من المشكلات المعاصرة التي تهدد الأمن الأسري أيما تهديد السطحية والتفاهة التي تمتلئ بها وسائل التواصل الاجتماعي والتي تقود إلى الاستهلاك المفرط والتقليد الأعمى لبعض السلوكيات أو المظاهر التي لا تعكس الجوهر، فمن الإعلانات الاستهلاكية إلى المحتويات غير المناسبة للذوق أو القيم الأخلاقية وصولا إلى الممارسات المتهورة التي...
الأسرة مؤسسة اجتماعية قوامها رابطة قانونية وشرعية بين مجموعة من الأفراد ممن ترابطهم وشائج الدم والانتماء، ويكون للأسرة أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة الخطورة والأهمية، إذ تتكون من الأب والأم والأولاد وأن نزلوا، ويضاف لهم الأقرباء بالنسب أو المصاهرة والرضاع، وتعد الأسرة أصغر لبنة من لبنات المجتمع الإنساني، ويتشكل المجتمع الأكبر من تجمع الأسر بعضها مع البعض الآخر ولا يمكن أن نفصل بينهما أي الأسرة والمجتمع حيث يؤثر كل منهما بالآخر ويتأثر به.
وهذا ما أشار إليه الدستور العراقي النافذ للعام 2005 بالمادة (29) "الأسرة أساس المجتمع، وتحافظ الدولة على كيانها وقيمها الدينية والأخلاقية والوطنية"، ويشار إلى أن من أخص واجبات الدولة في الوقت الراهن وفي ظل تزايد المخاطر بكل صورها وأشكالها واجب توفير الأمن على جميع المستويات ولا سيما الأمن الأسري ليبلغ الفرد حالة الاستقرار والطمأنينة التي توفرها القوانين الدولية والوطنية وقواعد السلوك التي يقررها العرف والآداب العامة بوصفها من القيم الأخلاقية والتي بدورها تؤسس لأسرة مستقرة، ينعم أفرادها بالحقوق والحريات وتتضافر الجهود لحمايتهم من المخاطر المادية أو المعنوية، فالأمن الأسري يعني تحقيق مقاصد الشرع والقانون في صيانة كيان الأسرة بما من شأنه ان يهيئ الظروف المناسبة لتنشئة جيل من الأفراد بعيدين كل البعد عن المشاكل والأزمات النفسية أو السلوكية التي تظهر في المجتمع مستقبلا بشكل انحرافات تهدد التعايش السلمي والحياة المشتركة.
بعبارة أكثر وضوحاً الأمن الأسري من شأنه ان يحقق حفظ النسل بالتشجيع على الزواج وفق معايير وضوابط موضوعية تؤسس لأسرة مستدامة، وبالمحصلة تتلاشى بعض المخالفات والجرائم والانحرافات كالزنا والعقوق والتباعد الاجتماعي، ما يحقق للأطفال وهم يمثلون ثمرة الأسرة الكرامة، ويسود العدل في التعامل بين الأزواج، وليتحقق ما تقدم لابد من تدخل المشرع وإصدار سلسلة من الإصلاحات التشريعية التي تصون الأسرة من التفكك نتيجة عوامل داخلية أو ذاتية أو عوامل خارجية أو مستقلة منها التنشئة السيئة للفرد في كنف أسرة تفتقد للأمن الأسري فحين يعيش الفرد حالة العنف الجسدي، أو النفسي، أو الاقتصادي، أو التفكك والتباعد نتيجة الطلاق التعسفي، أو الهجر والاستغلال بكل صوره تكون النتيجة أسرة مستقبلية محكوم عليها بعدم الاستقرار أو الانهزام بمواجهة الأزمات.
ومما يشار إليه أن الأمن الأسري مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية الغراء فقد بين القرآن الكريم أن ما تقدم مقدمة لازمة لبناء مجتمع إسلامي صالح ومتماسك حيث يقول الحق سبحانه " فَليَعبُدُوا رَبَّ هُذَا الِبَيتِ الَّذِي أَطَعَمَهُم مِّن جُوع، وَءَامَنَهُم مِّن خَوفٍ" فالأمن القرآني إشارة صريحة للقواعد التي شرعت تكوين الأسرة، ويبلغ الفرد حالة الأمن عندما يشعر ذكراً كان أم أنثى، صغيراً كان أم كبيراً بالطمأنينة وعدم الخوف على النفس أو الغير أو المال، لما تقدم يبرز لنا جلياً أهمية الأمن الأسري حيث يحقق ما يأتي:
أولاً: يعد الأمن ضمانة لاستقرار المجتمع: فالأسرة الآمنة تُنتج فرادً أو أفراداً آمنين قادرين على التأثير الإيجابي في المجتمع.
ثانياً: توفير الظروف المناسبة لتنشئة جيل واعي: في زمن التقلبات الحادة بسبب التطور العلمي والتكنلوجي والصراعات الدولية وتفشي ظواهر سلوكية خاطئة كالفساد الإداري والمالي، بات من المهم جداً تحصين الفرد بالوعي لمنع الانزلاق في مهاوي لا يحمد عقباها.
ثالثاً: الأمن الأسري يعزز القيم الاجتماعية الإيجابية: فمن المعروف أن أغلب المجتمعات تتمسك بموروثات إنسانية تعتز بها بوصفها جزء من هويتها الثقافية والأمن الأسري السبيل الأمثل لتهذيب الموروث والمحافظة عليه.
ثالثاً: الوقاية من المخاطر الاجتماعية: الأسرة التي تعي أهمية الأمن الإنساني أولاً والرقمي ثانياً يمكنها ان تبلغ حالة الأمن الأسري وتحصين النشء والشباب من بعض المخاطر التي من شأنها ان تحرفهم عن المسار الأمن لاسيما ونحن نعيش عصراً تشعبت فيه المخاطر وتطورت صور الخطر التقليدية لتلبس رداء التطور فمن التنمر الإلكتروني إلى التطرف الفكري الالكتروني تنهض سلسلة طويلة من عناوين الخطر التي يخشاها الإباء قبل الأبناء لما تخلفه من تحديات.
رابعاً: تعزيز الأمن المعاشي: التخطيط الأسري السليم وإتباع التوجيهات السديدة للشرع المقدس بضرورة تعليم الأبناء الفضيلة والقيم من شأنه ان ينهض سبباً لأمن اقتصادي ومالي للمجتمع أولاً وللأسرة والفرد ثانياً، حيث يكون العمل فضيلة والتسابق يكون في ميدان الحق والعدل وتسود قيم الأمانة والصدق والشجاعة بدلاً عن قيم الغش أو الاحتيال أو الغدر وما سواها.
خامساً: الأمن الأسري يمثل مقدمة للحق في التعليم والصحة: مما يعني وبحق بلوغ حالة التنمية الشاملة لمقومات الحياة الحرة الكريمة، فالاستثمار الحقيقي بلي دولة تنشد سعادة شعبها في الإنسان الحر الإيجابي القادر على ترك الأثر الحسن.
سادساً: الحفاظ على القيم الفردية والهوية الثقافية: فأمن الأسرة لا يمثل فقط حماية من المخاطر المادية كالفقر أو التشرد أو اليتم بل هو وقاء ودرع يصون كيان الأسرة والمجتمع المعنوي والثقافي من الاندثار أو التآكل، حيث تتناقل الأجيال المتعاقبة تقاليد إنسانية ودينية تعزز قيم الوطنية وحب الوطن والإخلاص في العمل والشعور بالانتماء.
سابعاً: تسهم الأسرة المطمئنة في بناء الشخصية الفردية المتوازنة: القادرة على التعامل بإيجابية مع تغير الظروف العامة وحلول الأزمات وتكون بالمحصلة أكثر قدرة في التكيف بدون ان يضطر إلى التنازل عن رأيه أو مفاهيمه أو مبادئه للحصول على مكاسب آنية أو مادية وقتية، كما يسهم الأمن في إكساب الفرد مهارة الانفتاح على الآخرين وثقافتهم بلا خوف من الآخر أو إصدار الحكم المسبق بخطئهم أو ظلالهم وما شاكل ذلك.
وما تقدم نجد ان الدستور العراقي قد أسس لما تقدم في العديد من المواد القانونية التي تحث على المحافظة على الهوية الثقافية فقد ورد في المادة (2 البند ثانياً) أنه "يضمن هذا الدستور الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي، كما ويضمن كامل الحقوق الدينية لجميع الأفراد في حرية العقيدة والممارسة الدينية كالمسيحيين والآيزديين والصابئة المندائيين" وورد في المادة الثالثة من الدستور التأكيد على أن "العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها و جزء من العالم الإسلامي" وتضيف المادة الرابعة من الدستور أن "اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق، ويضمن حق العراقيين بتعليم أبنائهم باللغة الأم كالتركمانية والسريانية والأرمنية في المؤسسات التعليمية الحكومية وفقا للضوابط التربوية، أو بأية لغة أخرى في المؤسسات التعليمية الخاصة"
ومن نافلة القول ان الأسرة اليوم تعاني في الغالب من مشكلات مستعصية كإدمان الأطفال على الأجهزة أو الألعاب الإلكترونية ما يؤشر خللا سلوكياً واضطراباً منشئه بالدرجة الأساس الإهمال الأسري في مراحل عمرية معينة أو انشغال الإباء والأمهات بالعمل أو بعض المفاهيم الثقافية المغلوطة، ولعل جوهر الخطورة فيما تقدم ان الطفل يشعر باضطراب نفسي يحاول الهرب منه إلى تلك الوسائل بيد أنها كالعطشان الذي يشرب من ماء البحر فلا يزيده إلا عطشاً، والعلاج الناجع هو إشعار الطفل بالأمن الأسري الحقيقي والترابط في العلاقات القائمة على التوازن والمعرفة الحقة بالأدوار التي يؤديها كل من الأم أو الأب في الأسرة والعودة إلى التنشئة القيمية والأخلاقية المتوازنة.
ومن المشكلات المعاصرة التي تهدد الأمن الأسري أيما تهديد السطحية والتفاهة التي تمتلئ بها وسائل التواصل الاجتماعي والتي تقود إلى الاستهلاك المفرط والتقليد الأعمى لبعض السلوكيات أو المظاهر التي لا تعكس الجوهر، فمن الإعلانات الاستهلاكية إلى المحتويات غير المناسبة للذوق أو القيم الأخلاقية وصولا إلى الممارسات المتهورة التي تزيد وبلا شك من الضغوطات النفسية وتؤدي إلى الإرهاق والضعف في مقاومة الظروف المتقلبة بسبب الواقع الدولي والإقليمي وشيوع المفاهيم القومية والعنصرية في العالم، فتتسبب بأمراض كالاكتئاب والقلق الناتج عن العزلة الاجتماعية أو الشعور بالنقص أو الحاجة وبالمحصلة هي تقود إلى التكلف والتظاهر بعكس الواقع، لذا نحن بحاجة إلى توفير متطلبات ومقدمات لازمة للأمن الأسري ومنها:
أولاً: توفير الحماية القانونية للأسرة: فإقرار المدونة الجعفرية مقدمة صالحة للعودة إلى الأسرة التي أقر لها الإسلام أحكاماً خاصة تصونها من التفكك غير ان القوانين التي لا تلق التطبيق السليم تبقى مفرغة من مضامينها وبعيدة عن غاياتها.
ثانياً: تعزيز الاستقرار المادي: ويتحقق بتوفير فرص العمل اللائق والضمان الاجتماعي لمواجهة الظروف التي تحيق ببعض الأسر وانتشالها من براثن الفقر أو العوز والحاجة بما يضمن العيش الكريم.
ثالثاً: تعزيز البناء النفسي المتوازن للفرد: وتتحقق من خلال التأسيس للتكامل بين الأسرة والمؤسسات الرسمية لتشخيص مكامن الخطر على الفرد، لاسيما الصغار ورسم استراتيجية التأهيل وإعادة الحال إلى ما كان عليه بالنسبة لمن تعرض لبعض الصدمات كاليتم أو الاعتداء المادي أو المعنوي كالتنمر وما شاكل.
رابعاً: تعزيز الوشائج الاجتماعية: لما لها من دور فاعل في بناء الذات الإنسانية وتعزيز قيم التكافل والتضامن والتسامح والتعايش وغيرها.



اضف تعليق