(الغيب) عبارة عمّا غاب عن الحواس الظاهرة، فـ(عالم الغيب) يمثل النقطة المقابلة لـ(عالم الشهود) وباعتبار أنّ دائرة (الحقيقة) أوسع من دائرة (عالم الشهود)؛ لذا يؤمن المتقون بـ(عالم الغيب) كما يؤمنون بـ(عالم الشهود). وكلمة (الغيب) لفظة مطلقة، فلا تنحصر في الإيمان بالله سبحانه فقط، بل تعمّ كلّ الحقائق الغيبية...

(الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...) البقرة 3

والآن لنلقِ نظرة على السِّمات التي رسمتها الآيات الكريمة للمتقين:

1 ـ الإيمان بالغيب

و(الإيمان) لا يعني (العلم) فقط، بل يعني مضافاً إلى ذلك (الإذعان) لما تعلّق به العلم.

فهنالك أُمور ثلاثة:

1 ـ العلم بالشيء، ويحصل ذلك عندما يتحقّق وضع (المواجهة) مع (الشيء) وتنطبع صورته في ذهن الإنسان، تماماً: كالمرآة، فإنّك لا تشاهد صورتك في المرآة ما لم تتخّذ معها وضع المواجهة.

وهذه الصورة هي (المعلومة بالذات) وبها تنكشف الحقيقة الخارجية التي هي (المعلومة بالعرض).

2 ـ إذعان النفس لما علمت به وتسليمها له عقلياً ونفسياً؛ إذ قد يعلم الإنسان بشيء إلاّ أنه يجحد به، كما قال سبحانه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)(1).

وهذا (الإذعان) هو (الإيمان) (مع اقترانه بالإقرار باللِّسان في الجملة).

3 ـ الجري العملي وفق العلم والإيمان، وهذا ثمرة من ثمرات الإيمان. ولعلّ إدراج الجري العملي في مفهوم الإيمان في جملة من الأحاديث الكريمة ـ من باب إطلاق الملزوم على لازمه، أو من باب أنّ الإيمان حقيقة تشكيكية ذات مراتب مختلفة من حيث الشدّة والضعف.

فالإذعان المصحوب بالجري العملي التام مرتبة علياً من الإيمان، وبالجري العملي الناقص مرتبة متوسّطة، وبلا جري عملي مرتبة دنيا، وبين هذه المراتب ما لا يعدّ من الدرجات بحسب كمال الجري العملي ونقصه، فتأمّل.

هذا بالنسبة إلى معنى الإيمان، وأمّا بالنسبة إلى (وجه التسمية) فقيل فيه وجوه:

1 ـ إنه سمّي بذلك لكونه موجباً لأمن المؤمن من العقاب في الآخرة، قال سبحانه: (فَمَنْ يُؤمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْسًا وَلاَ رَهَقًا)(2).

2 ـ أو لأمان الناس به في الدنيا.

3 ـ أو لأنه يؤمّن على الله فيجيز أمانه.

4 ـ أو لأنّ المؤمن يعطي لما آمن به الأمن من الريب والشكّ الذي هو آفة الاعتقاد.

و(الغيب) عبارة عمّا غاب عن الحواس الظاهرة، فـ(عالم الغيب) يمثل النقطة المقابلة لـ(عالم الشهود) وباعتبار أنّ دائرة (الحقيقة) أوسع من دائرة (عالم الشهود)؛ لذا يؤمن المتقون بـ(عالم الغيب) كما يؤمنون بـ(عالم الشهود).

وكلمة (الغيب) لفظة مطلقة، فلا تنحصر في الإيمان بالله سبحانه فقط، بل تعمّ كلّ الحقائق الغيبية المرتبطة بالمبدأ والمعاد ونحوهما.

ولذا ورد في الأحاديث الكريمة تطبيقها على مصاديق أُخرى، لا من باب انحصار مصداق (الغيب) فيها، بل من باب شمولية لفظ الغيب لها، وكونها مصاديق لهذا المفهوم الكلّي.

ففي الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام): (الذين يؤمنون بالغيب) يُصدِّقون بالبعث والنشور والوعد والوعيد(3).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في قول الله عزَّ وجلَّ: (هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قال: «من أقرّ بقيام القائم (عليه السلام) أنه حقّ»(4).

وعن النبي (صلى الله عليه وآله) ـ في حديث يذكر فيه الأئمّة الإثني عشر (عليهم السلام) وفيهم القائم (عليه السلام)، قال: «طوبى للصابرين في غيبته، طوبى للمقيمين على محبتهم، أُولئك مَنْ وصفهم الله في كتابه فقال: (الذين يؤمنون بالغيب).

ثم قال: (أُولئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم الغالبون)»(5).

وعن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال في وصف هؤلاء المؤمنين ـ الّذين جاء هذا الكتاب هدى لهم ـ فقال: «(الذين يؤمنون بالغيب) يعني ما غاب عن حواسهم من الأُمور التي يلزمهم الإيمان بها، كالبعث والحساب والجنّة والنار وتوحيد الله وسائر ما لا يعرف بالمشاهدة، وإنّما يعرف بدلائل قد نصبها الله تعالى دلائل عليها كآدم وحوّاء وإدريس ونوح وإبراهيم والأنبياء الذين يلزمهم الإيمان بحجج الله تعالى وإن لم يشاهدوهم، ويؤمنون بالغيب وهم من الساعة مشفقون»(6).

وينبغي التنبيه على أنّ الشيء الواحد قد تجتمع فيه جهتان يندرج بإحداهما في (عالم الشهود) وبالأُخرى في (عالم الغيب) كالقرآن الكريم، فإنّه جزء من عالم الشهود بلحاظ ذاته، وجزء من عالم الغيب بلحاظ مصدره، وكالحجر الأسود، فإنّه مشهود باعتباره مستلم الحجيج، وغيب باعتبار كونه يمين الله في الأرض يصافح بها عباده إلى غير ذلك(7).

كيف نؤمن بالغيب؟

والسؤال الآن هو: كيف يؤمن الإنسان بالغيب؟ كيف يؤمن بما لم يره بعينيه، ولم يلمسه بيده، ولم يستشعره بحواسه الأُخرى؟.

وفي الإجابة على هذا السؤال لا بد أن نستعرض النقطتين التاليتين:

النقطة الأُولى: للإيمان بحقيقة من الحقائق طريقان.

أ ـ طريق التماس المباشر مع تلك الحقيقة..

فتؤمن بوجود الشيء لأنك أبصرته بعينك، أو لمسته بيدك، أو سمعته بأُذنك و...

ب ـ التماس غير المباشر، ولذلك ثلاثة أشكال:

الشكل الأوّل: أن تؤمن بوجود الحقيقة لأنك رأيت (آثارها الوجودية) فمن خلال وجود تلك الآثار تنتقل إلى وجود تلك الحقيقة، فعندما ترى ساعة يدوية تنتقل إلى وجود المعمل الذي أنتج تلك الساعة، وعندما تشاهد قصراً مشيّداً فإنّك سوف تؤمن بلا شكّ بوجود مهندس وبنّائين وراء ذلك القصر، وهكذا في سائر الأُمور.

وهذا الانتقال أمر فطري وجداني نجده حتّى عند الأطفال، فعندما يأتي الطفل إلى الغرفة ويجد كتبه مبعثرة ودفاتره ممزّقة، فإنّه سوف يتساءل فوراً: من فعل هذا؟ ولن يقبل تفسير ذلك بأن الأمر حدث من تلقاء نفسه.

بل ربّما يُدّعى أنّ هذا الأمر لا يختصُّ بالعقلاء فقط، وإنّما يشمل كل الكائنات الواعية، فالحيوان عندما يسمع صوتاً فإنه يتلفت حواليه باحثاً عن مصدر ذلك الصوت، ولا يستطيع أن يقنع نفسه بأن الصوت قد وجد من تلقاء نفسه.

وهذا الشكل من الانتقال الذهني يطلق عليه (الدليل الإنيّ) أي الانتقال من وجود المعلول إلى وجود علّته، ومن وجود المسبَّب إلى وجود السبب.

الشكل الثاني: أن تؤمن بوجود الحقيقة لأنك آمنت بوجود علَّتها؛ إذ لا يمكن أن يتخلّف المعلول عن علّته التامّة، فوجود العلّة كاشف عن وجود المعلول، فلو رأيت الموقد مشتعلاً في غرفة فإنّك سوف تؤمن بوجود الدفء في تلك الغرفة؛ لأنّ وجود النار سبب لوجود الدفء، فلا يمكن أن ينفكّ وجود النار عن وجود الدفء في الغرفة.

ويطلق على هذا النوع من الانتقال (الدليل اللّمي) (أي الانتقال من وجود العلّة إلى وجود المعلول).

الشكل الثالث: أن تؤمن بوجود الحقيقة لإيمانك بوجود لازمها أو ملزومها أو ملازمها، فإنّ أحد المتلازمين لا ينفكُّ وجوده عن وجود الآخر ـ قضاءاً لحقّ الملازمة ـ فالعلم بوجود أحدهما كافٍ في الانتقال إلى وجود الآخر.

ومثال ذلك: الأربعة والزوجية، فإنّ الزوجية لازمة للأربعة، فالإيمان بوجود الأربعة يستتبع الإيمان بوجود الزوجية ـ بشكل قهري ـ إلى غير ذلك من الأمثلة.

وقد يدرج هذا القسم في القسم الأوّل بتعميم الدليل الإنيّ لكل ما لم يكن فيه انتقال من العلّة إلى المعلول فيشمل الانتقال من (المعلول إلى العلّة) ومن (أحد المتلازمين إلى الآخر) ومن (اللازم إلى الملزوم) ومن (الملزوم إلى اللازم).

وبعبارة أُخرى: (الدليل الإنّي هو ما لا يكون الأوسط في القياس المنطقي علّة لثبوت الأكبر للأصغر، أو انتفاءه في الواقع سواء كان معلولاً أم لا).. فتأمّل.

وعلى كلّ حال، فالتماسُّ المباشر مع الحقيقة ليس هو الشكل الوحيد للإيمان بالحقيقة، بل هنالك أيضاً طريق التماس غير المباشر بأشكاله المختلفة.

والإيمان بالغيب يمكن أن يتمَّ عن طريق التماس غير المباشر، برؤية آثار (ذلك الغيب) والانتقال من وجود تلك الآثار إلى وجود (ذلك الغيب) المختفي عن الحواس.

النقطة الثانية: إذا كان ينبغي أن يقتصر الإيمان على (دائرة الشهادة) والتماس المباشر، ولا يتعدّاها إلى (دائرة الغيب) والتماسّ غير المباشر، فكيف نفسِّر الظواهر التالية:

الظاهرة الأُولى: هناك كثير من الحقائق آمنّا بها، من خلال رؤية آثارها، ولم نرها.

فنحن نؤمن بوجود (الجاذبية) من خلال رؤيتنا لآثارها، ولم نر الجاذبية مطلقاً. ونؤمن أيضاً بوجود (الكهرباء) ولم نشاهدها. وهكذا.

الظاهرة الثانية: هنالك كثير من المفاهيم، ليس لها من يحاذيها في الخارج، ولذا فمن المستحيل التماس المباشر معها، إلا إننا نؤمن بوجودها باعتبار وجود (منشأ انتزاعها).

وهذه المفاهيم على ضربين:

الضرب الأوّل: ما يكون عروضها على معروضاتها في الذهن، واتّصاف تلك المعروضات بها في الذهن أيضاً.

وذلك مثل وصف (الكليّة) الذي يعرض مفهوم (الإنسان) و(النبات) و(الماء) ونحوها من المفاهيم التي لا تأبى افتراض الإنطباق على الكثير من مصاديقها الجزئية في الخارج.

فليس لـ(الكلية) ما يحاذيها في (عالم العين) الخارج بالمعنى الأخصّ؛ إذ لا يمكن أن نشير إلى حقيقة معينّة ونقول (هذه هي الكلّية)، كما لا يمكن وصف شيء موجود في الخارج بأنه (كلّي) فلا يصحّ وصف (زيد) أو (هذه الشجرة النابتة في الحقل) أو (هذا الماء الذي يجري في الجدول) بـ (الكلية) لأنّ كل شيء في الخارج (جزئي حقيقي) باعتبار (أنّ الشيء ما لم يتشخّص لم يوجد).

فالكلّية لا موطن لها إلاّ في (وعاء الذهن)؛ إذ لنا أن نشير إلى المفاهيم الكلّية المرتسمة على لوحة الذهن ونصفها بأنها (كلية) باعتبار أنها لا تأبى الانطباق على جزئياتها المتكثّرة المفروضة الوجود في الخارج.

وهذا الوصف حقيقة؛ إذ إنّ الكلّية خاصية ينتزعها العقل من وجود المفاهيم الكلّية في الذهن، كما ينتزع الجزئية من وجود المفاهيم الجزئية الموجودة في الذهن، فهي إذاً موجودة، ولو كان وجودها بوجود منشأ انتزاعها، مع أنه يستحيل التماسّ المباشر معها في الخارج.

الضرب الثاني: ما يكون عروضها على معروضاتها في الذهن، ولكنّ اتّصاف تلك المعروضات بها يكون في الخارج.

فليس لهذه المفاهيم وجود مستقلٌّ في الخارج؛ إذ ليس لها ما يحاذيها في العين. فوجودها الاستقلالي إنّما هو في الذهن، ولكنّها ـ مع ذلك ـ موجودة في الخارج، ويصحّ وصف الموجودات الخارجية بها، وذلك لوجود منشأ انتزاعها في الخارج.

وذلك مثل مفاهيم (العلية) و(المعلولية) و(الوجوب) و(الإمكان) و(الوحدة) و(الكثرة) ونحوها.

فنحن نرى في الخارج (ذات العلّة) و(ذات المعلول) ولا نرى (وجوداً) ثالثاً وراءهما نطلق عليه (العلّية)، ولكننا آمنا بـ(العلّية) بسبب تكرُّر تعقب إحدى الظاهرتين للأُخرى، بحيث أيقنّا بأن هذا التعقب لم يأتِ على نحو (التقارن الاتفاقي) بين الظاهرتين، بل لوجود علاقة خاصّة بينهما تتسبّب في وجود الظاهرة الثانية كلّما وجدت الظاهرة الأُولى.

ففي مثال الماء والغليان.. نحن نشاهد (غليان) الماء عندما تصل الحرارة فيه إلى درجة معيّنة، فنحن نلمس (الحرارة) ونشاهد (الغليان) ولكنّنا لم نلمس بحواسنا الظاهرة (علّية) الحرارة لـ(الغليان)، ومع ذلك نؤمن بها على نحو القطع واليقين.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى مفاهيم (الوجوب) و(الإمكان) و(الوحدة) و(الكثرة) ونحوها.

الظاهرة الثالثة: إنّ العلوم المتداولة عبارة عادةً عن قواعد كلّية تُطبّق على جزئياتها، وهذه القواعد الكلّية تعتمد على (استقراء ناقص) لبعض الجزئيات والمصاديق، ومن ثمّ استخراج قاعدة كلّية من خلال ذلك.

فعندما نقول: (الماء يتكوّن من ذرّة أُوكسجين وذرّتي هيدروجين) فنحن لم ندرس كلّ قطرات الماء الموجودة في الكون لنرى أنّها تتركّب من هذين العنصرين بهذه النسبة المعيّنة، بل درسنا بعض فصائل الماء، وعلمنا ـ عبر الطرق المدوّنة في (علم المنطق) بأنّ سائر الفصائل مماثلة للفصائل المدروسة، وحيث أنّ (حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد) عممّنا الحكم لكلّ فصائل الماء، ووضعنا بذلك تلك القاعدة الكلّية.

وهكذا الأمر في القواعد المدوّنة في علم الطبّ والهندسة والفيزياء والكيمياء والرياضيات وغيرها من العلوم.

ومن الواضح: أنّ (القواعد الكلية) لا تقع في نطاق (الإحساس المادي) إذ (الحسّ) لا يتعامل مع الحقائق الكلّية، وإنّما يتعامل مع (الجزئيات)، ومع ذلك فنحن نؤمن بهذه (القواعد الكلية) التي لولاها لم تقم كثير من العلوم المتداولة.

وهكذا نتوصّل إلى أن «الحسّ» ليس هو الطريق الوحيد للإيمان بوجود حقيقة من الحقائق الكونية!.

محاورات

1 ـ روي أنه دخل رجل من الخوارج على الإمام الباقر (عليه السلام) فقال: يا أبا جعفر، أيّ شيء تعبد؟.

قال: الله.

قال: رأيته؟

فقال (عليه السلام): لم تره العيون بمشاهدة العيان، ورأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يُعرف بالقياس، ولا يُدرك بالحواس، ولا يُشَّبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلاّ هو.

فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته(8).

2 ـ روي أنه قام إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) رجل يقال له (ذعلب) فقال: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربَّك؟

فقال (عليه السلام): ويلك يا ذعلب، لم أكن بالذي أعبد ربّاً لم أره.

فقال: فكيف رأيته؟ صفه لنا.

فقال (عليه السلام): ويلك، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان... إلى آخر كلامه (عليه السلام).

فخر ذعلب مغشيّاً عليه(9).

3 ـ روي أنه دخل أبو شاكر الديصاني ـ وهو زنديق ـ على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له: يا جعفر بن محمّد دُلَّني على معبودي!

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): اجلس.

فإذا غلام صغير في كفّه بيضة يلعب بها.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ناولني يا غلام البيضة.

فناوله إيّاها.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا ديصاني هذا حصن مكنون، له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة، ولا الفضَّة الذائبة، تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها، لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن إصلاحها، ولم يدخل فيها داخل مفسد فيخبر عن إفسادها، لا يُدرى للذكر خلقت أم للأنثى؟ تنفلق عن مثل ألوان الطواويس، أترى لها مدبّراً؟

فأطرق الديصاني مليّاً، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمّداً عبدُه ورسوله، وأنّك إمام وحجّة من الله على خلقه، وأنا تائب ممّا كنت فيه(10).

4 ـ نقل أنه سئلت امرأة عجوز عن الدليل على وجود الصانع؟

فقالت: دولابي هذا [المغزل الذي كانت تغزل به] فإنّي إن حرّكته تحرّك وإن لم أحرّكه سكن!

وإلى هذا [النوع من الإيمان الفطري] أُشير في الحديث الشريف: (عليك بدين العجائز)(11).

5 ـ يقال: إنّ (بهلول) استمع يوماً إلى (أبي حنيفة) وهو يقول لأصحابه: إن من مقالة جعفر بن محمد ثلاثة أشياء لا أقبلها منه.

ـ يقول: إنّ الشيطان يعذّب بالنار، وكيف يعذّب بها وقد خلق منها؟ والشيء لا يتعذّب بما هو من سنخه؟

ـ ويقول: بأن الله لا يُرى، مع أنّ كلّ موجود لا بدَّ أن يُرى.

ـ ويقول: باستناد أفعال العباد إلى أنفسهم، مع أنّ النصوص تدلّ على خلاف ذلك!

فأخذ بهلول مدرة من الأرض وضرب بها وجه أبي حنيفة، فسال الدم منه، وهرب بهلول.

فتبعه القوم، وألقوا القبض عليه، وأتوا به إلى دار هارون الرشيد ومعهم أبو حنيفة.

فالتفت بهلول إلى أبي حنيفة وقال له: ما جاء بك إلى هنا للشكاية منّي؟

فقال أبو حنيفة: لما قد أصابني من رميتك؟

فقال بهلول: وأين هذا الألم الذي تدّعيه، هل تستطيع أن تُريَني إيّاه؟ ثم كيف تأذّيت من المدرة، وهي من تراب، وأنت من تراب؟ ألم تقل بأن الشيء لا يتألّم بما هو سنخه؟

ثم كيف نسبت الرمية إليّ، وأمرها كما تقول بيد غيري!

فبُهت أبو حنيفة، ولم يجد جواباً، وقام وخرج(12).

تأثير الإيمان بالغيب في سلوك الإنسان

للإيمان بالغيب تأثير عظيم في سلوك الإنسان في الحياة، ونقتصر هنا على استعراض بعض النماذج التي تؤكّد هذه الحقيقة:

1 ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قصّة مراودة زليخا ليوسف (عليه السلام) عن نفسه ـ أنه قال: أن زليخا قامت إلى صنم في بيتها فألقت عليه مُلاءة لها.

فقال لها يوسف: ما تعملين؟

فقالت: اُلقي على هذا الصنم ثوباً لا يرانا فإنّي أستحي منه.

فقال يوسف: أنت تستحين من صنم لا يسمع ولا يبصر، ولا استحيي أنا من ربّي؟(13).

2 ـ عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: بينما ثلاثة نفر فيمن كان قبلكم يمشون إذ أصابهم مطر فأووا إلى غار فانطبق عليهم.

فقال بعضهم لبعض: يا هؤلاء، والله ما ينجيكم إلاّ الصدق، فليدعُ كلُّ رجل منكم بما يعلم الله عزَّ وجلَّ أنه قد صدق فيه.

فقال أحدهم: اللّهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فرق(14) أرز، فزرعته فصار من أمره إلى أن اشتريت من ذلك الفرق بقراً.

ثم أتاني فطلب أجره فقلت: اعمد إلى تلك البقر فسقها.

فقال: إنّما لي عندك فرق من أرز.

فقلت: اعمد إلى تلك البقرة فسقها، فإنّها من ذلك. فساقها.

فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك، ففرِّج عنّا فانساحت الصخرة عنهم [قليلاً].

وقال الآخر: اللهمّ إن كنت تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كلَّ ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عليهما ذات ليلة، فأتيتهما وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون(15) من الجوع، وكنت لا أسقيهم حتّى يشرب أبواي فكرهت أن أوقظهما من رقدتهما، وكرهت أن أرجع فيستيقظا(16) لشربهما فلم أزل أنتظرهما حتّى طلع الفجر، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنّا.

فانساحت عنهم الصخرة حتى نظروا إلى السماء.

وقال الآخر: اللهمّ إن كنت تعلم أنه كانت لي ابنة عم أحبّ الناس إليّ، وإني راودتها عن نفسها، فأبت عليَّ إلاّ أن آتيها بمائة دينار.

فطلبتها حتى قدرت عليها، فجئت بها فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها فلمّا قعدت بين رجليها قالت: اتّق الله ولا تفضَّ الخاتم إلاّ بحقّه، فقمت عنها وتركت لها المائة، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنّا. ففرَّج الله عزَّ وجلّ عنهم فخرجوا(17).

3 ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: كان عابد من بني اسرائيل، فطرقته امرأة بالليل فقالت له: أضفني.

فقال: امرأة مع رجل لا يستقيم.

قالت: إنّي أخاف أن تأكلني السبع.

فتأثّم، فخرج وأدخلها والقنديل بيده، فذهب يصعد به.

فقالت له: أدخلتني من النور إلى الظلمة!

فرّد القنديل، فما لبث أن جاءته الشهوة، فلمّا خشي على نفسه قرّب خنصره إلى النار، فلم يزل كلّما جاءته الشهوة أدخل إصبعه النار حتى أحرق خمس أصابع، فلمّا أصبح قال: اخرجي فبئس الضيفة كنتِ لي(18).

4 ـ عن علي بن الحسين (عليه السلام)، قال: «إنّ رجلاً ركب البحر بأهله، فكسرت السفينة بهم، فلم ينج ممّن كان في السفينة إلا امرأة الرجل، فإنّها نجت على لوح من ألواح السفينة حتى التجأت إلى جزيرة من جزائر البحر، فكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق، ولم يدع لله حرمة إلا انتهكها.

فلم يعلم إلا والمرأة قائمة على رأسه! فرفع رأسه إليها. فقال: إنسيّة أم جنّيّة؟

فقالت: إنسيّة.

فلم يكلّمها بكلمة حتّى جلس منها مجلس الرجل من أهله!

فلمّا أن همّ بها اضطربت.

فقال لها: ما لك تضطربين؟

فقالت: أخاف من هذا ـ وأومأت بيدها إلى السماء.

قال: فصنعت من هذا شيئاً؟

قالت: لا وعزّته.

قال: فأنت تخافين منه هذا الخوف ولم تصنعي شيئاً واستكرهتك استكراهاً فأنا ـ والله ـ أولى بهذا الخوف، وأحقُّ منك.

فقام ولم يحدث شيئاً ورجع إلى أهله، وليس له همّة إلا التوبة والمراجعة.

فبينما هو يمشي إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس.

فقال الراهب للشاب: أُدع الله يظلّنا بغمامة، فقد حميت علينا الشمس.

فقال الشاب: ما أعلم أن لي عند ربّي حسنة فأتجاسر على أن أسأله شيئاً.

فقال: فأدعو أنا وتؤمن أنت؟.

قال: نعم.

فأقبل الراهب يدعو والشاب يؤمِّن، فما كان بأسرع من أن أظلَّتهما غمامة.

فمشيا تحتها مليّاً من النهار، ثمّ انفرقت الجادة جادّتين، فأخذ الشاب في واحدة وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحاب مع الشاب!

فقال الراهب: أنت خير منّي، لك استُجيب ولم يستجب لي، فخبّرني ما قصّتك؟

فأخبره بخبر المرأة.

فقال الراهب: غفر الله لك ما مضى حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما يستقبل».(19)

5 ـ عن علي بن أبي حمزة، قال: كان لي صديق من كُتابّ بني أُميّة فقال لي: استأذن على أبي عبد الله (الصادق (عليه السلام) )، فاستأذنت له، فاذن له.

فلمّا دخل سلّم وجلس، ثم قال: جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم، فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً وأغمضت(20)في مطالبه.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لولا أنّ بني أُميّة وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء، ويقاتل عنهم، ويشهد جماعتهم، لما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلاَّ ما وقع في أيديهم.

فقال الفتى: جعلت فداك، فهل لي مخرج منه؟

قال [الصادق (عليه السلام)]: إن قلت لك تفعل؟

قال: أفعل.

قال[ (عليه السلام) ]: فاخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم، فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدّقت به، وأنا أضمن لك على الله الجنّة.

فأطرق الفتى طويلاً، ثم قال له: قد فعلت جعلت فداك.

قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة. فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلاّ خرج منه، حتى ثيابه التي على بدنه، فقسمت له قسمة، واشترينا له ثياباً، وبعثنا إليه بنفقة.

فما أتى عليه إلاّ أشهر قلائل حتى مرض، فكنّا نعوده، فدخلت عليه يوماً وهو في السَّوق(21) ففتح عينه ثمّ قال: (يا علي، وفى لي واللهِ صاحبُك) ثم مات فتوليّنا أمره.

فخرجت حتّى دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام)، فلمّا نظر إلي قال: يا علي، وفينا واللهِ لصاحبك.

فقلت له: صدقت جعلت فداك، هكذا والله قال لي عند موته.(22).

6 ـ عن تويله بنت أسلم قالت: صلَّيت الظهر ـ أو العصر ـ في مسجد بني حارثة، فاستقبلنا مسجد إيلياء (أي بيت المقدس) فصلّينا سجدتين، ثم جاء من يخبرنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد استقبل البيت الحرام فتحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلو البيت الحرام، فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذلك فقال: اُولئك قوم آمنوا بالغيب(23).

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

.................................................

(1) النمل: 14.

(2) الجن: 13.

(3) نور الثقلين 1: 31.

(4) نور الثقلين 1: 31؛ البرهان 1: 53.

(5) البرهان 1: 54.

(6) البرهان 1: 56-57.

(7) مواهب الرحمن 1: 67.

(8) بحار الأنوار 4: 16.

(9) بحار الأنوار 4: 17.

(10) بحار الأنوار 3: 31-32.

(11) حق اليقين 1: 7.

(12) روضات الجنات 2: 147.

(13) بحار الأنوار 12: 225؛ النور المبين: 185.

(14) الفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلاً.

(15) أي يتضورّون من الجوع.

(16) أي يستيقظان على أثر الجوع فلا يجدان اللبن.

(17) بحار الأنوار 67: 379-380؛ الخصال 1: 87.

(18) بحار الأنوار 67: 410.

(19) النور المبين: 529-530.

(20) أي تساهلت في تحصيله، ولم أجتنب فيه الحرام.

(21) السَّوق: حالة نزع الروح من الميت.

(22) بحار الأنوار 47: 383، نقلاً عن الكافي 5: 106.

(23) الدر المنثور 1: 26.

اضف تعليق