لكي تكون الحِمية الغذائية مثالية، يلزم أن تكون مغذية، دونما إضرار بالموارد الطبيعية، والباحثون يجدُّون في محاولة التوصُّل إلى حمية تلائم مختلف بلدان العالم، من كينيا إلى السويد، على امتداد الساحل الكيني، بالقرب من منطقة كيليفي الواقعة شمالي مدينة مومباسا، تتناثر مجموعة صغيرة من قرى الصيد...
بقلم: جاياثري فيدياناثان
لكي تكون الحِمية الغذائية مثالية، يلزم أن تكون مغذية، دونما إضرار بالموارد الطبيعية، والباحثون يجدُّون في محاولة التوصُّل إلى حمية تلائم مختلف بلدان العالم، من كينيا إلى السويد.
على امتداد الساحل الكيني، بالقرب من منطقة كيليفي الواقعة شمالي مدينة مومباسا، تتناثر مجموعة صغيرة من قرى الصيد، ترتع في مياهها أسماك الببغاء، وأنواع من الأخطبوط، وغيرها من فصائل الكائنات البحرية الصالحة للأكل. وعلى الرغم من أن الأطفال في هذه القرى يعيشون على السواحل، فإنهم لا يتناولون الأطعمة البحرية إلا في القليل النادر؛ إذ إن وجبتهم الرئيسة هي «الأوجالي»، التي تُصنع من دقيق الذرة المخلوط بالماء، كما يعتمدون في المجمل على النباتات في التغذية. الجدير بالذكر أن حوالي نصف الأطفال في هذه المنطقة يعانون من التقزُّم، وهي نسبة تبلغ ضعف المعدل الوطني في كينيا.
وفي عام 2020، اشتركت لورا إيانوتي، الباحثة المتخصصة في مجال الصحة العامة بجامعة واشنطن في سانت لويس، مع زملائها من الباحثين الكينيين في سؤال سكان هذه القرى عن سبب عدم تناول أطفالهم الأطعمة البحرية، رغم اشتغالهم كآباء بمهنة صيد السمك، لاسيما أن الدراسات قد أثبتت أن الأسماك، وغيرها من الأطعمة ذات الأصل الحيواني، تحفِّز النمو1 أجاب الآباء بأن بيع ما يصطادونه من أسماك ينفعهم – من الناحية المادية – أكثر من أكله.
ومن هذا المنطلق، تعكف إيانوتي حاليًا، بمعاونة فريقها، على إجراء تجربة مقارنة: أعطى الباحثون الصيادين فخاخ صيد، جرى تعديلها بحيث تحتوي على فتحات صغيرة تسمح بإفلات الأسماك التي لا تزال في طور النمو؛ بُغية تعزيز صحة الكائنات البحرية التي تعيش في مياه المحيط التي تتعرض للصيد الجائر بمرور الوقت، وكذا تحسين أنماط تكاثرها، ومن ثم زيادة دخل أهالي تلك القرى، وفقًا لإيانوتي. كما جرى تنفيذ خطوة أخرى، تستهدف نصف عدد أُسر الصيادين، تتمثل في قيام العاملين في مجال الصحة المجتمعية بزيارات منزلية إلى تلك الأُسَر، والمشاركة في فعاليات إعداد الطعام، وتوصيل الرسائل التي من شأنها تشجيع الآباء على إطعام أولادهم كميات أكبر من الأسماك، خاصةً الأنواع المحلية الوفيرة، سريعة النمو، مثل سمكة «الصافي»، المعروفة أيضًا بسمكة الأرنب ذات النقط البيضاء Siganus canaliculatus، بالإضافة إلى أنواع من الأخطبوط. بعد ذلك، سوف يتتبع العلماء مدى تحسُّن الحمية الغذائية وطول القامة لدى أطفال هذه الأسر، مقارنةً بأقرانهم ممن لم تستهدفهم التجربة.
تقول إيانوتي إن التجربة تهدف إلى فهم "أي الأطعمة البحرية ينبغي اختيارها للحفاظ على النظام الإيكولوجي من جهة، وتوفير غذاء صحي من جهةٍ أخرى". وتضيف الباحثة إن الحمية الغذائية المقترحة يجب أن تحظى بقبول الثقافة المحلية، وتكون مناسبة لقدرته الشرائية.
تشتبك إيانوتي مع عدد من الأسئلة التي تستحوذ على اهتمام مجتمع الباحثين، وهيئة الأمم المتحدة، والممولين الدوليين، وعديدٍ من الشعوب التي تبحث عن حِميات غذائية مفيدة للإنسان، وغير ضارة بالكوكب. الجدير بالنظر أن أكثر من ملياري شخص يعانون من زيادة الوزن أو السمنة، أغلبهم في الغرب، في الوقت الذي يعاني فيه 811 مليون شخص، يعيش أكثرهم في البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، من نقص السعرات الحرارية اللازمة للنمو، وسوء في التغذية. وقد ساهمت الحِميات الغذائية غير الصحية في ارتفاع نسبة الوفيات على مستوى العالم في عام 2017 أكثر من أي عامل آخر، بما في ذلك التدخين2. وباستمرار زيادة عدد السكان في العالم، وشروع المزيد منهم في اتباع الحمية الغذائية الغربية، لابد من زيادة معدل إنتاج اللحوم والألبان والبيض بنسبة 44% تقريبًا بحلول عام 2050، وذلك وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو).
من شأن ذلك أن يتسبب في إحداث مشكلة بيئية، تُضاف إلى المخاوف الصحية؛ ذلك الحِمية الغذائية المتبَعة حاليًا، والتي تعتمد في أساسها على الغذاء المُصنَّع، تتسبب بالفعل في إطلاق حوالي ربع انبعاثات غازات الدفيئة حول العالم. وبالإضافة إلى ذلك، يترتب على اتباع هذه الحِمية استهلاك 70% من المياه العذبة، و40% من الغطاء الأخضر في جميع ربوع العالم. زِد على ذلك أن الزراعات تعتمد على الأسمدة، التي تعطل دورة النيتروجين والفسفور في الطبيعة، وتتسبب في أغلب حالات التلوث في الأنهار والسواحل.
في عام 2019، أصدرت لجنةٌ مؤلَّفة من مؤسسة «إيت» EAT ودورية «ذا لانسيت» The Lancet، هي «لجنة إيت-لانسيت المعنية بالغذاء والصحة وسلامة الكوكب»، التي تضم 37 أخصائيًا في علم التغذية وعلوم البيئة وخبراء آخرين من 16 دولة – أصدرَت تقريرًا4 يدعو إلى إحداث تغييرات شاملة في الحِميات الغذائية، بحيث تراعِي سلامة الغذاء والبيئة على حدٍّ سواء. الشخص الذي يتبع الحمية الغذائية القائمة على توصيات هذه اللجنة سيتحوَّل إلى «شبه نباتي» flexitarian؛ إذ يتناول الأطعمة نباتية المصدر في معظم أيام الأسبوع، ولا يتناول من اللحوم أو الأسماك إلا مقدارًا محدودًا بين الحين والحين.
أثار التقرير عاصفة من الاهتمام تجاه الحِميات الغذائية المستدامة، كما أنه وُوجه ببعض الانتقادات، دارت في غالبيتها حول مدى صلاحيته للتطبيق على أرض الواقع بالنسبة إلى جميع الفئات. وحاليًا، يحاول بعض العلماء اختبار الحِميات المستدامة بيئيًا في سياقات محلية، دون الإضرار بسلامة التغذية أو سبل العيش.
يرى سام مايرز، مدير «تحالف صحة الكوكب» Planetary Health Alliance، وهو تحالف عالمي مقره مدينة بوسطن بولاية ماساتشوستس، ويُعنى بدراسة آثار التغير البيئي على الصحة، أننا "في حاجة إلى إحراز تقدم في بحث الحِميات الغذائية التي تقلل بشكلٍ ملحوظ من آثار التدخُّل البشري على الأنظمة الإيكولوجية، وإلا ففي غضون بضعة عقود، سنشهد انهيارات على الصعيد العالمي في التنوع البيولوجي، وإمكانية استغلال الأراضي، وفي كل شيء".
مع الغذاء تأتي الانبعاثات
تسهم عمليات إنتاج الطعام بنسبةٍ لا بأس بها في انبعاث غازات الدفيئة5 إلى حد أن المعدل الحالي للانبعاثات يشير إلى استمرار عجز البلدان عن الإبقاء على مستويات الاحترار العالمي دون مستوى 1.5 درجة مئوية، وفقًا للهدف الذي نصت عليه «اتفاقية باريس للمناخ»، حتى وإن نجحت البلدان في التخلُّص من جميع الانبعاثات التي لا يسببها إعداد الطعام، وصولًا بها إلى الصفر. ونسبة كبيرة من الانبعاثات الناتجة عن منظومة إنتاج الغذاء (30 إلى 50% بحسب بعض التقديرات) تنجُم عن سلسلة الإمداد الخاصة بنشاط تربية الماشية، نظرًا لعدم كفاءة النُّظم المتبَعة في تحويل الحيوانات من مرحلة الإطعام إلى مرحلة الطعام.
وفي عام 2014، قدّر ديفيد تيلمان، أستاذ الأنظمة الإيكولوجية بجامعة مينيسوتا الأمريكية، ومقرها مدينة سانت بول، ومايكل كلارك، العالم المتخصص في الأنظمة الغذائية بجامعة أوكسفورد بالمملكة المتحدة، أن التغيرات المتعلقة بالمد الحضري والنمو السكاني في العالم في الفترة الممتدة بين عامي 2010 و2050 من شأنها أن تزيد الانبعاثات ذات الصلة بالغذاء بنسبة 80%.
ولكن إذا اتبع الأشخاص، في المتوسط، حِمية تعتمد اعتمادًا أكبر على النباتات، جنبًا إلى جنب مع إيقاف مسببات الانبعاثات الأخرى، فسوف تسنح للعالم فرصة تحقيق هدف البقاء دون مستوى 1.5 درجة مئوية لمواجهة تغير المناخ، وذلك بنسبة نجاح تبلغ 50%5 وإذا حدث تحسُّن على صعيد الحِميات الغذائية، بالتوازي مع تطبيق تعديلات أكبر على منظومة التعامل مع الغذاء بوجه عام، مثل الحد من إهدار الطعام، فسوف تقفز نسبة نجاح تحقيق هذا الهدف المنشود إلى 67%.
على أن هذه النتائج لا تحظى بالاستحسان في أوساط صناعة اللحوم. فعلى سبيل المثال، في عام ،2015 عندما كانت وزارة الزراعة الأمريكية بصدد إعادة النظر في إرشادات الحِمية الغذائية التي تصدرها كل خمس سنوات، لم تتعرض للعوامل البيئية إلا لمامًا، وحتى ذلك لم يكن ليتم لولا الضغوط التي مارسها الباحثون على اللجنة الاستشارية. ولكن وفقًا لتيموثي جريفين، باحث الأنظمة الغذائية بجامعة تافتس بمدينة بوسطن الأمريكية، وأحد المشاركين في جهود الضغط على اللجنة لإدراج العوامل البيئية في الإرشادات، أُغفِلَتْ هذه الفكرة، وسط مزاعم بأن هذا الإغفال إنما تمَّ استجابةً لضغوط مارسها العاملون في مجال صناعة اللحوم. ومع ذلك، استطاعت هذه المحاولة لفت الأنظار إلى هذه الزاوية. يقول جريفين: "الإنجاز الأكبر تمثَّل في أن هذه المحاولة سلطت الضوء على قضية الاستدامة".
وقد ساعدت «لجنة إيت-لانسيت»، المموَّلة من «مؤسسة ويلكم» Wellcome الخيرية التي يقع مقرها في المملكة المتحدة، على تعضيد موقف الباحثين. فقد راجع إخصّائيو التغذية الأدبيات العلمية ذات الصلة، سعيًا إلى استحداث حِمية غذائية بسيطة وصحية، تقوم على الحبوب الكاملة. بعد ذلك، وضع الفريق حدودًا بيئية للحِمية المقترحة، شملت تأثيرها في انبعاثات الكربون، وفقدان التنوع البيولوجي، واستهلاك المياه العذبة، واستغلال الأراضي، وكذا استهلاك النيتروجين والفسفور؛ وهي الحدود التي قد يؤدي تخطِّيها إلى فقدان كوكب الأرض صلاحيته للعيش الآدمي.
توصل متخصصو التغذية إلى وضع خطة للوجبات الغذائية، تتسم بالتنوع، وتعتمد أساسًا على النباتات (انظر: «طعام صحّي»). ففي الحمية القائمة على استهلاك 2500 سعر حراري في اليوم، تبلغ الكمية القصوى المسموح بها من اللحم الأحمر للفرد معتدل الوزن، والبالغ من العمر 30 عامًا، 100 جرام، أو ما يعادل قطعة واحدة من اللحم الأحمر، وهذا المقدار يبقى أقل من رُبع ما يتناوله الفرد الأمريكي، في المتوسط. كما يتجنب الفرد، في هذه الحِمية، أغلب الأطعمة المصنَّعة التي خضعت لمعالجة تصنيعية شديدة، مثل المشروبات الغازية، والوجبات المجمدة، واللحوم المُعاد تصنيعها، والسكريات، والدهون.
وحسب تقديرات «لجنة إيت-لانسيت»، فإن هذه الحمية الغذائية من شأنها أن تنقذ حياة حوالي 11 مليون شخص كل عام4 يقول تيم لانج، الباحث في السياسات الغذائية في جامعة سيتي بلندن، وأحد المشاركين في وضع تقرير اللجنة، إن "من الممكن إطعام عشرة مليارات شخص بطريقة صحية دون التسبب في إحداث مزيد من الدمار للأنظمة الإيكولوجية. وأما بالنسبة لمن يتخذون موقفًا متعنِّتًا في مناصرة صناعة اللحوم والألبان، فإنهم – شاؤوا أم أبَوا – أصبحوا في موقف ضعفٍ في مواجهة التغيير الذي بات حتميًا".
يذهب عديد من العلماء إلى أن الحمية التي اقترحتها «لجنة إيت-لانسيت» تناسب البلدان الغنية، التي يتناول الفرد العادي فيها اللحوم بما يعادل 2.6 أمثال ما يتناوله نظيره في البلدان ذات الدخل المنخفض، والتي لا تتسم العادات الغذائية فيها بالاستدامة. ولكن بعض العلماء يتساءلون عما إذا كانت هذه الحمية مغذيةً بالقدر الكافي لمن يعيشون في بيئات فقيرة الموارد. فقد حلل تاي بيل، باحث التغذية الذي يقيم في مدينة واشنطن العاصمة، ويعمل مع التحالف العالمي لتحسين التغذية (GAIN)، الحِمية المقترحة عن طريق حسابات غير منشورة، واكتشف أنها تمُد جسم الشخص الذي يزيد عمره على 25 عامًا بنحو 78% من النسبة الموصَى بها من الزنك، و86% من الكالسيوم، بينما لا تمد جسم المرأة في عمر الخصوبة إلا بنسبة 55% من احتياجها من الحديد، "من الممكن إطعام عشرة مليارات شخص بطريقة صحية دون التسبب في إحداث مزيد من الدمار للأنظمة الإيكولوجية"، ورغم هذه الآراء التي تقف من الحمية المقترحة موقف المنتقِد، إلا أنها قد نجحت في دفع المخاوف البيئية إلى الواجهة، ووضعها في بؤرة الاهتمام. تقول آن إليس ستراتون، الباحثة المتخصصة في الأنظمة الغذائية في جامعة ميشيجان بمدينة آن آربر: "حتى صدور تقرير «لجنة إيت-لانسيت»، لا أعتقد أن صانعي السياسات كانوا قد خطر لهم إدراج الاستدامة على قائمة أولويات هذا الخطاب العالمي بشأن تغيير الحِميات الغذائية"، وكما يؤكد ماركو سبرينجمان، الباحث المتخصص في شؤون الغذاء بجامعة أوكسفورد، وعضو فريق النمذجة الخاص التابع للجنة «إيت-لانسيت»، فإن الحِمية المقترحة لا يوصى بها بوصفها نموذجًا موحدًا يصلُح لجميع.
منذ أن نُشر التقرير، يعكف باحثو الصحة العامة في جميع أنحاء العالم على دراسة كيفية تطبيق الحِمية المقترحة على أرض الواقع في العالم أجمع، وعلى الفئات كافة، من البالغين الذين يعانون من زيادة الوزن، حتى الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية.
حِميات غنية
يعي باحثو علم التغذية أن معظم الأشخاص لا يتبعون إرشادات التغذية. لذا، يحرص العلماء على استكشاف طرق لإقناع الناس باتباع حِميات صحية ومستدامة. ففي السويد، تعكف باتريشيا يوستاشيو كولومبو، الباحثة في علم التغذية بمعهد كارولينسكا في ستوكهولم، بمعاونة زملائها، على اختبار حِمية غذائية مستدامة في المدارس. هذه الحِمية مستلهَمة من حركة اجتماعية بدأت في البلدان الاسكندنافية، تسمَّى «حمية الشَّمال الجديدة» New Nordic Diet، بهدف الترويج لتناول الأطعمة التقليدية المستدامة، مثل الخضراوات الموسمية، ولحوم الحيوانات المُربَّاة في الهواء الطلق.
بمعاونة زملائها، استعانت كولومبو بإحدى الخوارزميات الحاسوبية لتحليل وجبات الغداء التي تقدَّم لتلاميذ مدرسة ابتدائية تضم حوالي ألفَي تلميذ. واعتمادًا على هذه الخوارزمية، أمكن ابتكار طرق لجعل الوجبات مغذية أكثر، وأخفّ تأثيرًا على المناخ، مثل تقليل كمية اللحوم المقدمة في وجبة حساء تقليدية، مع إضافة المزيد من البقوليات والخضراوات. وتقول الباحثة إن الأطفال وأولياء أمورهم قد أُخطروا بإجراء تعديلات على وجبات التغذية، ولكن دون ذِكر تفاصيل. لم يلحظ معظم الأطفال ما حدث من تغيير في وجباتهم، وقلَّت معدلات هدر الطعام عما كان يحدث في السابق9. والتجربة نفسها تطبَّق الآن على 2800 طفل.
تقول كولومبو إن "وجبات المدارس فرصة سانحة وفريدة من نوعها لتعزيز العادات الغذائية المستدامة؛ ذلك أن العادات الغذائية التي تنشأ في الصغر عادةً ما تبقى معنا في الكِبَر"، وأضافت الباحثة أن الحِمية المقترحة هنا تختلف اختلافًا كبيرًا عن نظيرتها التي طرحتها «لجنة إيت-لانسيت»، حيث إن تكلفتها أقل، وتكثر فيها المواد النشوية، كالبطاطس التي لا غنى عنها في المطبخ السويدي. يُضاف إلى ذلك أنها تحمل قيمة غذائية أكبر، كما أنها تحظى بدرجة أعلى من القبول في المجتمع السويدي. تقول كولومبو: "هذا يسلط الضوء على أهمية تطويع الحمية الغذائية المقترحة من قِبل «لجنة إيت-لانسيت»، بحيث تلائم الظروف المحلية في كل بلد، أو حتى في الأجزاء المختلفة من البلد الواحد".
وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، في الولايات المتحدة، يقوم بعض الأكاديميين وأصحاب المطاعم بمحاولة تجربة الحمية الغذائية المقترَحة في الأماكن التي يرتادها ذوو الدخل المنخفض. ففي مدينة بالتيمور، بولاية ميريلاند الأمريكية، تعاونت إحدى شركات الخدمات التموينية مع أحد المطاعم، بعد أن اضطر كل منهما إلى إيقاف نشاطه أثناء جائحة «كوفيد-19»، ثم بدآ في تلقي التبرعات وتوفير وجبات مجانية تعتمد على الحمية المقترحة من قِبل «لجنة إيت-لانسيت» للأسر التي تعيش في المناطق التي يُطلق عليها «صحاري الطعام»، حيث لا يستطيع الأشخاص الحصول على الطعام المغذي قليل التكلفة. تكوَّنت إحدى تلك الوجبات من كعك السلمون، مع خضراوات الموسم المشكَّلة، والكسكسي، وصلصة البيستو ذات القوام الكثيف (الكريمي).
وأجرى عدد من الباحثين في كلية الطب بجامعة جونز هوبكنز، في بالتيمور، دراسة شملت 500 شخص ممن جربوا تلك الوجبات، وكانت النتيجة أن 93%، من بين 242 شخصًا شاركوا في الدراسة، أفادوا بأنهم قد استقبلوا هذه الوجبات بالإعجاب أو الحب الشديد10. غير أن هذه التجربة لا تخلو من المثالب؛ إذ تتكلف كل وجبة معدَّة من أموال التبرعات عشرة دولارات أمريكية، وهو ما يعادل خمسة أمثال المبلغ الذي يوفره برنامج المساعدات الغذائية في أمريكا، المعروف باسم «فود ستامب» food-stamp في الوقت الحالي، ويقول جريفين: "يتضح جليًّا أنك إذا أدخلتَ تغييرًا جذريًا على الحِميات الغذائية، فبإمكانك قلب المعادلة البيئية للأفضل، ولكن ستحول دون ذلك الحواجز الثقافية والعراقيل الاقتصادية".
عوائق وتحديات
إحدى العقبات التي تعترض سبيل الباحثين الذين يعملون على استحداث حِميات غذائية مستقبلية، موجهة لشعوب البلدان ذات الدخل المنخفض أو المتوسط، تتمثل في معرفة الأطعمة التي يفضّل الناس تناولها في المقام الأول. تقول بورنيما مينون، الباحثة التي تعكف على دراسة الحِميات الغذائية الهندية بالمعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية في دلهي بالهند: "هذا من الأمور التي تستغلق على الفهم حقًا؛ إنه أشبه بالصندوق الأسود حرفيًا". وفي توضيح ذلك، تقول مينون إن البيانات المتاحة عما يتناوله الناس لم تُحَدَّث منذ عشر سنوات.
وعليه، فإن الحصول على تلك المعلومات أمر جوهري، حيث تحتل الهند المركز 101، من بين 116 بلدًا في «مؤشر الجوع العالمي»، وتضم أكبر عدد من الأطفال الذين يعانون من النحافة المفرطة، قياسًا إلى الطول، وقد اعتمد كل من أبهيشيك تشودهاري، باحث الأنظمة الغذائية بالمعهد الهندي للتكنولوجيا في كانبور، وأحد أعضاء فريق «لجنة إيت-لانسيت»، وزميله فايبهاف كريشنا، بالمعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيوريخ، على الإمكانات المتاحة لهما في استخدام أحد الأدوات البرمجية، بالإضافة إلى البيانات البيئية المحلية عن المياه، والانبعاثات، واستغلال الأراضي، واستخدام الفسفور والنيتروجين لتصميم حِميات تناسب جميع الولايات الهندية. وقد طرحت الخوارزمية المستخدَمة في ذلك أفكارًا لحِميات يمكنها أن تلبي الاحتياجات الغذائية للفرد، من جهة، وتحُد من الانبعاثات التي يتسبب فيها تحضير الغذاء بنسبة 35%، من جهةٍ أخرى، وتخفف الضغط على الموارد البيئية الأخرى، من جهةٍ ثالثة. ولكن زراعة الكمية المطلوبة من الغذاء الصحي تتطلب إما أرضًا أوسع نطاقًا بنسبة 35%، وهو ما يصعب تحقيقه عمليًا في هذا البلد المكدس بالسكان، أو تكثيف الزراعة. بالإضافة إلى ذلك، ستزيد تكاليف الغذاء بنسبة 50%11.
على أن الهند ليست استثناءً في ذلك؛ إذ ترتفع تكلفة الحِميات الصحية المستدامة في سائر بلدان العالم. فبحسب إيانوتي، يستحيل على الملايين من الناس تحقيق التنوُّع الغذائي المقترح في حمية «لجنة إيت-لانسيت»، بالحصول على المكسرات، والأسماك، والبيض، ومنتجات الألبان، وغيرها.
وفي واقع الأمر، لكي يُتاح للشخص العادي اتباع الحمية المقترحة في عام 2011 (وهو العام الذي تتوفر عنه أحدث البيانات المتاحة عن أسعار المواد الغذائية)، كان عليه أن يتكلف مبلغًا مقداره 2.84 دولار أمريكي في اليوم الواحد، وفقًا للمعدل العالمي، وهو ما يعادل 1.6 متوسط تكلفة وجبة مغذية أساسية.
وهنا، تلزم الإشارة إلى بعض الخصائص غير العملية لأنماط التغذية المستدامة. فهناك، على سبيل المثال، القيود المفروضة على اللحوم. تذهب إيانوتي في تفسير ذلك إلى أن المناطق التي تعاني من نقصان الأصناف الغذائية الموصَى بها في نظام «لجنة إيت-لانسيت»، تعتبر فيها المنتجات ذات الأصل الحيواني مصدرًا مهمًا للغذاء الذي يمكن توفيره حيويًا، جنبًا إلى جنب مع النباتات. ويقول جيمي سميث، المدير العام للمعهد الدولي لبحوث الثروة الحيوانية في العاصمة الكينية نيروبي، إن العديد من البلدان ذات الدخل المنخفض تطبِّق أنظمة الزراعة على نطاقات محدودة، وهي موزَّعة بين المحاصيل الغذائية، والنباتات الضرورية لتغذية الحيوانات المنزلية والداجنة، التي يمكن للأسرة بيعها في أوقات الحاجة.
وأضاف سميث: "في المرتفعات الإثيوبية، يربي الفلاح الذي يعمل في مزارع إنتاج الألبان ثلاثة حيوانات، أو أربعة، في الحظيرة الملحقة بمنزله، وكل حيوان بمثابة فرد من أفراد أسرته، حتى أنه يختار له اسمًا".
وتقول مينون إن العلماء في المناطق ذات الدخل المنخفض والمتوسط يُولُون توفير الطعام المغذي اهتمامًا أكبر من الحفاظ على البيئة. وقد شكلت منظمة «الفاو» لجنة لإعادة التحليل الذي أجرته «لجنة إيت-لانسيت»، بحسب إيانوتي عضوة اللجنة، ليصبح أكثر شمولًا لدول العالم أجمع، وسوف يُنشَر التقييم العالمي في هذا الشأن في عام 2024. وتضيف قائلةً: "لدى أعضاء اللجنة شك في مدى توازن التحليل، وشموليته في استعراض الأدلة. فعلينا توسيع دائرة البحث، ونحرص على الإتيان بالأدلة من جميع أنحاء العالم".
يقول العلماء إن السبيل إلى اكتشاف حِميات غذائية مستدامة في البلدان الفقيرة إنما يكمن في التعاون الوثيق مع الأهالي والمزارعين، وليكن في منطقة كيليفي الكينية على سبيل المثال. ويرى كلارك، الذي وضع تصورًا لحمية غذائية يمكن تطبيقها على المستوى العالمي، مستعينًا على ذلك بالتوقعات التي خلُصت إليها النماذج، أن علماء الأنظمة الغذائية يحتاجون في الوقت الحالي إلى معرفة التعديلات والتصويبات الواجب إدخالها على المستوى المحلي، لحث الناس على تحسين حِمياتهم الغذائية.
يقول كلارك: "العاملون في مجال استدامة الأغذية في حاجة إلى الغوص داخل المجتمعات المحلية، وسؤال أفرادها عما هو أفضل لهم. بعد ذلك، وبناءً على هذا الأساس، ينبغي التفكير في كيفية البدء في العمل على تحقيق نتائج تكون أقدر على جذب اهتمام تلك المجتمعات".
اضف تعليق