المدّرس ربّما يعلم بأنّ التلميذ الأوّل سيسقط في الامتحان حتماً، وبأن التلميذ الثاني سينجح في الامتحان قطعاً، فهل (علم) المدِّرس هذا علّة لسقوط الأوّل ونجاح الثاني؟ وهل يستطيع التلميذ الأوّل أن يرفع دعوى ضدّ الاُستاذ بأن علمه هذا هو الذي سبّب فشله في الامتحان؟ وهل نستطيع أن نلغي...

وهنا ينبري سؤال ليقول: إذا كان الله سبحانه يعلم أنّ هؤلاء لن يؤمنوا، وقد أخبر عن ذلك بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ) فهل يمكن أن يتحقّق خلاف ما علمه الله ـ بأن يؤمن هؤلاء ـ فهذا يعني انقلاب علم الله جهلاً ـ وتعالى الله عن ذلك علّواً كبيراً ـ وإذا لم يمكن أن يقع خلاف ما علمه الله، إذاً يكون هؤلاء (مجبورين) على الكفر أو العصيان.

يقول الشاعر ـ ما ترجمته: إنّني أشرب الخمر. وكلّ من كان من أهل المعرفة. فسوف يرى شربي للخمر سهلاً. الحقّ كان يعلم شربي للخمر منذ الأزل. فإذا لم أشرب الخمر انقلب علم الله جهلا!

وإلى هذه الشبهة يلجأ الكثير من العصاة لتبرير سيرهم في طريق العصيان والضلال.

وقد روى القاضي في كتاب (طبقات المعتزلة) أنَّ رجلاً قام إلى بعض الصحابة فقال: إنّ أقواماً يزنون ويسرقون ويشربون الخمر ويقتلون النفس التي حرّم الله إلاّ بالحق، ويقولون: كان ذلك في علم الله فلم نجد منه بّدا!(1).

ممّا يدلّ على شيوع هذا المنطق المغلوط منذ ذلك الوقت.

كما نقل أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إنّ موسى قال لأدم: أنت الذي اُشقيت الناس وأخرجتهم من الجنّة!

فقال آدم: أنت الذي اصطفاك الله لرسالاته ولكلامه وأنزل عليك التوراة، فهل تجد الله قدرّه عليَّ؟!

قال موسى: نعم.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فحجّ آدمُ موسى (أي: غلبت حُجَّة آدم على حُجَّة موسى (عليهما السلام)(2).

ويمكن الجواب على هذه الشبهة بأحد تقريرين:

التقرير الأوّل

إنّ العلم على نحوين:

1 ـ العلم الفعلي.

2 ـ العلم الانفعالي.

والأوّل: هو العلم الذي (يوّلد) المعلوم في الخارج فالعلم يقع متبوعاً، والمعلوم يقع تابعاً.

وهذا هو الذي يطلق عليه ـ أيضاً ـ (العلم العنائي).

ويمكن أن نمثل لذلك بعلم شخص بأنّه (مريض) مع أنّه ليس بمريض بالفعل فـ(علمه) بـ(المرض) ربَّما يولِّد فيه (المرض) فلم يكن (تحقُّق المرض) أوّلاً و(العلم بالمرض) ثانياً، بل كان (العلم بالمرض) أوّلاً و(تحقّق المرض) ثانياً.

وقد جرّب في علم الطب: إمكان (ايجاد) المرض في شخص سليم بـ(الإيحاء) إليه بأنه (مريض).

كما تطرق إلى مثل ذلك علماء الأخلاق في بحوثهم حول دور الإيحاء في خلق الفضائل الخُلُقية.

والثاني: (العلم الانفعالي): هو العلم الذي يتبع المعلوم.

فالمعلوم يقع متبوعاً والعلم يقع تابعاً، كعلمك بوجود النهار الآن، فإنّ وجود النهار يقع في الرتبة الأُولى.. وعلمك بوجود النهار يقع في الرتبة الثانية. أي أنّه كان (النهار) فـ(علمت بالنهار) لا إنّك علمت بـ(النهار) فـ(كان النهار).

والملاحظة الجديرة بالانتباه: أنه قد يكون (المعلوم) في النوع الثاني ماضياً، وقد يكون حاضراً، وقد يكون مستقبلاً.

فالأوّل: كعلمك بـ(طوفان نوح عليه السلام) في الأزمنة السحيقة.

والثاني: كعلمك بجريان الماء في النهر الذي أمامك.

والثالث: كعلمك بـ(طلوع الشمس غداً).

فهذه الأقسام الثلاثة تشترك في أنّ (المعلوم) يقع في الرتبة الأُولى و(العلم) يقع في الرتبة الثانية.

فلأنّه كان الطوفان؛ لذا علمت بالطوفان. ولأنّه كان جريان الماء؛ لذا علمت بالجريان. ولأنّ الشمس ستطلع غداً؛ لذلك تعلم بأنّ الشمس تطلع غداً.

وإذا تقرّرت هذه الحقيقة نتساءل: هل إنّ علمك بطلوع الشمس غداً علّة لطلوع الشمس غداً، أم أنّ طلوع الشمس معلول لعلله التكوينية الخاصّة وعلمك لا دخل له في العلّية مطلقاً؟

الشقّ الثاني هو الصحيح.

وهكذا ـ ولو من بعض الجهات ـ علمُ الله، فإنّ الله تعالى يعلم أنّ (أبا لهب) سوف لن يؤمن، وقد أخبر بأنه من أهل النار في قوله تعالى: (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ)(3).

ولكنّ (عدم إيمان أبي لهب) معلول لـ(إرادته عدم الإيمان) وليس معلولاً لعلم الله سبحانه.

ولتقريب الصورة أكثر نضرب المثال التالي: لنفرض أنّ هنالك طالبين في الصف، أحدهما: مهمل وكسول لا ينتبه إلى المدّرس، ولا يطالع الدروس، ويقضي أوقاته في اللّعب واللّهو. والآخر: على العكس تماماً، مجدّ ومجتهد ومواظب على المطالعة والمذاكرة والحفظ. واستمرت هذه الحالة إلى يوم الامتحان.

المدّرس ربّما يعلم بأنّ التلميذ الأوّل سيسقط في الامتحان حتماً، وبأن التلميذ الثاني سينجح في الامتحان قطعاً، فهل (علم) المدِّرس هذا علّة لسقوط الأوّل ونجاح الثاني؟ وهل يستطيع التلميذ الأوّل أن يرفع دعوى ضدّ الاُستاذ بأن علمه هذا هو الذي سبّب فشله في الامتحان؟ وهل نستطيع أن نلغي دور إرادة التلميذ الثاني وجدّه في نجاحه بسبب (علم) الاُستاذ المسبق بالنجاح؟

كلاّ إذ العلم هنا (تابع) وليس (متبوعاً) وهكذا الأمر بالنسبة إلى (العلم الأزلي) ولو في الجملة، فتأمّل.

التقرير الثاني

إنّ العلم بالشيء يتنوّع ـ بلحاظ آخر ـ إلى أنواع ثلاثة:

1 ـ العلم بالعلّة وحدها

حيث يقتصر العلم في هذا النوع على ذات (العلّة) من دون أن يتعدّاها إلى المعلول.

والمراد بالعلم بالعلّة هنا العلم بها بما هي هي، لا بما هي علّة؛ إذ العلم بها بهذا اللّحاظ لا ينفكُّ عن العلم بالمعلول ـ ولو إجمالاً ـ لتضايف العلّية والمعلولية، والمتضايفان متكافئان تحقُّقاً وتعقُّلاً فلا ينفكُّ وجود أحدهما عن وجود الآخر، كما لا ينفكُّ تصوُّر أحدهما عن تصوُّر الآخر).

ومثال ذلك: إنّ الجاهل ربما يرى البعوضة تقع على بدنه وتمتصّ من دمه، ولكنّه لا يعرف المضاعفات الخطيرة التي تولّدها في البدن، فعلمه هذا (علم بالعلّة) فقط دون أن يتعدّاها إلى (العلم بالمعلول).

2 ـ العلم بالمعلول وحده

ويقتصر العلم في هذا النوع على ذات (المعلول) دون أن يتعدّاه إلى (العلّة).

ومثال ذلك: رؤية كثير من الناس للظواهر الطبيعية ـ من شروق وغروب وحرٍّ وبرد و...؛ دون أن ينتقلوا إلى (السبب) الذي يكمن وراء ذلك كلّه.

3 ـ العلم بالعلّة والمعلول معاً

وهذا النوع هو أكمل الأنواع الثلاثة؛ إذ إنّ الرؤية للصورة ـ في هذا النوع ـ ستكون كاملة دون أن يعتريها نقص أو قصور.

والنقطة المحورية في البحث هي: أنّ العلم الذي يتعلّق بمجموع (العلّة والمعلول) لا يمكن أن يلغي دور (العلّة) في وجود (المعلول) وإلاّ لانقلب العلم جهلاً ولم يعد متطابقاً مع الواقعية العينية الخارجية.

فعلمك بأن الكون (سيضيء غداً) بسبب (شروق الشمس) لا يمكن أن يلغي دور (شروق الشمس) في (إضاءة الكون) وإلاّ لم يكن علمك بذلك علماً، بل انقلب جهلاً، وهكذا الأمر في العلم الأزلي.

إذ لا شكّ في أنّ علم الله سبحانه علم تام لا تعتريه شوائب النقص والقصور.

ولا شكّ في أنّ (كفر أبي لهب) ـ مثلاً ـ معلول لـ(سوء اختياره)، كما أن مرض المريض معلول لوجود ميكروبات معيّنة في بدنه مثلاً.

وكما أنّ علم الله الأزلي بـ(مرض) المريض لا يلغي دور الميكروبات في إيجاد (المرض) كذلك علم الله الأزلي بـ(كفر أبي لهب) لا يلغي دور (سوء اختياره) في إيجاد هذا (الكفر).

بل إنّ علم الله سبحانه بـ(كفر أبي لهب) بسبب (سوء اختياره) يؤكّد (اختياره)؛ إذ لو كان هذا العلم سبباً لسلب الاختيار لانقلب علم الله جهلاً ـ وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

القرآن الكريم يؤكّد

ويؤيّد ما ذكرناه ـ من أن علم الله سبحانه بعدم إيمان الكافر لا يكون مانعاً عن الإيمان ـ الآيات الكثيرة الدالّة على أن لا مانع لأحد من الإيمان كقوله تعالى (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى)(4)، ومن الواضح أنّ المولى لو سجن عبده في غرفة لا يستطيع الخروج منها ثمّ قال له على وجه الإنكار (ما منعك من الذهاب إلى السوق ـ مثلاً ـ لعُدّ ذلك منه قبيحاً.

وقوله تعالى لإبليس (مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ)(5).

وقوله تعالى: (فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)(6).

وقوله جلَّ وعلا: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)(7).

قال الصاحب بن عباد: كيف يأمره بالإيمان وقد منعه عنه؟ وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه؟ وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول: أنّى تصرفون؟ ويخلق فيهم الأفك ثم يقول: (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)(8) وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول: (لِمَ تَكْفُرُونَ)(9) وخلق فيهم لبس الحقّ بالباطل ثم يقول: (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ)(10)؟ وصدّهم عن السبيل ثم يقول: (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(11)؟ وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال: (وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ)(12)؟ وذهب بهم عن الرشد ثم قال: (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ)(13)؟ وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)(14)(15).

كما ويؤيّده قوله تعالى: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(16) وقوله تعالى (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى)(17).

فبين سبحانه أن الحجّة قد تمّت عليهم، وأنه ما بقي لهم عذر إلاّ وقد أزاله عنهم، فلو كان علمه تعالى بكفرهم مانعاً لهم من الإيمان لكان ذلك من أعظم الأعذار وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عليهم(18).

والحديث في هذا البحث طويل نكتفي منه بهذا القدر، والله المستعان.

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

..........................................

(1) التفسير الكبير 2: 52.

(2) التفسير الكبير 2: 53.

(3) المسد: 3.

(4) الإسراء: 94.

(5) الأعراف: 12.

(6) الإنشقاق: 20.

(7) المدثر: 49.

(8) الأنعام: 95.

(9) آل عمران: 98.

(10) آل عمران: 71.

(11) آل عمران: 99.

(12) النساء: 39.

(13) التكوير: 26.

(14) المدثر: 49.

(15) التفسير الكبير 2: 48.

(16) النساء: 165.

(17) طه: 134.

(18) التفسير الكبير 2: 48.

اضف تعليق