج دراسة حديثة أن نمط الحياة غير النشط جذاب للإنسان، ويحتاج منه عمل مجهود أكبر إلى التخلي عنه؛ إذ يحتاج الدماغ إلى موارد أخرى إضافية للهروب من حالة الانجذاب العام نحو الراحة والاسترخاء، كم عدد المرات التي قررت فيها الاشتراك في نادٍ صحي لممارسة التمارين الرياضية والالتزام بنمط حياة أكثر نشاطًا، وانتهى بك الحال بالجلوس على الأريكة تشاهد التلفاز، أو تتابع مواقع التواصل الاجتماعي عبر هاتفك الجوال؟
إذا كان هذا هو حالك مع الرياضة، فاعلم أن عقلك قد يكون السبب الرئيسي في استجابة لقوانين التطور البيولوجي لدى البشر، وذلك وفق دراسة حديثة نُشرت مؤخرًا في دورية نيوروسايكولوجيا Neuropsychologia.
درس الباحثون في جامعة جنيف السويسرية (UNIGE) ومستشفيات الجامعة وبالتعاون مع جامعة كولومبيا البريطانية في كندا، النشاط العصبي للأشخاص الذين يواجهون الاختيار بين النشاط البدني وعدم عمل أي شيء.
أظهرت نتائج الدراسة أن السلوكيات المستقرة أو "نمط الحياة غير النشط" sedentary lifestyle جذاب للإنسان، ويحتاج منه عمل مجهود أكبر إلى الابتعاد عنه؛ إذ يحتاج الدماغ إلى موارد أخرى إضافية للهروب من حالة الانجذاب العام نحو السلوكيات المستقرة (الراحة والاسترخاء)، مما يفسر إلى حدٍّ كبير الصراع الشائع بين نوايا بعض الأشخاص ممارسة التمارين الرياضية وقدرتهم الحقيقية على القيام بذلك.
وعرَّف العلماء السلوكيات المستقرة بأنها نمط حياة يمارس فيه الفرد القليل من النشاط البدني أو لا يمارسه على الإطلاق. ويميل الأشخاص الذين يتبعون السلوكيات المستقرة إلى الجلوس أو الاستلقاء خلال عمل بعض الأنشطة كالقراءة، وألعاب الفيديو، ومشاهدة التليفزيون، واستخدام الهاتف الجوال أو الحاسوب. ولا يلبي 30٪ من البالغين و80٪ من المراهقين اليوم، الحد الأدنى من مستويات النشاط البدني اليومي للبقاء بصحة جيدة، على النحو الموصى به من قِبل منظمة الصحة العالمية (WHO).
ويُرجع الباحثون ذلك إلى الصراع بين إرادتنا العقلانية الواعية التي تود أن يصبح صاحبها أكثر نشاطًا، وإرادتنا الإندفاعية وبقايا تطورنا البيولوجي التي تدفعنا إلى الراحة، من أجل الحفاظ على طاقتنا للبقاء على قيد الحياة. إذ يبدو أن أدمغتنا لديها ميل طبيعي نحو الحفاظ على الطاقة.
يقول "بوريس تشيفال" -باحث ما بعد الدكتوراة، من كلية علم النفس والعلوم التربوية، جامعة جنيف بسويسرا، وباحث رئيسي بالدراسة- لموقع "للعلم": "كان الحفاظ على الطاقة أمرًا مهمًّا لأسلافنا من أجل زيادة احتمالات البقاء على قيد الحياة. وقد لاحظ الباحثون أن التقليل من استهلاك الطاقة مسؤول عن العديد من السلوكيات والسمات الشكلية عند البشر وغيرهم من الكائنات".
كما أضاف" ماثيو بويزجونتر"، باحث ما بعد الدكتوراة، من جامعة كولومبيا البريطانية، في كندا، وباحث رئيسي بالدراسة، أن هناك 1 من كل 4 أشخاص بالغين في جميع أنحاء العالم ( قرابة 1.5 مليار بالغ) لا يزالون غير نشطين، والعدد لا يزال يتزايد مع مرور السنين، موضحًا: "أردنا أن نفهم لماذا لا ينجح الناس الذين ينوون أن يكونوا نشطين جسديًّا في أن يكونوا كذلك".
الانجذاب التلقائي إلى الراحة
أجرى الباحثون اختبارًا طلبوا فيه من عدد من المشاركين الاختيار بين ممارسة الرياضة أو الامتناع عن ممارستها طلبًا للراحة والاسترخاء، وذلك بغرض رصد نشاط أدمغتهم في أثناء عملية اتخاذ القرار. إذ يترافق تجنُّب نمط حياة مستقر، يرنو إلى الراحة، مع مستويات عالية من مراقبة الصراع وتثبيطه من قِبَل الدماغ.
ثبَّت الباحثون أقطابًا كهربائية على أسطح أدمغة 29 شخصًا تتراوح أعمارهم بين 20 و26 عامًا ممن يمارسون الرياضة وممن هم غير نشطين بدنيًّا ولكن لديهم نية أن يصبحوا أكثر نشاطًا، وذلك لتسجيل النشاط الكهربائي في المخ عند التغيُّر في الجهد داخل الخلايا العصبية باستخدام تقنية تخطيط كهربية الدماغ (EEG).
وفرت تلك التقنية المعلومات لدراسة نشاط قشرة المخ عندما طُلب من هؤلاء الأشخاص تحريك شكل دمية على شاشة الكمبيوتر نحو الصور التي تمثل نشاطًا بدنيًّا، وبالتالي نقْلها بعيدًا عن الصور التي تصور الراحة، ثم طُلب منهم تنفيذ العكس.
يقول "بويزجونتر": "كان النشاط الكهربائي أعلى عندما تجنَّب المشاركون الصور التي تمثل الراحة أكثر من تجنُّبهم للنشاط البدني، خاصة في قشرة الفص الجبهي الأمامي الوسطى بالدِّماغ وقشرة الفص الأمامي المركزي".
ويشير إلى أن أبحاثًا سابقة أوضحت أن الأنشطة التي تسجل في قشرة الفص الجبهي الأمامي الوسطي تنتج عند مراقبة صراع في إدراك المعلومات التي تُرسَل إلى المخ.
يضيف "بويزجونتر" قائلًا: "نستنتج من هذا أن النشاط المتزايد الذي لاحظناه في هذه المنطقة الدماغية كان مطلوبًا لمراقبة الصراع بين النية لتكون نشطًا جسديًّا والانجذاب التلقائي للراحة".
ويستطرد: أما النشاط الذي لوحظ في قشرة الفص الأمامي المركزي فيتشابه مع مثيله من المؤثرات الخاصة بالتثبيط، لذا يستنتج الباحثون أن ما سجلوه كان مطلوبًا لمنع الانجذاب التلقائي إلى الراحة.
جميع الدراسات السابقة في هذا المجال كانت تستند إلى النتائج السلوكية، التي تظهر كاختلاف في أوقات ردود الفعل للمؤثرات فقط. "دراستنا هى الأولى لفحص الارتباطات العصبية من الميول التلقائية نحو النشاط البدني أو الراحة"، يقول تشيفال لـ"للعلم".
نزعة فطرية سلوكية
وتتماشى نتائج هذه الدراسة مع نظرية جديدة نُشرت في بداية هذا العام في الدورية العلمية جيرمان إكسرسيز أند سبورت German Journal of Exercise and Sport Research، تُعرف بالنظرية الانفعالية التأملية.
تقول النظرية إن ممارسة التمارين الرياضية قد تكون نتاجًا للتفاعلات بين قوى تقود إلى ممارستها وأخرى تقيد النشاط البدني وتدعو إلى الراحة.
يرى "رالف براند" -رئيس قسم علم النفس الرياضي وممارسة التمارين، بجامعة بوتسدام، ألمانيا، باحث مستقل لم يشارك بالدراسة، وهو أحد الباحثين الرئيسيين للنظرية الانفعالية التأملية- أن الدراسة تسلط الضوء على أحد الادعاءات المحورية لنظريته، وتضيف دليلًا مؤيدًا لها، وهو أنه على الرغم من أن العمليات الإدراكية الواعية قد تدفعك نحو سلوك أكثر عقلانية، وهو أن تكون نشيطًا جسديًّا لتحسين صحتك، فهناك قوى أخرى مضادة يمكن أن تعيدك إلى حالة الراحة، وقد تتمثل تلك القوة المضادة -كما هو الحال في هذه الدراسة- في نزعة فطرية سلوكية، هي الحفاظ على طاقة الجسم من أجل البقاء.
ويضيف "براند": "توفر الدراسة أدلة بيولوجية عصبية على أن التدخل النفسي لا ينبغي أن يركز حصريًّا على الدوافع التحفيزية -على سبيل المثال: تحديد الأهداف، والسلوك المتعمد- ولكن يجب أيضًا البدء في معرفة المزيد عن ردود الفعل التلقائية، واللاواعية، والاندفاعية، تلك العمليات التي تعوقنا عن العمل العقلاني المخطط له".
يأمل باحثو الدراسة أن يدرك الناس الآن أن عقولهم تنجذب تلقائيًّا إلى الراحة، وذلك استنادًا إلى النتائج التي توصلوا إليها في دراستهم، ومن ثَم عليهم تطوير إستراتيجيات لتجنُّب خداعهم من قِبَل دماغهم.
ويوضح "بويزجونتر" ذلك قائلًا: "إذا كان لدى الأشخاص النية في أن يكونوا نشيطين بدنيًّا، يجب ألا يسمحوا لدماغهم بتوجيههم إلى المصعد عند وجود درج إلى جواره. يجب أن يتحكموا في دماغهم ويقرروا أخذ الدرج".
وفيما يتعلق بالخطوات التالية للدراسة، قال "تشيفال" لـ"للعلم" إنه حصل مؤخرًا على تمويل لإجراء مشروع يهدف إلى التحقق من علاقة المخ بالسلوكيات المستقرة باستخدام تقنية التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI). وأضاف أنهم يعملون أيضًا على تطوير مقاربة بحثية تهدف إلى إعادة تدريب التفاعل العصبي التلقائي تجاه السلوكيات المستقرة من أجل تعزيز النشاط البدني.
اضف تعليق