لا ريب فيه

تفسير سورة البقرة..

التقسيم القرآني للناس والذي تضمّنته هذه الآيات الكريمة تقسيم مبتنٍ على أُسس عقائدية. فالقرآن لا يقسم الناس حسب التصنيف اللوني. ولا حسب المقاييس الجغرافية. ولا حسب الإنتماءات العرقية. ولا حسب الدرجات الاقتصادية. فكلُّ هذه الأُمور قشريّة زائلة، وإنّما يقسّمهم على أُسس عقائدية إلى (مؤمن، كافر، منافق). فمن صحّت...

وإذا كان القرآن الكريم بهذه المثابة فهو إذاً (لاَ رَيْبَ فِيهِ)..

و(الريب) لا يعني (الشك) فقط بل هو (الشكّ مصحوباً بنوع من الظن السيّئ).

تقول: (ارتبتُ في أمر فلان).

ولا تقول: (ارتبت في أنّ السماء تمطر أو لا) أو (في تناهي الأبعاد وعدمه) بل تقول: (شككت في ذلك).

وفي الحديث الشريف: (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك).

والجاهليون كان يشكون في هذا الكتاب، شكّا مصحوباً بالظنون السيّئة، حول ماهية هذا الكتاب، والمصدر الذي جاء منه.

ولذا ينفي القرآن ـ في قبال ذلك ـ شكّهم المصحوب بذلك الظن السيّئ بـ(لا) النافية للجنس والتي تدلّ على نفي جميع أفراد الطبيعة.. فلا يوجد هنالك أيُّ نوع من أنواع الريب في هذا الكتاب الكريم.

وقيل: إنّ (الريب) هو أدنى مراتب الشكّ، فلا يوجد هنالك أدنى شكٍّ في هذا الكتاب العظيم.

وقيل: الريب هو الشكُّ مطلقاً.. فهما لفظان مترادفان.

وحيث حذف متعلَّق الريب أفاد العموم، فلا ريب فيه من جهة نظمه وأُسلوبه، ولا من جهة علومه ومعارفه، ولا من جهة تنبؤاته وإخباراته، ولا من جهة تشريعاته وأحكامه، ولا من أيّة جهة من الجهات الأُخرى.

وتقول: كيف ينفي الريب عن القول الكريم بـ(لا) النافية للجنس، وقد ارتاب فيه الكثيرون؟.

والجواب

أوّلاً: المراد بذلك أنه ليس محّلاً للريب، وكيف يكون محّلاً للريب مع عجزهم عن الإتيان بمثله مع أنّ المواد التي تكوّن منها هذا القران في متناول أيديهم؟ وكيف يكون محّلاً للريب مع وضوح دلائله، واستحكام حججه، وعدم تناقضه، لا مع ذاته، ولا مع قوانين الكون، ولا مع هدى العقل، وذلك لا ينافي أن يرتاب فيه الجاهلون، كما تقول: (لا ريب في أنّ النار محرقة) وإن ارتاب في ذلك السوفسطائيون(1).

ثانياً: ريب الجاهلين: كـ (لا ريب)؛ إذ لا يستند إلى أيّة مبررات موضوعيّة تدعم وجوده، فنزّل وجوده منزلة عدمه.. كما في قوله (عليه السلام): «يا أشباه الرجال ولا رجال» حيث نزّل فقدان الوصف منزلة فقدان الأصل، ونفيت الحقيقية ادّعاءاً؛ لبعض النكات البلاغية.

ثالثاً: ويحتمل أن يراد بهذه الجملة الخبرية «لا ريب فيه» المعنى الإنشائي، أي أنّه يجب على الناس اليقين به، وعدم الارتياب فيه.

إلاّ أنّ سياق الآية الكريمة يأبى هذا الاحتمال.

ثم إنّه قد يسأل عن تقديم الريب على الجار والمجرور في قوله تعالى: (لاَ رَيْبَ فِيهِ) بينما عكس الأمر في قوله تعالى في وصف خمر الجنّة: (لاَ فِيهَا غَوْلٌ).

والجواب: إنّ القاعدة البلاغية تقتضي تقديم الأهم على المهم.

وها هنا الأهمّ هو نفي الريب بالكليّة عن الكتاب، ولو قيل: (لا فيه ريب) لأوهم أنّ المقصود هو أنّ هنالك كتاباً آخر حصل فيه الريب ولم يحصل في هذا الكتاب، بينما هذه المقارنة غير مقصودة هنا. بينما المقصود في قوله تعالى: (لاَ فِيهَا غَوْلٌ) هو تفضيل خمر الجنّة على خمور الدنيا، وبيان أنّها لا تغتال العقول كما تغتالها خمرة الدنيا(2).

ثلاثة مواقف

هكذا يكون القرآن الكريم حقيقة ثابتة لا ريب فيها، ولكن ما هي المواقف التي اتّخذها الناس تجاه هذا القرآن، وما احتواه من قيم وتشريعات؟

يقسم القرآن الناس إلى ثلاث مجموعات:

المجموعة الأُولى: المتّقون، وهؤلاء كانوا يشكّلون شريحة اجتماعية لها كيان واقعي على الأرض، وكانت هذه الشريحة تؤمن بالله واليوم الآخر. وتسير في خط الرسالة الإلهية.

والقرآن يمثل بالنسبة لهؤلاء هدى ونوراً. (هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ)(3).

المجموعة الثانية: الكافرون، ويراد بهم هنا تلك الشريحة الاجتماعية التي ظلّت مصرّة على مواقفها الخاطئة رغم قناعتها بصوابية الدين الجديد.

وهؤلاء أغلقوا نوافذ قلوبهم تجاه الحقّ، فلم يعد بإمكان النور القرآني أن ينفذ إلى قلوبهم، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)(4).

المجموعة الثالثة: المنافقون، وهم أُولئك الذين حملوا شخصيتين اثنتين، شخصية ظاهرية تمثّل الإيمان وشخصية واقعيّة تمثّل الكفر.

هؤلاء: حملوا (اسم) الإيمان، ولكنّهم حرموا أنفسهم من الاستفادة من (واقع) الإيمان.. صحيح أنّهم استفادوا بعض المكاسب الظاهرية التي وفّرها لهم المظهر الإيماني، لكنّ هذه الاستفادة مؤقّتة، فلا يمرّ زمن إلاّ وتنتهي وتذوب. (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اُسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ)(5).

هذه مجموعات ثلاث كانت تتحرّك على الأرض، وتمثّل كيانات حقيقية قائمة في الساحة، وقد تطرّق القرآن الكريم إلى كلّ واحدة منها كما سوف يأتي في الآيات القادمة إن شاء الله.

والجدير بالذكر: أنّ هذه المواقف الثلاثة تُتخَّذ أمام كلّ رسالة جديدة عادةً. فالبعض يؤمنون. والبعض يكفرون. والبعض يتذبذبون بين هؤلاء وهؤلاء.

التقسيم القرآني تقسيم عقائدي

ومن الجدير بالذكر: أنّ التقسيم القرآني للناس والذي تضمّنته هذه الآيات الكريمة تقسيم مبتنٍ على أُسس عقائدية.

فالقرآن لا يقسم الناس حسب التصنيف اللوني. ولا حسب المقاييس الجغرافية. ولا حسب الإنتماءات العرقية. ولا حسب الدرجات الاقتصادية.

فكلُّ هذه الأُمور قشريّة زائلة، وإنّما يقسّمهم على أُسس عقائدية إلى (مؤمن، كافر، منافق).

فمن صحّت عقيدته واستقام عمله وسلمت فطرته لا يمكن أن يساوى بمن زاغت عقيدته، وانحرف عمله، وسقُمت فطرته، وتفصيل ذلك سيأتي في البحوث القادمة بإذن الله.

وأوّل مجموعة تتناولها الآيات هم المتقون. وصفات المتّقين هي كالتالي:

1 ـ الإيمان بالغيب.

2 ـ إقامة الصلاة.

3 ـ الإنفاق ممّا رزقهم الله.

4 ـ الإيمان بما أُنزل على الرسول|.

5 ـ الإيمان بما أُنزل على الرسل السابقين.

6 ـ اليقين بالآخرة.

والقرآن يمثّل بالنسبة لهؤلاء هدى ونوراً.

وربّ سائل يسأل: إنّ هؤلاء مهديون، فكيف يكون القرآن هدى لهم؟

والجواب:

ألف ـ إنّ هذه الآيات تناولت شريحة اجتماعية قائمة بالفعل، وهي عبارة عن أُولئك المؤمنين الذين انضموا إلى الرسالة الجديدة وآمنوا بها، وكيّفوا حياتهم وفقها، هؤلاء وإن كانوا (عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ)(6) وبهذا الهدى انضموا إلى الرسالة إلاّ أنّ (الهداية) حقيقة تشكيكية ذات مراتب.. فيمكن أن يكون الإنسان (مهدياً) لامتلاكه درجة معيّنة من الهداية ـ لكنّ ذلك لا ينافي إمكان صعوده في مراتب الهداية كما في كلّ الحقائق التشكيكية الأُخرى(7).

وينبغي هنا أن نشير إلى أنّ مراتب الهداية غير متناهية.. على نحو (اللامتناهي اللايقفي)، فكّلما حاز الإنسان مرتبة من مراتب الهداية أمكن أن يرتقي إلى مرتبة أُخرى.. كمراتب الإعداد فإنّك كُلَّما تصورت عدداً أمكن أن يكون هنالك عدد أكبر منه.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الهداية، فكلّما تصوّرت مرتبة من مراتب الهداية فيمكن أن تتصور مرتبة أُخرى فوقها.

ومن هنا كان أولياء الله يردّدون في كل يوم عشر مرّات على الأقل ـ في صلواتهم الخمس المفروضة ـ .

(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)(8).

ومن هذا المنطلق نجد أنّ المتقين ـ الذين كانوا يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ـ إلى آخره، كانوا يقرأون القرآن كلّ يوم ليزدادوا هدى بالقرآن.

ومن هنا يعلم أن هناك هدايتين خُصّ بها (المتّقون):

1 ـ هداية أُولى أصبحوا بها (متّقين مؤمنين بالغيب مقيمين للصلاة. إلى آخره). وإلى هذه الهداية أُشير بقوله تعالى: (أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ).

2 ـ وهداية ثانية بها ازدادوا في مراتب التقوى.

وإليها أُشيرَ بقوله تعالى: (هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ). فالمتقون (محفوفون بهدايتين): هداية أُولى بها صاروا متقين، وهداية ثانية أكرمهم الله سبحانه بها بعد التقوى.

وبذلك صحّت المقابلة بين المتقين وبين الكفّار والمنافقين، فإنّه سبحانه يجعلهم في وصفهم بين ضلالين وعمائين: ضلال أوّل هو الموجب لأوصافهم الخبيثة من الكفر والنفاق، وضلال ثانٍ يتأكّد به ضلالهم الأوّل، ويتّصفون به بعد تحقّق الكفر والنفاق، كما يقول تعالى في حقّ الكفار: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ)(9) فنسب الختم إلى نفسه تعالى والغشاوة إلى أنفسهم، وكما يقول في حقّ المنافقين: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا)(10) فنسب المرض الأوّل إليهم، والمرض الثاني إلى نفسه وعلى حدّ ما يستفاد من قوله تعالى: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ)(11) وقوله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)(12).

وبالجملة: (المتّقون واقعون بين هدايتين، كما أنّ الكفّار والمنافقين واقعون بين ضلالين)(13).

ب ـ ويحتمل أن يكون استخدام كلمة (المتقين) في الآية الكريمة من باب (الأوّل) كما في (أَعْصِرُ خَمْرًا)(14) ـ أي: عنباً يؤول إلى الخمر ـ أي أنّ القرآن الكريم يصنع أفراداً من هذا الطراز.

كما نقول «فلان مربي الأطبّاء» أو «معلّم الأطبّاء» أي صانعهم وموجدهم، فالقرآن يصنع (المتقين) الذين يؤمنون بالغيب و..، بما فيه من الآيات والدلائل والتوجيهات.

وعلى هذا يتّحد مدلول (الهدايتين) في قوله تعالى: (هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ)(15) وقوله: (أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ)(16).

جـ ـ ذكر السيد الوالد ـ دام ظلّه ـ في تفسير الآية: (أي أنّ هذا القرآن هداية لمن اتّقى وخاف من التردّي، فإنّه هو الذي يهتدي بالقرآن، وإن كان القرآن صالحاً لأن يهدي الكلّ)(17).

ويؤيّد هذا التفسير ما روي عن الإمام العسكري (عليه السلام) حيث قال: «هدى للمتقين»: الذين يتّقون الموبقات، ويتّقون تسليط السفه، على أنّهم حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضا ربِّهم»(18).

فكما (أنّ فاعلية الفاعل شرط في الهداية التكوينية وفي الهداية التشريعية، كذلك قابلية القابل شرط أيضاً. فالأرض السبخة لا تثمر وإن هطل عليها المطر آلاف المرّات، إذ لا بدَّ أن تكون الأرض مستعدَّة لاستثمار ماء المطر المحيي. وساحة الوجود الإنساني لا تتقبّل بذور الهداية ما لم تنظف من اللَّجاج والتعصُّب والعناد؛ ولذا قال سبحانه في كتابه العزيز أنَّه (هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ))(19).

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

..............................................

(1) تقريب القرآن 1: 39.

(2) التفسير الكبير 2: 21.

(3) البقرة: 2.

(4) البقرة: 6.

(5) البقرة: 17.

(6) البقرة: 5.

(7) راجع ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الحمد: 6).

(8) الحمد: 6.

(9) البقرة: 10.

(10) البقرة: 26.

(11) البقرة: 26.

(12) الصف: 5.

(13) الميزان 1: 44.

(14) يوسف: 36.

(15) البقرة: 1.

(16) البقرة: 5.

(17) تقريب القرآن 1: 39-40.

(18) نور الثقلين 1: 28.

(19) الأمثل 1: 59.

اضف تعليق