يبدو إن الحنين إلى الماضي أصبح ظاهرة ملفته للأنظار، فليس غريباً ولا عيباً أن يمتلك الكثير منا طاقات ومخزوناً هائلاً من الحنين إلى الماضي فهي ميزة يمتاز بها الإنسان عن باقي الكائنات، تكمن خطورة \"النوستالجيا\" في التحول من الحالة السوية للانسان إلى حالة مرَضية ومعطلة...

يبدو إن الحنين إلى الماضي أصبح ظاهرة ملفته للأنظار، فليس غريباً ولا عيباً أن يمتلك الكثير منا طاقات ومخزوناً هائلاً من الحنين إلى الماضي فهي ميزة يمتاز بها الإنسان عن باقي الكائنات، تكمن خطورة "النوستالجيا" في التحول من الحالة السوية للانسان إلى حالة مرَضية ومعطلة لكل الطاقات والإمكانات التي يمتلكونها، قد تتحول من نعمة إلى نقمة في محاولة يائسة لتحويل حضورنا في هذا العالم وعلى الاصعدة كافة إلى ما يشبه الكائن الذي يرفض الخروج من شرنقته خوفاً من مواجهة العالم، نفخر بماضينا ونحترمه نعم، فهذا ليس كل شيء، لابد أن ندرك ونعي ما كنا عليه في الماضي مسألة تبدو في غاية الأهمية، والأهم إدراك ما نحن عليه الآن وما نطمح له في المستقبل.

النوستالجيا

(باليونانية القديمة νόστος «الشوق» y ἄλγος «ألم») هو مصطلح يستخدم لوصف الحنين إلي الماضي، أصل الكلمة يرجع إلي اللغة اليونانية إذ تشير إلي الألم الذي يعانيه المريض إثر حنينه للعودة لبيته وخوفه من عدم تمكنه من ذلك للأبد، تم وصفها علي انها حالة مرضية أو شكل من اشكال الاكتئاب في بدايات الحقبة الحديثة ثم أصبحت بعد ذلك موضوعا ذا اهمية بالغة في فترة الرومانتيكيه، في الغالب النوستالجيا هي حب شديد للعصور الماضية بشخصياتها واحداثها.

لماذا نحب الماضي؟

هل تساءلت يوماً عن سر ما يدعى "الحنين"؟، عن سر ذلك الشعور الذي يطاردك عندما تزور بيتك القديم الذي شهد أيام طفولتك أو شبابك، تلك الرائحة المألوفة، ذاك الاطمئنان الذي تشعر به عندما تذهب إلى مكانٍ من الماضي، غرفتك القديمة، الصور العائلية، متعلقاتك الشخصية القديمة، هل جربت يوماً أن يلتقطك الخيال إلى زمنٍ قد انقضى بالفعل ولكنك تنتمي إليه بكل جوارحك؟ زمن الطفولة الخالي من المسؤوليات والمخاوف، الراحة وتلك الأيام الدافئة، عندما كان كل شيء جيد وكان الجميع سعداء! وتتمنى لو أنك تستعيد تلك الحياة ولو للحظات… أنت هنا في حالة "نوستالجيا".

"النوستالجيا" كمفهوم هي "لحنين إلى ماضي مثالي"، أو هي حالة عاطفية نصنعها نحن في إطارٍ معين وفي أوقات وأماكن معينة، أو يمكن وصفها بأنها عملية يتم فيها استرجاع مشاعر عابرة ولحظات سعيدة من الذاكرة وطرد جميع اللحظات السلبية، والجدير بالذكر أن نسبة 80% من الناس يشعرون بالنوستالجيا مرة على الأقل أسبوعياً.

الوحدة تخلق النوستالجيا

يقول الخبراء أن النوستالجيا هي آلية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية، لذا فإنها تكثر في حالات الملل أو الشعور بالوحدة خاصة عن كبار السن، أي عند شعور الإنسان بأن حياته فقدت قيمتها وأصبحت تتغير للأسوأ، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي الطيبة بدفئها وعواطفها، فتعطيه تلك الذكريات الدفعة التي يحتاجها للتعامل مع التحديات الحالية، فكما يقولون أن الماضي هو قوت الأموات، فالنوستالجيا هي مورد نفسي يهبط فيه الناس ليستعيدوا حياتهم ويشعروا بقيمتهم، وهي من السبل الناجحة في صد الاكتئاب وقتياً، فتشعر بأن حياتك البائسة كانت ذات قيمةٍ يوماً ما.

تلك الصورة التي نراها في صور وأفلام الستينات والسبعينات، الحياة الراقية، والأخلاق العالية، الذوق الرفيع في الأدب وفي الفنون وحتى في الموضة، الحياة الهادئة والشوارع الفارغة، النفوس الطيبة الصافية، الترابط الأسري، الوجوه الجميلة بلا مساحيق أو عمليات تجميل، الحياة النظيفة، كم مرة أَسَرَتنا هذه الصورة؟ أحببناها وصدقناها وعشنا فيها في زمن جميلٍ لم نعهده! هل كان ذاك الزمن جميلاً بالفعل أم أنها مجرد صورة نظيفة رسمتها لنا الأفلام القديمة؟.

لا أعرف لهذا السؤال إجابةً سوى أننا غرقنا الآن في تلك الصورة، وأصبح هوس القديم بالنسبة إلينا أسلوب حياة، وطريقة رائعة لجذب الناس والورقة الرابحة في الإعلانات التلفزيونية، وبدأنا بالانعزال عن حاضرنا والانشغال بإحياء صيحات القديم في دور الأزياء والأفلام السينمائية! لأن كل ما يعبر عن الحاضر أصبحنا لا نشعر به ولا نرى أنفسنا فيه، لأننا نحب الماضي، نحب ” النوستالجيا “.

النوستالجيا جيدة أم سيئة؟

نحن نحب النوستالجيا، ولكنها ليست جيدة كما نظن، وليست سيئة أيضاً! من الأسلم أن نقول إننا جميعاً أو أن معظمنا يتمنى العودة إلى الماضي، وأننا جميعاً مررنا ونمر دائماً بذاك الشعور الذي يشبه مشاعر الحزن والسعادة، كلما زاد رضانا عن واقعنا يقل ذلك الشعور ولكنه لا يختفي! النوستالجيا جهاز آخر في أجسامنا يمدنا بالسعادة ولحظات الراحة، ومهما أخذنا منه لا نكتفي، شعورٌ يجمعنا ويربطنا بأشخاصٍ معينين وأماكن دافئة وروائح مألوفة، النوستالجيا تعطينا دفعة نحو المستقبل وتحسن من حالتنا النفسية وتزيد رغبتنا في التواصل الاجتماعي خصوصاً مع الأشخاص الذين يرتبط الماضي بهم كالأهل وأصدقاء الطفولة، الحنين يجعلنا أكثر أمناً وأكثر دفئاً، فهي إذاً حالة نافعة وليست سيئة أبداً.

في الواقع إن الخطر الوحيد وراء النوستالجيا يكمن عندما نقف عندها، أو عندما نفهمها بشكل غير صحيح، فنظل نرتدي تلك النظارات الوردية عن الماضي بدلاً من أخذ نظرة جادة عن الحاضر، ونغرق أنفسنا في الماضي ونعيش فيه كوسيلة لتجنب الحاضر، ونرفض الانتقال إلى المستقبل أو إلى كل ما هو جديد لأن الماضي هو الأفضل دائماً وأبداً، فالأزياء القديمة رائعة، والمطاعم القديمة مثالية، والأفلام القديمة هي الأفضل! ونظل نحيي صيحات القديم لمجرد إحيائها وندور في دائرةٍ مفرغة لا نجني منها سوى أننا نفقد التعامل مع الحاضر ونهدم المستقبل.

النوستالجيا وأثرها الإيجابي على النفس

يعود أصل كلمة نوستالجيا إلى اليونانية، فكلمة نوستوس تعني العودة للوطن وكلمة ألغوس تعني الألم، وعلى الرغم من كون الكلمة حملت معنى تاريخياً سلبياً مرتبطاً بالمشاعر الجارفة نحو العودة للوطن، والتي كان يعيشها المغتربون والبعيدون عن عائلاتهم وأوطانهم، إلا أنها مع الوقت اكتسبت معنى جديداً في علم النفس؛ وهو الحالة النفسية التي يشعر فيها الإنسان بالحنين للعودة لمرحلة أقدم من حياة الإنسان؛ إلى طفولته وشبابه وأيامه التي خلت.

وبالرغم من أن هذه الحالة إن زادت عن حدّها الطبيعي تصنف ضمن الحالات النفسية المرضية، إلا أن دراسات حديثة بيّنت أن هذا الحنين والتعلق بالماضي له طعم حلو أيضاً ويؤثر إيجابياً على الإنسان. تتحدث د.جوليانا برينيس من جامعة بريندس الأمريكية عن 5 من هذه الآثار الإيجابية المفاجئة.

أولاً، تقول برينيس إن النوستالجيا تحسّن المزاج. وعلى الرغم من كون الشعور بالحنين الجارف يتولد من مشاعر سلبية مثل الوحدة أو الحزن، إلا أن غالبية الناس أفصحوا خلال جلسات علاجية أو تجارب شاركوا فيها أن تجربتهم مع النوستالجيا كانت مُرضية بشكل عام، وأخرجتهم من حالة الحزن أو جعلت الحزن أكثر خفة.

وفي دراسة علمية أجريت تبين أن النوستالجيا أثرت إيجابياً وضاعفت الشعور بالأمان والسعادة والاطمئنان، خاصة إن كان التفكير في الماضي حول ما جنيناه وحصلنا عليه وليس حول ما خسرناه.

ثانياً، تقول الكاتبة إن التفكير النوستالجي يجعل الحياة ذات معنى. فبحسب دراسة حديثة يعتبر التفكير في الماضي طريقة للتأقلم مع مخاوف المستقبل المتعلقة بسؤال الموت والخلود، وسؤال أهمية الحياة وجدواها.

فقد صرّح المشاركون الذين يفكرون في ماضيهم الجميل بشكل مستمر أن الحياة تحمل معاني أكثر وأعمق، كما أن الأفكار المتعلقة بالموت والخوف منه لم تسيطر على أذهانهم بل كانت وتيرتها عادية وتأثيرها لا يكاد يذكر. وهذا يعني أن تتذكر كيف تجاوزت اللحظات الصعبة وحوّلت المحن إلى منح، وكيف تعلمت ما تعلمته، وما هي التجارب التي جعلتك الإنسان الذي أنت اليوم وجعلت لحياتك معنى.

ثالثاً، تربطك النوستالجيا بالآخرين. ففي العادة ما يكون التفكير بالماضي وأحداثه وتجاربه مليئاً بذكرى الأماكن والروائح والموسيقى التي تكون غالباً مرتبطة بأشخاص معينين، مثل أصدقاء الطفولة وشخصيات مؤثرة التقيتها في العمل الأول والمدرسة والرحلات.

وعليه فإن تذكر هؤلاء الناس يبث الشعور بالطمأنينة ويعطي شعوراً بوجود دعم اجتماعي قوي؛ ممّا يقاتل الشعور بالوحدة. من ناحية أخرى تنطوي النوستالجيا العلائقية (الوشائجية) على بعض المخاطرة، فيمكن للإنسان أن يستذكر علاقاته العاطفية التي لم يكتب لها النجاح؛ ما قد يحفز الشعور بالألم والخسارة ومشاعر سلبية أخرى.

رابعاً، ومع أن ذلك يبدو غريباً، إلا أن دراسة أثبتت أن التفكير النوستالجي يجعلنا أكثر دفئاً (حرفياً). النوستالجيا -بحسب سلسلة من الدراسات- تجلب الراحة النفسية أولاً وتدفئ الجسد ثانياً.

آلية دفاع يستخدمها العقل لتحسين الحالة النفسية

يقول الخبراء أن النوستالجيا هي آلية دفاع يستخدمها العقل لرفع المزاج وتحسين الحالة النفسية، لذا فإنها تكثر في حالات الملل أو الشعور بالوحدة خاصة عند كبار السن، أي عند شعور الإنسان بأن حياته فقدت قيمتها وأصبحت تتغير للأسوأ، فيقوم العقل باستدعاء ذكريات الماضي الطيبة بدفئها وعواطفها، فتعطيه تلك الذكريات الدفعة التي يحتاجها للتعامل مع التحديات الحالية وهي من السبل الناجحة في صدِّ الاكتئاب مؤقتاً، فتشعر بأن حياتك البائسة كانت ذات قيمةٍ يوماً ما!.

أو هي هوس صور قديمة نراها في صور وأفلام الستينات والسبعينات، الحياة الراقية، والأخلاق العالية، الذوق الرفيع في الأدب وفي الفنون، الحياة الهادئة والشوارع الفارغة، النفوس الطيبة الصافية، الترابط الأسري، الوجوه الجميلة بلا مساحيق أو عمليات تجميل، الحياة النظيفة!

مرض الشباب في عصرنا

عند رفض عقلنا الباطن واقعنا الحالي.. نحاول أن نستحضر أياماً أخرى.. أو حتى لننسى أياماً حاضرة..! ربما يكون صحياً أن نتذكر ما كان جميلاً في الماضي.. فهو إحساس يجعلنا نشعر -فى خضم الأزمات- بأن الحياة ما زال بها ما يستحق.. وإنما ليس صحياً أن تستمر الحالة إلى أن ننعزل عن الواقع بذكريات الماضى.. فالظاهرة تتحول تدريجياً إلى مرض قد يصعب معه العلاج! المشكلة أن معظم من يعانون من هذا المرض الآن لم يصلوا لذلك العمر الذى يمكن وصفه بالعجز.. فالشعيرات البيضاء التى بدأت فى الظهور على رأسهم لم تتمكن من إخفاء لونه الحقيقى بعد.. فالشباب لم يغادرهم بعد.. ولكنهم يتصرفون وكأنهم قد بلغوا من العمر أرذله.. فالأمر لم يعد هروباً من مسئوليات الواقع.. بقدر ما هو هروب من الواقع نفسه!!

والطريف في الأمر.. أن الماضى لم يكن جميلاً كما نتخيله الآن ..! فستينات القرن الماضى لم تكن أياماً سهلة.. وثمانينات نفس القرن كانت عصراً ذهبياً لأزمات اقتصادية طاحنة.. بالإضافة إلى شبكات متهالكة من المواصلات والاتصالات.

فالزمن الحالي يعتبر أفضل بكثير من تلك الأيام.. لقد اختبأنا في الماضي ليس لأنه كان جميلاً كما نحاول أن نقنع أنفسنا الآن.. بل لأننا نرفض الحاضر.. ولا نرى مستقبلنا واضح المعالم .. ولأن جيل الوسط -الذى تخطى سنوات الشباب الأولى- فقد إحساسه بمتعة الحياة.. وقرر أن يتقمص دور العجوز.. ويكتفي بذكريات الماضي.

النوستالجيا والانهزامية التي تحكمنا!

ان شعارات مثل: نحن الذين قدمنا للعالم كذا وكذا.. أجدادنا فعلوا كذا وكذا.. لولا حضارتنا لما وصل العالم إلى ما وصل إليه اليوم.. وغيرها الكثير من الشعارات التي لا تجافي الحقيقة ولا ينكرها أحد، إلا أنها وعلى المقلب الآخر باتت تشكل حالة هروب عرجاء لاستحضار دائم للتاريخ تكاد تفقدنا القدرة على التمييز بين قيم ومفاهيم لم تعد صالحة، يعني أكل الدهر عليها وشرب.

وبين قيم ومفاهيم أخرى تبدو صالحة ليس بحرفيتها كقوالب جاهزة ومعلبة مسبقاً، إنما كأرض خصبة يمكن إعادة البذر والزرع فيها بما يمكنها من مواكبة العصر وامتلاك الأدوات الملائمة للدخول في السباق المحموم بين شعوب الأرض، وبالتالي امتلاك القدرة على المشاركة في الفعل الثقافي والحضاري المعاصرين، وليس الاكتفاء بدور المتفرج أو المتلقي أو المتوجس الشكّاك الخائف من كل جديد، والمستعدي له بشكل مسبق على خلفية أصبحت بائسة وهشة تقول: هذا الجديد جاء ليلغي الماضي!!.

أخيرا .. النوستالجيا خفي المعالم .. وتأثيره شديد الخطورة على الشباب هذا البلد الطيب.. فلتصنعوا لهم واقعاً يقبلونه.. فلا تجعلوا أحلامكم تتوقف .. واستبدلوها بالشوق إلى بناء مسقبل عظيم أفضل كثير من ذكرياتنا السيئة والتي نظن أنها جميلة.. نعم لا تيأسوا يمكنكم ذلك فلكل عصر جماله وذكرياته.. تفائلوا بالقادم .. ومن لا يحلم بالمستقبل.. حتماً لن يصنعه!!

أخلق حاضراً

نتفق جميعاً الآن أن الذكريات جميلة والماضي مبهج، ولكن الماضي لنتذكره وليس لنعيش فيه لأنه انتهى! فأنسب طريقة للتعامل مع النوستالجيا وجني فوائدها وتجنب عواقبها هي أن تتذكر الماضي مع حفظ الحاضر، تذكر ماضيك واصنع حاضرك ومستقبلك، ولا تتوقف عن خلق ذكرياتٍ لنفسك تلجأ إليها في المستقبل، وهذا يسمى النوستالجيا الاستباقية، أما الخلل فسيأتي عندما تنشغل بالتفكير في الماضي وتتوقف عن ملء خزان الذكريات الذي ستتصل به في المستقبل لأنك دائماً ستحتاجه.

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
أحبائي
كثيرون يتمنون أن يعود الماضي القريب أو لو كانوا قد عاشوا في الماضي البعيد
الحياة تقدمت بما لم يكن الإنسان يتخيله ورغم كل هذا التقدم الإنسان غير سعيد
الأمراض النفسية تفاقمت وحالات الإنتحار تزايدت ولم تعد البهجة تأتي مع العيد
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه...واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات...مركز ثقافة الألفية الثالثة2019-01-07