إن مفهوم الفكاهة في حد ذاته مفهوم مراوغ. فعلى الرغم من أن الجميع يعرفون –بَداهةً- ما هي الفكاهة، وربما عرَّفتها القواميس ببساطة بأنها "سمة إثارة الضحك"، فمن الصعب تعريفها بطريقة تحيط بجميع جوانبها. فقد تثير الفكاهة ابتسامة بسيطة أو نوبة ضحك هستيرية، ويمكن نقلها عن طريق الكلمات، أو الصور، أو الأفعال....
بقلم جيوفاني ساباتو
" كم عالِم نفس يتطلب الأمر... لتفسير دعابة؟" اتضح أن الأمر يتطلب الكثير من علماء النفس. وبوصفه عالِم نفس، لاحظ كريستيان جاريت -في مقال عنوانه السؤال نفسه- أن العلماء لا يزالون يحاولون أن يفسروا الشيء الذي يثير ضحك الناس على وجه التحديد. وفي الواقع، فإن مفهوم الفكاهة في حد ذاته مفهوم مراوغ. فعلى الرغم من أن الجميع يعرفون –بَداهةً- ما هي الفكاهة، وربما عرَّفتها القواميس ببساطة بأنها "سمة إثارة الضحك"، فمن الصعب تعريفها بطريقة تحيط بجميع جوانبها. فقد تثير الفكاهة ابتسامة بسيطة أو نوبة ضحك هستيرية، ويمكن نقلها عن طريق الكلمات، أو الصور، أو الأفعال، ومن خلال الصور، أو الأفلام، أو القصص الفكاهية، أو المسرحيات، ويمكن أن تتخذ عدة أشكال مختلفة، بدءًا من دعابات بريئة إلى سخرية لاذعة، ومن حركات جسدية مضحكة وكوميديا رخيصة إلى تورية تحتاج إلى تفكير.
ومع ذلك، فقد أُحرِز قدرٌ من التقدم، وخرجت بعض الأبحاث من المختبر لتدرس الفكاهة في موطنها الطبيعي، الحياة اليومية.
أعظم الممثلين الكوميديين على الإطلاق: كان تشارلي تشابلن أحد آباء ورواد الكوميديا التهريجية التي تعتمد على الحركات الجسدية المضحكة. وقد طوَّر تشابلن الكوميديا التي يقدمها عبر صبغها بالكآبة والسوداوية والالتزام الاجتماعي
التعالي والتنفيس
افترض المثقفون طوال أكثر من ألفي عام أن جميع أشكال الفكاهة تشترك في مكوِّن مشترك. شغل البحث عن هذا الجوهر الفلاسفة في أول الأمر، ثم علماء النفس من بعدهم، وأولئك هم الذين أعطوا شكلًا رسميًّا للأفكار الفلسفية وترجموها إلى مفاهيم يمكن اختبارها.
ولعل أقدم نظرية للفكاهة، والتي يرجع تاريخها إلى أفلاطون وغيره من فلاسفة اليونان القدماء، هي تلك التي تفترض أن الناس يجدون الفكاهة في النسخ الأقدم من أنفسهم ويضحكون عليها، وفي مِحَن الآخرين بسبب شعورهم بالتفوق عليهم.
وقد أسفر القرن الثامن عشر عن ظهور نظرية التنفيس. وتفيد أفضل نسخة معروفة من النظرية -والتي صاغها فيما بعد سيجموند فرويد- بأن الضحك يتيح للناس التخلص من الضغوط أو التنفيس عن الطاقة العصبية المكبوتة. ووفقًا لفرويد، فإن هذه العملية تفسر السبب وراء قدرة الموضوعات القذرة المحرمة والجنسية والدعابات التي تتناول موضوعات اجتماعية وعرقية شائكة على إثارة ضحكنا. فعندما تأتي العبارة الأخيرة المثيرة للضحك، لا تصبح ثمة حاجة إلى الطاقة المبذولة في كبت المشاعر غير الملائمة مثل الشهوانية أو العدوانية، وتُفَرَّغ في صورة ضحك.
وثمة تفسير ثالث قديم للفكاهة، يتمثل في نظرية التعارض؛ فالناس يضحكون من تَقابُل المفاهيم المتناقضة ومن تحدي توقعاتهم، أي التعارُض بين التوقعات والواقع. ووفقًا لشكل مختلف من أشكال هذه النظرية يُعرف باسم «تعارُض الحل»، فإن الضحك ينتج عندما يكتشف الشخص حلًّا غير متوقع لتعارُض ظاهري، مثلما يحدث عندما يدرك المرء وجود معنًى مزدوج في جملةٍ ما، ومن ثم يراها من جانب جديد تمامًا.
نظرية الانتهاك الحميد
هذه التفسيرات وغيرها من التفسيرات تشير إلى شيءٍ ما، غير أنها لا تزال غير كافية؛ فهي لا تقدم إطارًا نظريًّا كاملًا يتضمن فرضيةً يمكن قياسها باستخدام معايير واضحة. كما أنها لا تفسر جميع أنواع الفكاهة؛ إذ لا يوجد تفسير منها يوضح على نحوٍ كامل جاذبية الكوميديا التهريجية الرخيصة. في عام 2010 في دورية «سايكولوجيكال ساينس»، طرح إيه. بيتر ماكجرو وكالِب وارين -وكلاهما كان يعمل في جامعة كولورادو بولدر آنذاك- نظريةً أطلقا عليها اسم «الانتهاك الحميد» لتوحيد النظريات السابقة وتناوُل حدودها. تقول ديليا كيارو، وهي عالِمة لغويات في جامعة بولونيا في إيطاليا: "إنها فكرة شيقة جدًّا".
تنشأ فرضية ماكجرو ووارين من نظرية التعارض، لكنها تذهب إلى ما هو أعمق. فهما يقترحان أن الفكاهة تنتج عندما يدرك المرء في آنٍ واحد أن ثمة انتهاكًا لمعيار أخلاقي، أو اجتماعي، أو مادي، وأن هذا الانتهاك ليس مهينًا، أو بغيضًا، أو مزعجًا إلى حدٍّ كبير. ومن ثم فإن الشخص الذي يرى أن الانتهاك ليس بالخطب الجلل سيضحك، في حين أن الشخص الذي يراه شائنًا، أو مقيتًا، أو غير شيق فحسب لن يضحك.
وقد أيدت نتائج تجريبية مستمدة من دراسات أجراها ماكجرو ووارين هذه الفرضية. تأمل -على سبيل المثال- قصة كنيسة تقبل المتطوعين المؤمنين عن طريق إدخال أي شخص ينضم إليها خلال الأشهر الستة المقبلة في سحب يانصيب على سيارة رياضية كبيرة متعددة الأغراض. حكم جميع المشاركين في الدراسة على الموقف بأنه متناقض، ولكن غير المؤمنين ضحكوا بسهولة عليه.
يمكن للدعابة أيضًا أن تكون نتيجة البُعد عن الموقف، زمنيًّا على سبيل المثال. ويُقال إن الفكاهة هي مأساة أُضيف إليها مرور الزمن، وقد دعم ماكجرو ووارين وزملاؤهما هذه الفكرة في عام 2012، مرةً أخرى في دورية «سايكولوجيكال ساينس». فقد يبدو تذكُّر محنة خطيرة (مثل حادث سيارة لم تكن له آثار دائمة تجعل ذكراه باقية) أكثرَ إثارةً للضحك مع مرور الوقت.
كذلك يُضفي البُعد الجغرافي أو الشعوري انفصالًا عن الحدث، مثلما يحدث عند النظر إلى الموقف على أنه تخيُّلي. ففي اختبار آخر، ضحك المتطوعون على صور مخيفة (كصورة رجل دخلت إصبعه في أنفه وخرجت من عينه) عندما قُدِّمَت لهم على أنها تأثيرات أضيفت ببرنامج فوتوشوب، لكنهم لم يضحكوا بالقدر نفسه عندما قيل لهم إن الصور حقيقية. وعلى النقيض من ذلك، ضحك الناس أكثر على المواقف الغريبة التافهة (مثل رجل ذي لحية مجمدة) عندما قيل لهم إنها حقيقية. ويقول ماكجرو إنه يبدو أن ثمة نقطة مُثلى للكوميديا يمكن الوصول إليها عند تحقيق التوازن الصحيح تمامًا بين مدى سوء أمرٍ ما ومدى بُعده.
نظرية تطورية
ومع ذلك يشوب نظرية الانتهاك الحميد بعض أوجه القصور؛ فهي تصف محفِّزات الضحك، ولكنها لا تصف -على سبيل المثال- الدور الذي أدته الفكاهة في النجاح التطوري للبشرية. وتحاول العديد من النظريات الأخرى –التي تحتوي جميعها على عناصر من مفاهيم أقدم– أن تفسر الفكاهة من منظور تطوري. ذكر جيل جرينجروس –عالِم الأنثروبولوجيا، الذي كان يعمل في جامعة نيو مكسيكو– أن الفكاهة والضحك يحدثان في جميع المجتمعات، وكذلك بين القرود، بل وحتى الفئران. يشير هذا الشيوع إلى وجود دور تطوري، مع أن الفكاهة والضحك ربما كانا ناتجًا ثانويًّا لعملية أخرى ضرورية من أجل البقاء.
في عدد صدر في عام 2005 من دورية «كوارترلي ريفيو أوف بيولوجي»، قدم عالِم الأحياء التطورية ديفيد سلون ويلسون وزميله ماثيو جيرفيس –اللذان كانا وقتها يعملان في جامعة بينجهامتون S.U.N.Y.– تفسيرًا للفوائد التطورية للفكاهة. ويُعتبر ويلسون من كبار أنصار الانتقاء الجماعي، وهي نظرية تطورية قائمة على الفكرة القائلة إنه في الأنواع الاجتماعية مثل البشر، يُفضل الانتقاء الطبيعي الصفات التي تدعم بقاء المجموعة، وليس فقط الأفراد.
طبق ويلسون وجيرفيس مفهوم الانتقاء الجماعي على نوعين مختلفين من الضحك البشري. يُعَد الضحك التلقائي، العاطفي، العفوي، غير المقصود تعبيرًا حقيقيًّا صادقًا عن البهجة والمرح، وهو رد فعل للعب والمزاح، ويظهر في ابتسامات الأطفال أو في أثناء اللعب الخشن أو الدغدغة. ويسمى هذا الشكل من الضحك بضحكة دوشين، نسبة إلى العالِم جيوم بنجامين آماند دوشين من بولونيا، الذي كان أولَ مَن وصفه في منتصف القرن التاسع عشر. وعلى النقيض، فإن الضحك غير الدوشيني هو محاكاة متكلفة وغير عاطفية للضحك العفوي. ويستخدم الناس هذا الضحك المصطنع بوصفه إستراتيجية اجتماعية متعمدة، كما يحدث على سبيل المثال عندما تقاطع ابتساماتهم وضحكاتهم نقاشات عادية، حتى حينما لا تكون تلك النقاشات مضحكةً في حد ذاتها.
ويقول الباحثان إن تعبيرات الوجه والمسارات العصبية التي تتحكم فيها تختلف في نوعي الضحك. ضحكة دوشين تنشأ في جذع المخ والجهاز الحوفي (المسؤول عن العواطف)، في حين يجري التحكم في الضحكة غير الدوشينية عن طريق المناطق الأمام حركية الإرادية (التي يُعتقد أنها تشارك في تخطيط الحركات) بالقشرة الأمامية. وتُعد الآليات العصبية متمايزةً للغاية، لدرجة أن مسارًا واحدًا فقط هو الذي يتأثر في بعض أنواع الشلل الوجهي. ووفقًا لويلسون وجيرفيس، فإن نوعي الضحك –والآليات العصبية القائمة وراءهما– تَطوَّرا في أوقات مختلفة. فالضحك التلقائي ترجع جذوره إلى ألعاب الرئيسيات المبكرة، وفي الواقع، فإنه يحمل خصائص مشتركة مع أصوات الحيوانات. ولعل الضحك الإرادي المتعمد تطور لاحقًا، مع تطور المحادثات العابرة، وحالات التحقير والاستهزاء في التفاعلات الاجتماعية.
وأخيرًا، يشير الباحثان إلى أن ضحك الرئيسيات انتُقي وتطور تدريجيًّا خلال التطور البيولوجي والثقافي للبشر في عدة مراحل. فمنذ ما يتراوح بين أربعة ملايين سنة إلى مليوني سنة مضت، صارت ضحكة دوشين وسطًا للعدوى العاطفية، وبمنزلة غراء اجتماعي لدى أسلاف البشر الذين انقرضوا منذ وقت طويل؛ فقد دعمت التفاعل بين أعضاء المجموعة في فترات الأمن والشبع. وكان ضحك أعضاء المجموعة استجابةً لما سمَّاه ويلسون وجيرفيس الفكاهة البدائية –أي الانتهاكات غير الجسيمة للأعراف الاجتماعية– مؤشرًا موثوقًا على فترات الراحة والأمان هذه، ومهَّد الطريق أمام مشاعر المزاح والهزل.
وعندما اكتسب الأسلاف اللاحقون مهارات إدراكية واجتماعية أكثر تعقيدًا، صارت ضحكة دوشين والفكاهة البدائية أساس الفكاهة في كل مظاهرها الأكثر تعقيدًا، وأساسًا لوظائف جديدة. أما الضحكة اللادوشينية –بجانبها المظلم– فتتسم بأنها إستراتيجية، ومحسوبة، بل حتى تهكمية، وعدوانية.
وعلى مر السنين، اقترحت نظريات إضافية تفسيرات مختلفة لدور الفكاهة في التطور، مشيرةً إلى أن الفكاهة والضحك من الممكن أن يؤديا دورًا في اختيار الشركاء الجنسيين، وتثبيط العدوانية والصراعات.
مزحات لوريل وهاردي المميزة هي نماذج لنوع من الأنواع الفرعية للكوميديا التهريجية يسمى الاشتعال البطيء Slow burn، وهو مصطلح يشير إلى موقف يتضمن واقعةً تبدو صغيرةً وتتفاقم دون توقُّف لتتحول إلى نهاية مفجعة
اكتشاف الأخطاء
يأتي أحد أحدث الاقتراحات في كتاب يتناول التفسير التطوري للفكاهة نُشِرَ في عام 2011 بعنوان: «جوهر الدعابة: استخدام الفكاهة لعكس هندسة العقل» Inside Jokes: Using Humor to Reverse-Engineer the Mind (MIT Press, 2011)، للمؤلفين ماثيو إم هرلي، من جامعة إنديانا يونيفيرسيتي بلومينجتون، ودانييل سي دِنيت (الفيلسوف البارز بجامعة تافتس) وريجينال آدامز جونيور، من جامعة ولاية بنسلفانيا. انبثق الكتاب من أفكار طرحها هرلي. كتب هرلي على موقعه على الإنترنت يقول إنه مهتم بأحد التناقضات. وأردف مفسرًا: "ترتبط الفكاهة بخطأ من نوعٍ ما؛ فكل تورية، أو مزحة، أو حدث كوميدي يبدو أنه يحتوي على أحمق ما، أي أضحوكة المزحة. وعادةً ما تكون الاستجابة الطبيعية هي الاستمتاع بالحماقة، وهذا "أمر مفهوم عندما يكون الأحمق عدوًّا أو منافسًا لك، ولكن ليس عندما يكون أنت أو أحد أحبائك". وقادته تلك الملحوظة إلى التساؤل: "لماذا نستمتع بالأخطاء؟"، وإلى افتراض أنه ليست الأخطاء في حد ذاتها هي ما يضحك الناس، بل ما سمَّاه "المكافأة العاطفية لاكتشاف الأخطاء ومن ثم إبطالها في الذهن. فنحن لا نستمتع باقتراف الأخطاء، بل نستمتع بتفاديها".
تكمن أطروحة هرلي في أن عقلنا يضع بصفة مستمرة تخميناتٍ عامةً بشأن ما سيحدث بعد ذلك وبشأن نوايا الآخرين. والفكرة هي أن الفكاهة نشأت من عملية التأكيد المستمرة هذه؛ فالناس يستمدون التسلية من اكتشاف التناقضات بين التوقعات والواقع عندما تكون التناقضات غير مؤذية، وتلك المتعة تجعلنا نستمر في البحث عن مثل هذه التناقضات. (على سبيل الفكاهة: "كنت أتساءل لماذا يكبر الصحن الطائر، ومن ثم اصطدم بي"). وإضافةً إلى ذلك، فإن الضحك علامة عامة على قدرتنا على تعرُّف التناقضات. إنه علامة ترفع من مكانتنا الاجتماعية، وتتيح لنا أن نجذب شركاء ذوي قدرة على التناسل.
وبعبارة أخرى، المزحة بالنسبة لحس الفكاهة مثل الكانولي (الممتلئة بالدهون والسكر) بالنسبة لحس التذوق. إنها محفز "فائق" يستثير دفقةً من المتعة الحسية، وفي هذه الحالة يحدث ذلك نتيجةً لاكتشاف الأخطاء. ولأن إدراك التناقضات يتطلب مخزونًا من المعرفة والمعتقدات، فإن مشاركة الضحك تشير إلى تطابق في الآراء العامة، والتفضيلات، والقناعات، وهو ما يعزِّز الروابط الاجتماعية، والشعور بالانتماء إلى المجموعة ذاتها. وكما أخبر هرلي عالِم النفس جاريت في عام 2013، فإن النظرية تذهب إلى ما هو أبعد من التنبؤ بما يبعث الناس على الضحك؛ فهي تفسر أيضًا القيمة الإدراكية للفكاهة ودورها في البقاء.
ومع ذلك، فكما أشار جرينجروس في مراجعة كتبها لكتاب «جوهر الدعابة»، فإنه حتى هذه النظرية تُعَد غير مكتملة؛ فهي تجيب عن بعض الأسئلة، لكنها تترك أسئلة أخرى دون جواب؛ فعلى سبيل المثال: "لماذا يتغير تقديرنا للفكاهة والمرح وفق حالتنا المزاجية أو غيرها من الحالات الظرفية؟".
ويتفق مع هذا الرأي جيوفان أنطونيو فورابوسكو، وهو عالِم نفس ومحرر في دورية إيطالية متخصص في دراسات الفكاهة (Rivista Italiana di Studi sull’Umorismo، أو اختصارًا RISU)، ويقول: "من المؤكد أننا لم نتوصل بعد إلى القول الفصل في المسألة".
أسئلة بلا أجوبة
ولا تزال هناك أسئلة أخرى. فعلى سبيل المثال، كيف يمكن التوفيق بين الوظائف المتضادة أحيانًا للفكاهة، مثل دعم الروابط الاجتماعية وإقصاء آخرين عن طريق السخرية منهم؟ وعندما يعزِّز الضحك مشاعر الارتباط الاجتماعي، فهل يُعَد ذلك التأثير وظيفةً أساسيةً للضحك أم مجرد نتيجة ثانوية لدور رئيسي آخر (كما أن تناوُل الطعام مع الآخرين يحمل قيمةً اجتماعيةً لا يمكن إنكارها، على الرغم من أن تناوُل الطعام يكون دافعه الأساسي هو الحاجة إلى التغذية)؟
ثمة الكثير من الأدلة على الوظيفة الأساسية. فقد بيَّن روبرت بروفاين -من جامعة ميريلاند في مقاطعة بالتيمور- في دورية «كارانت دايركشنز إن سايكولوجيكال ساينس» Current Directions in Psychological Science، على سبيل المثال، أن الناس يضحكون وهم بصحبة الآخرين أكثر مما يضحكون وهم بمفردهم بثلاثين ضعفًا. وفي بحثه، راقب هو وطلابه خلسةً الضحك التلقائي في أثناء ممارسة الناس أعمالَهم في بيئات مختلفة، من اتحاد الطلبة وحتى مراكز التسوق.
ويشير فورابوسكو إلى أنه ثمة بعض الارتباك بشأن العلاقة بين الفكاهة والضحك. يقول: "الضحك ظاهرة أكثر اجتماعية، وهو يحدث لأسباب غير الفكاهة، منها أسباب بغيضة. وإضافةً إلى ذلك، فإن الفكاهة لا تجعلنا نضحك دائمًا". ويشير فورابوسكو إلى المواقف التي يجري فيها القدح في شخصٍ ما، أو عندما يبدو تعليقٌ ما مضحكًا ولكنه لا يؤدي إلى الضحك.
ويتعلق أحد المجالات الأخرى الملحَّة المطروحة للنقاش بدور الفكاهة في الانجذاب الجنسي، وبالتالي في النجاح التناسلي. ففي أحد الآراء، فإن معرفة المرء كيف يكون مضحكًا هي علامة على صحة الدماغ وعلى امتلاكه جينات جيدة، وهذا يجتذب الشركاء بالتبعية. وقد وجد الباحثون أن الرجال أكثر ميلًا إلى أن يكونوا مضحكين، وأن الإناث أكثر ميلًا لتقدير حس الفكاهة، وهو ما يعني أن الرجال يتنافسون لجذب الانتباه، والنساء يقمن بعملية الاختيار. غير أن وجهات النظر تختلف بالطبع حول هذه النقطة.
بل إن ثمة جدالًا حتى حول وجاهة البحث عن نظرية موحدة للفكاهة. يقول فورابوسكو: "من الصلف أن نفكر في كشف سر الفكاهة بنظرية موحدة". ويضيف قائلًا: "لقد أصبحنا نفهم العديد من جوانب الفكاهة، وتسهم علوم الأعصاب حاليًّا في توضيح أمور مهمة. ولكن بالنسبة لجوهر الفكاهة، يشبه الأمر قولنا: "دعونا نعرِّف جوهر الحب". يمكننا أن ندرس الحب من زوايا عديدة مختلفة، ويمكننا أن نقيس تأثير رؤية الشخص المحبوب على ضربات قلب المحب، إلا أن ذلك لا يفسر الحب. والأمر نفسه ينطبق على الفكاهة. وفي الواقع، إنني دائمًا ما أتحدث عن الفكاهة عن طريق وصفها وليس محاولة تعريفها".
ومع ذلك فإن العلماء الذين يدرسون الفكاهة كلهم تقريبًا يتقبلون الآن بعض السمات المشتركة. ويشير فورابوسكو إلى إحدى هذه السمات، وهي عنصر إدراكي يتمثل في فهم التناقض. ويقول: "إنه أمر ضروري، ولكنه ليس كافيًا؛ لأن ثمة تناقضات غير مضحكة". لذا فإن علينا أن نبحث عن العناصر الأخرى. وفي تقديري، على سبيل المثال، فإن التناقض يحتاج إلى تخفيفه، من دون أن يُحَل بالكامل، بمعنى أنه يجب أن يظل غامضًا، أي أن يظل هناك شيء غريب لا يمكن تفسيره بالكامل قط".
ويمكن لعناصر إدراكية ونفسية أخرى أن تضيف بعض التأثير. يقول فورابوسكو إن هذه العناصر تتضمن سمات مثل العدوانية، والجنس، والسادية، والتشاؤم. ليس بالضرورة أن تكون هذه العناصر حاضرة، إلا أن أكثر المزحات إثارةً للضحك هي تلك التي تحتوي عليها. وبالمثل، يميل الناس إلى اعتبار أن الدعابات التي تكون "غاية في الذكاء والخبث" هي التي تحمل القدر الأكبر من الفكاهة.
يقول فورابوسكو: "ما الفكاهة؟ ربما سنعرف هذا بالضبط بعد 40 عامًا". ولعلنا نعرف نحن بعد أربعين عامًا لماذا كان يضحك وهو يقول هذا.
اضف تعليق