إن رسم الصور ومناقشتها مع المعالجين يساعد على تعزيز التفكير الذاتي لدى مرضى الاكتئاب، ويحفز أدمغتهم على إدراك ما يحدث خارج العقل الواعي، فقد أظهرت دراسة حديثة أن جلسات العلاج بالفن قد يكون لها دور في علاج الاكتئاب الشديد وغيره من الأمراض النفسية...
بقلم: تامر الهلالي
إن رسم الصور ومناقشتها مع المعالجين يساعد على تعزيز التفكير الذاتي لدى مرضى الاكتئاب، ويحفز أدمغتهم على إدراك ما يحدث خارج العقل الواعي، فقد أظهرت دراسة حديثة أن جلسات العلاج بالفن قد يكون لها دور في علاج الاكتئاب الشديد وغيره من الأمراض النفسية، أخضعت الدراسة المرضى المشاركين بها للعلاج بالفن من خلال استخدام الطباشير الملون، والألوان المائية، لممارسة الرسم وفق جدولٍ مُعَدٍّ سلفًا.
اعتمد الباحثون على علم الفينومينولوجيا، أو ما يُعرف بمنهج الظواهر، الذي يقوم على دراسة وعي الشخص بذاته وبعلاقته بالعالم الخارجي وخبرته بالأشياء المحيطة به، ووعيه بأن العالم ليس عالمًا من الأشياء فحسب، بل هو أيضًا عالَمٌ من القيم.
إذ جرى تقييم 8 عوامل علاجية رئيسية، هي الاستكشاف الذاتي، والتعبير عن الذات، والقدرة على التواصل مع الآخرين، وتفسير ما يقوله الآخرون، والتكامل، والتفكير الرمزي، والإبداع، والتحفيز الحسي. وبعد عشر جلسات من العلاج، استغرقت كلٌّ منها نحو الساعة، لاحظ المعالجون حدوث تحسُّن كبير في حالة المرضى، بالإضافة إلى حدوث طفرة كبيرة من التغيير في حياتهم اليومية، بصورة بلغت حد قدرتهم على العودة إلى العمل.
شملت عينة البحث 43 مريضًا يعانون من "الاكتئاب الشديد" أو "المعتدل"، تم إخضاعهم لجلسات علاج بالفن، تضمنت تمرينات صممتها "كريستينا بلومدال" الباحثة المتخصصة في مجال العلاج بالفن بمعهد الصحة وعلوم الرعاية بأكاديمية ساهلجرينسكا السويدية.
تقول بلومدال في تصريحات لـ"للعلم": "إن المرضى الذين خضعوا لجلسات العلاج بالفن أبدوا تحسُّنًا أكبر ممن لم يخضعوا لمثل تلك الجلسات".
العلاج بالرسم
بالتوازي مع هذا الأسلوب العلاجي، أُعطِيَ المشاركون مجموعاتٍ مختلفةً من الأدوية والعلاج السلوكي المعرفي، والعلاج النفسي الديناميكي والعلاج الطبيعي.
أشرف على العلاج الفردي بالفن معالجون متخصصون في هذا المجال. وكانت كل جلسة تبدأ بكلمة قصيرة يتحدث فيها المريض عن نفسه، ثم يمارس تمرينات الاسترخاء، قبل أن يخضع لجلسات العلاج بالرسم.
تقول بلومدال: "في كل جلسة، كنا نطلب من المشاركين رسم موضوع محدد. سمحنا لهم بالرسم والكشط والتردُّد والتراجع في التعبير عن أنفسهم بحرية وبالطريقة التي يريدونها، وطلبنا من كلٍّ منهم التحدث عن الصورة التي رسمها وأهميتها بالنسبة له".
وأضافت أنه جرى تقييم مجموعة من العوامل، كالقلق، والنوم، والقدرة على المبادرة والمشاركة العاطفية، بوصفها مؤشراتٍ للشفاء من الاكتئاب، مشددةً على أنها كلها عوامل شهدت تغيُّرات بين المشاركين الذين خضعوا لجلسات العلاج بالفن؛ وفي المقابل، لم يظهر أي تغير واضح بالنسبة للمجموعة الضابطة، التي ضمت 36 شخصًا يعانون الحالة الصحية نفسها، ولم يخضع أيٌّ منهم للعلاج بالفن.
لقاء مع النفس
تشير بلومدال إلى أن الصورة التي رسمها المريض كانت بمنزلة مرآةٍ تمكِّنه من رؤية نفسه وتَعرُّف جوانب شخصيته، موضحةً أن رسم الصور ومناقشتها مع المعالجين ساعد على تعزيز التفكير الذاتي لدى المرضى، وتحفيز الدماغ على إدراك ما يحدث خارج العقل الواعي، وفق وصفها.
من جهتها، ترى عائشة الرفاعي -أستاذ مساعد الطب النفسي السريري في كلية طب وايل كورنيل بقطر- في تصريحات لـ"للعلم" أن "أطروحة بلومدال تُعَد بمنزلة نموذج حيٍّ لتفعيل العلاج بالفن بشكل علمي دقيق"، مضيفةً أنه في المراحل الأولية من مشروعها، حددت بلومدال و18 من زملائها 8 عوامل علاجية رئيسية في المعالجة بالفن، كما وضعت دليلًا يحتوي على العوامل العلاجية التي يمكن التحقُّق منها، ما أتاح لها فرصة التأكد من أن كل دورة يتعرض لها المريض تلبي المعايير العلاجية التي يحتاجها.
وتوضح أن الباحثين اعتمدوا في دراستهم على المنهج الفينومينولوجي، وهو اختيار جذاب جدًّا؛ لأنه يتعلق بشخصية المريض أكثر من أي طريقة أخرى من طرق العلاج، كما اعتمدت منهجية البحث على عينة عشوائية تضم مجموعتين من المرضى، إحداهما المجموعة الضابطة. وأضافت أن الباحثة اختارت أن تعمل مع المرضى الذين يعانون الاكتئاب المعتدل والشديد، وهذا خيار مفهوم؛ لأنه يتيح لها فرصة أكبر لإثبات حجم فوائد العلاج بالفن بالنسبة للمرضى الذين يعانون درجاتٍ متطورةً جدًّا من الاكتئاب.
وشددت على أن "هذه الأطروحة تُسهم في معرفة قدرة العلاج بالفن على تسهيل التفكير والحوار الداخلي للمريض مع نفسه، وتعطي أيضًا نظرة ثاقبة على أهمية اختيار مواد فنية معينة وتكييفها وفقًا لحالة كل مريض".
وفي المقابل، ترى الرفاعي أن "الباحثة فشلت في توثيق النتائج التي توصلت إليها بدقة فيما يتعلق بإظهار فاعلية العلاج بالفن، وكان ينبغي توثيقها على نحوٍ أكثر دقةً وتفصيلًا".
سلاح ذو حدين
ويرى علي النبوي -استشاري الطب النفسي بجامعة الأزهر- أن العلاج بالفن سلاح ذو حدين، لكنه يكون مفيدًا إذا كان البرنامج المستخدَم مصممًا بشكل مناسب لحالة المريض، وهو ما فعله الباحثون السويديون، إذ استخدموا برنامجًا مُعَدًّا سلفًا، تضمن تحديد الموضوعات التي سيتم رسمها، فضلاً عن الاستعانة بمقاييس تصنيف الاكتئاب.
يضيف النبوي لـ"للعلم" أن "عملاً بسيطًا لا يزيد عن خربشة على الورق يمكن أن يكون بمنزلة علاج سحري، وأن يساعد على إقامة حوار بين الطبيب والمريض، إضافة إلى أنه وسيلة فعالة لتفريغ الاكتئاب"، على حد وصفه.
وتقول الرفاعي إن "العلاج بالفن يمكن أن يكون فعالًا للغاية، ولكنه لا يمارَس على نطاق واسع في منطقة الخليج، ونحتاج إلى جهد أوسع لتشجيع استخدامه بما يحقق صالح المرضى"، أمَّا بلومدال، فتعبر عن أملها بأن "تكون تلك الدراسة خطوة نحو إعادة تدريب مزيد من الناس على استخدام العلاج بالفن على نحوٍ فعال ومتطور".
اضف تعليق