القرآن الكريم يبيّن أنّ المواد التي تكوّن منها هذا القرآن في متناول أيديكم أيُّها البشر، فهو مكوّن من (ألف لام ميم) و(كاف ها يا عين صاد) ونحوها من الحروب الهجائيّة فعجزكم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، بل بسورة واحدة من مثل سوره، دليل على المصدر الغيبي لهذا الكتاب...

فضل سورة البقرة

1 ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) : «من قرأ البقرة وآل عمران جاءتا يوم القيامة تظّلانه على رأسه مثل الغمامتين ـ أو العباءتين»(1).

2 ـ عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنّ الله أوحى إليه: «أعطيت لك ولأُمتّك كنزاً من كنوز عرشي: فاتحة الكتاب، وخاتمة سورة البقرة»(2).

(بسم الله الرحمن الرحيم * الم *ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ *أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(3)

المفردات

(بِسْمِ اللَّهِ): أي: نبتدأ بهذا الإسم المبارك.

(الرَّحْمَانِ): ذو الرحمة الشاملة.

(الرَّحِيمُ): ذو الرحمة الدائمة.

(الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ): من جنس هذه الأحرف يتكوّن القرآن العظيم (وهنالك احتمالات أُخر في تفسير هذه الجملة).

(لاَ رَيْبَ فِيهِ): لا شكّ فيه.

(هُدَى): إرشاد، ودلالة على الطريق المستقيم.

(لِلْمُتَّقِينَ): للذين يتجنّبون السقوط في المهالك، ويتحذّرون الوقوع في المهاوي.

(يُؤْمِنُونَ): يصدقون ويذعنون.

(يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ): يأتون بها على الوجه المأمور به بشكل متواصل.

(الْمُفْلِحُونَ): الناجون ممّا يخافون، الفائزون بما يؤمّلون.

البدء بالبسملة.. لماذا؟

مضى نمط من الكلام حول هذا الموضوع في بداية سورة (الحمد) ونتحدّث هنا حول الموضوع من زاوية أُخرى.

إنّ التركيز على البدء بالبسملة في مفتتح كلّ سورة منهج ربّاني أدّب الله سبحانه وتعالى به عباده لكي يبدأوا أُمورهم كلّها باسم الله سبحانه.

ومن شأن هذا (الحضور اللفظي) لله سبحانه أمام كلّ أمر أن ينتهي إلى (الحضور الذهني) و(الحضور العملي) له تعالى في حياة الإنسان.

ولكي نلقي الضوء على هذه الحقيقة نقول: إنّ لكل شيء وجودات أربعة:

1 ـ الوجود الخارجي

وهو وجود الشيء في متن الأعيان بحيث تترتّب عليه آثاره الخارجيّة المترقَّبة منه.

2 ـ الوجود الذهني

وهو وجود الشيء في صفحات الأذهان بحيث لا تترتَّب عليه آثاره الخارجية المترقّبة منه.

فالنار بوجودها الخارجي تعطي الدفء والضوء والحرارة، بينما لا تترتّب عليها هذه الآثار بوجودها الذهني.

3 ـ الوجود اللفظي

وهو عبارة عن الرموز اللّفظية التي تمّ تواضع العرف عليها للإشارة إلى حقيقة من الحقائق الخارجيّة أو الذهنّية.

4 ـ الوجود الكتبي

وهو عبارة عن الرموز الكتبية التي وضعت للإشارة إلى حقيقة من تلك الحقائق.

وهذه الوجودات مترابطة، فحالات بعضها تؤثّر في حالات البعض الآخر، ووجود بعضها من شأنه أن يستتبع وجود البعض الآخر ـ ولو في الجملة ـ.

والشّق الأوّل ـ ترابط الحالات ـ تطرّق إليه علماء المنطق في بحوثهم المنطقية، والذي يهمّنا هنا هو بيان الشقّ الثاني ـ ترابط الوجودات ـ.

فالوجود اللفظي لحقيقة من الحقائق يترابط عادة مع الحضور الذهني لتلك الحقيقة، والحضور الذهني لها كثيراً ما ينتهي إلى (الحضور العملي) لتلك الحقيقة في حياة الإنسان.

وهذا ما يؤكّدهُ علماء الأخلاق حين يقولون: إنّ التلقين مؤثّر في توجيه السلوك الإنساني، فالذي يقول لنفسه كلّ صباح: (إنّني شجاع) قد يصبح شجاعاً بالفعل في حياته العملية.

وعلى أساس ذلك نقول: إنّ الحضور الإلهي اللّفظي أمام كلّ عمل يقوم به الإنسان، من طبيعته أن يؤدّي إلى الحضور الإلهي المستمر في ذهن الإنسان. والحضور الذهني لله تعالى ـ للحقيقة الإلهية ـ في الذهن كثيراً ما ينتهي إلى الحضور العملي لله تعالى في سلوك الإنسان، فلا يخطو خطوة إلاّ ويرى الله قبلها، ويحاول أن يكيّف سلوكه الخارجي وفق ما يريده الله سبحانه.

ومن هنا يقول القرآن الكريم: (إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(4).

ومن هنا ـ أيضاً ـ نجد التركيز الكبير على الذكر اللفظي لله سبحانه في مختلف حالات الإنسان.

فهناك ذكر معيّن؛ عند اليقظة من المنام. وآخر عند الوضوء. وثالث: عند الصلاة. ورابع: عند البدء بالطعام. وخامس: عند الإنتهاء من الطعام. والسادس: عند الخروج من الدار. وسابع: عند ركوب الدابة. وثامن: عند إرادة النوم. وهلّم جرّا(5).

وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إنْ سمعت الأذان وأنت على الخلاء فقل مثل ما يقول المؤذّن، ولا تدع ذكر الله عزّ وجلّ في تلك الحال، لأنّ ذكر الله حسن على كلِّ حال.

ثم قال (عليه السلام) : لمّا ناجى الله عزّ وجلّ موسى بن عمران (عليه السلام)، قال موسى: يا ربّ أبعيدٌ أنت منّي فأُناديك، أم قريب فأُناجيك؟

فأوحى الله عزَّ وجلَّ إليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني.

فقال موسى (عليه السلام) : يا ربّ إنني أكون في حال أُجِلُّكَ أن أذكرَك فيها.

قال: يا موسى، اذكرني على كلِّ حال»(6).

الإعجاز القرآني

(الحروف المقطعة) التي نجدها في هذه السورة وفي كثير من السُّور القرآنية الأُخرى ظاهرة أثارت الكثير من الأسئلة والاستفهامات.

وفي تعيين المقصود بهذه الحروف يوجد هنالك اتّجاهان:

الاتّجاه الأوّل: يرى أنّ هذه الحروف من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلاّ الله والراسخون في العلم، فهي مجهولة المفاد لنا إطلاقاً، وقد نصّ الله سبحانه على وجود المتشابهات في القرآن الكريم بقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)(7) (إلى أن يقول): (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(8).

الاتّجاه الثاني: يرى أنّ هذه الحروف من (المحكمات)(9).

فمدلولاتها معلومة والمقصود بها متّضح.

وفي هذا الاتّجاه هنالك عدّة تفسيرات:

ألف ـ إنّ هذه الحروف إشارة إلى أسماء الله سبحانه وصفاته، وقد ورد في الأدعية مناجاة الله بها فقد جاء (يا (كهيعص) ويا (حم *عسق)).

كما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «(أَلَمْ) هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطّع في القرآن، الذي يؤلِّفه النبيُّ (صلى الله عليه وآله) أو الإمام فإذا دعا به أُجيب»(10).

ب ـ إنّها إشارة إلى بعض الحوادث والآجال المستقبلية، وذلك طبق حساب الجمل الذي كان متداولاً في العصور القديمة.

جـ ـ إنّها إشارة إلى أهمّية الحروف الهجائيّة، ومزيد العناية الربّانية بها؛ لأنّها محور الشرائع السماوية والكتب الإلهية، بل بها تقوم الحياة الاجتماعية للبشر، ولأجلّ ذلك جعل الله سبحانه (البيان) ـ المتمثّل في النطق بها ـ موازياً لخلق الإنسان، فقال تعالى: (خَلَقَ الإِنْسَانَ *عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)(11).

وقد استغنى بذكر ما ذُكر منها عن ذكر البواقي، كما يُستغنى بذكر (أ ـ ب ـ جـ ـ د) عن ذكر الباقي، وبذكر (لاُمِّ عَمروٍ باللِّوى) عن ذكر باقي القصيدة.

د ـ إنّها تبيين لوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم.

ونلقي هنا بعض الضوء على هذا الاحتمال الأخير.

فمن الواضح أن كلّ شيء يستند في قوامه إلى علّتين:

أُولاهما: العلّة المادية.

والثانية: العلَّة الصوريّة.

مضافاً إلى علّتين أُخريين يتوقّف عليهما وجود المعلوم، وهما (العلة الفاعلية) و(الغائية) إلاّ أنّ هاتين العلّتين غير داخلتين في قوام المعلول.

أمّا العلّة الماديّة؛ فهي المادة (الخام) التي يتكوّن منها الشيء. وأمّا العلَّة الصوريّة؛ فهي الصورة التي تفاض على تلك المادة، فتكون شيئاً من الأشياء بحياله.

فالسرير ـ مثلاً ـ له علّة ماديّة هي (الخشب) أو (الحديد) أو نحوهما ـ وله علَّة صورية هي هذا الشكل الخاص الذي يمتاز به السرير عن الباب أو المنضدة ونحو ذلك.

والقرآن الكريم في هذه الآية الكريمة يبيّن أنّ المواد التي تكوّن منها هذا القرآن في متناول أيديكم أيُّها البشر، فهو مكوّن من (ألف ـ لام ـ ميم) و(كاف ـ ها ـ يا ـ عين ـ صاد) ونحوها من الحروب الهجائيّة فعجزكم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، بل بسورة واحدة من مثل سوره، دليل على المصدر الغيبي لهذا الكتاب.

ومن الجدير بالذكر أنّ كلمة (ذلك) يشار بها إلى (البعيد)، بينما كلمة (هذا) يشار بها إلى القريب.. ـ على ما هو المتبادر من إطلاق هاتين الكلمتين ـ والبعد تارة يكون ماديّاً وذلك عندما تكون هنالك فاصلة مكانيّة أو زمانيّة كبيرة تفصل بين شيئين. وأُخرى يكون معنويّاً وذلك عندما يكون الشيء عالي المقام رفيع المنزلة، والقرآن الكريم وإن كان قريباً إلى الأذهان من ناحية وضوح دلائله وجلاء براهينه، ولذا استُخدمت كلمة (هذا) مشاراً بها إلى القرآن في قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(12)، إلاّ أنه بعيد عنها من ناحية عجز البشر عن الإتيان بمثله؛ ولذا استُخدمت في مقام بيان هذا الإعجاز كلمة (ذلك) في قوله تعالى: (أَلَمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ) فهو بعيد في إعجازه، رغم أنّ الحروف التي يتألف منها في متناول جميع البشر ـ حتّى الأطفال والصبيان منهم ـ.

مؤيّدات

وهنالك مؤيّدات تعضد هذا التفسير:

الأوّل: إنّ أغلبية السور التي وردت فيها هذه الحروف المقطّعة أعقبتها بالإشارة إلى القرآن الكريم.

ونذكر فيما يلي بعض النماذج:

1 ـ (أَلَمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ)(13).

2 ـ (المص *كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(14).

3 ـ (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)(15).

4 ـ (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ)(16).

5 ـ (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(17).

6 ـ (طسم *تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ)(18).

7 ـ (طس ً تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ)(19).

8 ـ (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ)(20).

9 ـ (حم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)(21).

10 ـ (ق ً وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ)(22).

إلى غيرها من الآيات الكريمة.

الثاني: بعض الروايات الواردة في الموضوع.

فعن الإمام العسكري (عليه السلام) أنه قال: «كذّبت قريش واليهود بالقرآن وقالوا: «سحرٌ مبين تقوّله» فقال الله: (أَلَمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ) أي: يا محمَّد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو بالحروف المقطّعة التي منها «ألف ـ لام ـ ميم» وهي بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بساير شهدائكم، ثم بيّن أنّهم لا يقدرون عليه بقوله(قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(23)»(24).

الثالث: لم يحدثنا التاريخ أنّ العرب اتخذوا من هذه الحروف المقطّعة وسيلة للطعن في القرآن الكريم، والسُّخرية به، مع أنّهم كانوا يحاولون النفوذ من أيّة ثغرة مزعومة للنيل من القرآن، وهذا دليل على أنّهم كانوا يفهمون مغزى هذه الحروف ولو إجمالاً. فتأمّل.

القرآن يتحدى

1 ـ كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يكفُّ عن انتقاد آلهة المشركين، ويقرأ عليهم القرآن فيقولون: هذا شعر محمّد، ويقول بعضهم: بل هو كهانة، ويقول بعضهم: بل هو خطب.

وكان الوليد بن المغيرة شيخاً كبيراً، وكان من حكّام العرب يتحاكمون إليه في الأُمور وينشدونه الأشعار، فما اختاره من الشعر كان مختاراً لهم.. وكان من المستهزئين برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان عمّ أبي جهل.

فقالوا له: يا أبا عبد شمس، ما هذا الذي يقول محمّد، أسحر أم كهانة أم خُطَب؟

فقال: دعوني أسمع كلامه.

فدنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو جالس في الحجر.

فقال: يا محمد، أنشدني من شعرك!

فقال النبي (صلى الله عليه وآله) : ما هو بشعر، ولكنّه كلام الله الذي به بعث أنبياءه ورسله.

فقال الوليد: اتلُ عليَّ منه.

فقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) : سورة حم السجدة [فصلت] فلمّا بلغ إلى قوله (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ)(25).

فاقشعّر جلده وقامت كلُّ شعرة في رأسه ولحيته، ثمّ قام ومضى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش.

فقالت قريش: يا أبا الحكم، صبا(26) أبو عبد شمس إلى دين محمّد، أما تراه لم يرجع إلينا، وقد قبل قوله ومضى إلى منزله؟

فاغتّمت قريش من ذلك غمّاً شديداً، وغدا عليه أبو جهل، فقال: يا عمّ نكّست برؤوسنا وفضحتنا.

قال: وما ذاك يا ابن أخ؟

قال: صبوت إلى دين محمّد

فقال الوليد: ما صبوت وإنّي على دين قومي وآبائي، ولكن سمعت كلاماً صعباً تقشعرُّ منه الجلود.

فقال أبو جهل: أشعر هو؟

فقال الوليد: ما هو بشعر.

قال: فخُطَبٌ هي؟

فقال: لا، إنّ الخُطَب كلام متّصل، وهذا كلام منثور، ولا يشبه بعضه بعضاً، له طلاوة.

قال: فكهانة هي؟

فقال: لا.

قال: فما هو؟

فقال: دعني أُفكّر فيه

فلمّا كان من الغد قالوا: يا أبا عبد شمس ما تقول؟

فقال الوليد: قولوا هو سحر، فإنّه أخذ بقلوب الناس!

فأنزل الله تعالى فيه: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا *وَبَنِينَ شُهُودًا *وَمَهَّدْتُّ لَهُ تَمْهِيدًا *ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآِيَاتِنَا عَنِيدًا *سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا *إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ *سَأُصْلِيهِ سَقَرَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ *لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ *لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ *عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ)(27).

وفي حديث آخر: إنّ الوليد لمّا سمع ما تلاه عليه النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: «والله إنّ له لحلاوة، وانّ عليه لطلاوة(28)، وإنّ أعلاه لمثمر، وإنّ أسفله لمغدق(29)، وما يقول هذا بشر»(30).

2 ـ عن هشام بن الحكم قال: اجتمع ابن أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصاني الزنديق، وعبد الملك البصري، وابن المقفّع عند بيت الله الحرام، يستهزؤون بالحاجّ، ويطعنون بالقرآن.

فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ننقض ـ كلُّ واحد منّا ـ ربع القرآن، وميعادنا من قابل في هذا الموضع نجتمع فيه وقد نقضنا القرآن كلَّه، فإنَّ في نقض القرآن إبطال نبوَّة محمّد، وفي إبطال نبوّته إبطالٌ للإسلام وإثبات ما نحن فيه!

فاتفّقوا على ذلك، وافترقوا.

فلمّا كان من قابل اجتمعوا عند بيت الله الحرام.

فقال ابن أبي العوجاء: أمّا أنا فمفكّر منذ افترقنا في هذه الآية: (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا)(31) فما أقدر أن أضمّ إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكير فيما سواها.

وقال عبد الملك: وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ)(32) ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

وقال أبو شاكر: وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(33) لم أقدر على الإتيان بمثلها.

وقال ابن المقفّع: يا قوم إنّ هذا القرآن ليس من جنس كلام البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكّر في هذه الآية: (وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(34) لم أبلغ غاية المعرفة بها، ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

فبينما هم في ذلك، مرّ بهم جعفر بن محمّد الصادق (عليه السلام) فقال: (قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)(35).

فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهى أمر وصيّة محمّد إلاّ إلى جعفر، والله ما رأيناه قط إلاّ هبناه واقشعرّت جلودنا لهيبته. ثم تفرقوا مقرّين بالعجز(36).

3 ـ عندما أسلم (حمزة) عم النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ ورأت قريش أنّ المدّ الإسلامي في نموّ مطرّد ـ قام عتبة بن ربيعة يوماً في نادي قريش، والرسول (صلى الله عليه وآله) جالس في المسجد وحده، وقال: يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمّد فأكلمه، وأعرض عليه أُموراً، لعلّه يقبل بعضها، فنعطيه أيّها شاء، ويكفّ عنا؟.

فقالوا: بلى يا أبا الوليد، قم إليه فكلِّمه.

فقام عتبة وجاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) وجلس عنده وقال: يا ابن أخي، إنّك منّا حيث علمت من السلطة [الشرف] في العشيرة، والمكان في النسب، وإنّك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرّقتَ به جماعتهم، وسفّهت به أحلامهم، وعبِتَ به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منّي أعرض عليك أُموراً تنظر فيها لعلّك تقبل منها بعضها.

فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) : قل يا أبا الوليد، أسمع.

فاقترح الوليد عليه أُموراً منها أن يكفّ عن رسالته فتتخذه العرب ملكاً، وغير ذلك.

فلمّا فرغ عتبة من كلامه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : أقد فرغت يا أبا الوليد؟.

قال: نعم.

فقال الرسول (صلى الله عليه وآله) : فاسمع منّي.

قال: أفعل.

فقال الرسول (صلى الله عليه وآله) : بسم الله الرحمن الرحيم (حم *تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ *بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ *وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ)(37).

ثم مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقرؤها عليه، و(عتبة) منصت لها، ملقياً يديه خلف ظهره، معتمداً عليها، مذهولاً، إلى أن انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى آية السجدة فيها(38) فسجد.

ثمّ قال (صلى الله عليه وآله) : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.

فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله، لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.

فلمّا جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

قال: ورائي أنّي سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكونّن لقوله الذي سمعت منه نبأً عظيم، فإن تُصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزُّه عزُّكم، وكنتم أسعد الناس به.

فقالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.

قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.(39)

4 ـ قدم الطفيل بن عمر الدوسي مكّة ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بها، وكان الطفيل رجلاً شريفاً شاعراً لبيباً، فمشى إليه رجال من قريش.

وقالوا له: يا طفيل، إنّك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرّق جماعتنا وشتّت أمرنا، وإنّما قوله كالسحر، يفرّق بين الرجل وأبيه، وبينه وأخيه وزوجته. وإنّا نخشى عليك وقومك ما دخل علينا، فلا تكلّمنَّه، ولا تسمَعَنَّ منه شيئاً.

يقول الطفيل: فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئاً ولا أُكلِّمه، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا، فرقا من أن يبلغني شيء من قوله، وأنا لا أريد أن أسمع!.

قال: فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائم يصلّي عند الكعبة فقمت قريباً منه، فأبى الله إلاّ أن يسمعني بعض قوله، فسمعت كلاماً حسناً، فقلت في نفسي: «واُثكلَ أُميِّ، والله إنّي لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل؟ فإن كان الذي يأتي به حسناً قبلته، وإن كان قبيحاً تركته.

فمكثت حتّى انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى بيته، فاتبّعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه، فقلت: يا محمّد، إنّ قومك قد قالوا لي كذا وكذا، فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتّى سددتُ أُذني بكرسف، لئّلا أسمع قولك ثمّ أبى الله إلاّ أن يسمعني قولك، فسمعته قولاً حسناً، فاعرض عليَّ أمرك.

فعرض عليَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإسلام، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعت قولاً قط أحسن منه ولا أمراً أعدل منه.

فأسلمت وشهدت شهادة الحق(40).

5 ـ لما سمع (لبيد بن ربيعة) الشاعر الشهير ببلاغة منطقة وفصاحة لسانه ورصانة شعره أن محمّداً صلّى الله عليه وآله يتحدّى الناس بالقرآن قال بعض الأبيات ردّاً على ما سمع، وعلَّقها على باب الكعبة، وكان التعليق على باب الكعبة امتيازاً لم تدركه إلاّ فئة قليلة من كبار شعراء العرب، وحين رأى أحد المسلمين ذلك كتب بعض آيات القرآن الكريم وعلّقها إلى جوار أبيات لبيد، ومرّ لبيد بباب الكعبة في اليوم التالي فأذهلته الآيات القرآنيّة وصرخ من فوره قائلاً: (والله ما هذا بقول بشر، وأنا من المسلمين).

وكان من نتيجة تأثّر هذا الشاعر الكبير ببلاغة القرآن أنّه هجر الشعر، وقد قال له عمر يوماً: أنشدني شيئاً من شعرك، فقال: ما كنت لأقول شعراً بعد إذ علمني الله سورة البقرة وآل عمران(41).

ملاحظات حول الحروف المقطعة

1 ـ من الممكن أن يكون المقصود بهذه الحروف المقطّعة: أكثر من معنى (كما يقتضي ذلك الجمع بين الروايات الكريمة).

ويمكن افتراض ذلك على نحوين:

النحو الأوّل: أن يكون أحد المعاني هو المقصود، وتكون سائر المعاني من البطون.

النحو الثاني: أن يكون معنيان أو أكثر هو المقصود، بأن يستعمل اللَّفظ في أكثر من معنى من هذه المعاني.

وهذا النحو وإن أحاله بعض الأُصوليين، إلاَّ أنّ الحقّ أنّه ليس بمحال عقلاً، وإنّما يفتقر إلى القرينة الدالّة على ذلك، والمفروض وجودها في المقام، وتمام الكلام في محلّه.

2 ـ السور التي وردت فيها (الحروف المقطعة) تسع وعشرون سورة. وحروف الهيجاء في اللّغة العربية تسعة وعشرون حرفاً ـ بناء على عدّ الهمزة حرفاً مستقلاً.

3 ـ فواتح السور جاءت مختلفة الأعداد.

فبعضها جاء على حرف واحد مثل (ص).

وبعضها على حرفين مثل (طه).

وبعضها على ثلاثة أحرف مثل (ألم).

وبعضها على أربعة أحرف مثل (المص).

وبعضها على خمسة أحرف مثل (كهيعص).

ولعلّ السر فيه أن بناء كلمات العرب على الحرف والحرفين والثلاثة والأربعة والخمسة، فجاءت الأحرف المقطّعة مطابقة لما بنيت عليه الكلمات العربية.

4 ـ الحروف المقطعة أسماء، وهي تقرأ مقطّعة بذكر أسمائها لا مسمّياتها فيقال: (ألف. لام. ميم) ولا يقال (الم).

كما أنّها مبنية على السكون، فلا تعرب، كما يبنى العدد على الوقف فتقول (واحد. إثنان. ثلاثة).

5 ـ الحروف المقطّعة تكون ـ بعد توحيد المكرّرات منها وتركيبها ـ الجملة التالية: (صراطُ عليٍّ حقٌّ نُمسِكُه). أو: (عليٌّ صراطُ حقٍّ نُمسكه) فتدبّر.

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

....................................................

(1) البرهان 1: 52.

(2) بحار الأنوار 89: 263.

(3) البقرة: 1-5.

(4) العنكبوت: 29.

(5) راجع «مفاتيح الجنان» للمحدث القمي و«الدعاء والزيارة» للإمام الشيرازي.

(6) بحار الأنوار 77: 175-176.

(7) آل عمران: 3.

(8) آل عمران: 3.

(9) الملحوظ في «المحكمات» هنا: الوضع الفعلي.. ولو كان بالغير.. فكل ما اتضحت لنا دلالته فهو محكم ولو كان ذلك بسبب التبيين الخارجي.. ومنه يُعْلم المقصود بـ«المتشابهات» في هذا البحث فإنه ما لم تتضح لنا دلالته مطلقاً فتأمل.

(10) الصافي 1: 90.

(11) الرحمن: 3-4.

(12) الإسراء: 17.

(13) البقرة: 1-2.

(14) الأعراف: 1-2.

(15) هود: 1.

(16) الرعد: 1.

(17) إبراهيم: 1.

(18) الشعراء: 1-2.

(19) النمل: 1.

(20) ص: 1.

(21) غافر: 1-2.

(22) ق: 1.

(23) الإسراء: 91.

(24) نور الثقلين 1: 27-28؛ البرهان 1: 54.

(25) فصلت: 13.

(26) أي: مالَ.

(27) المدثر: 11-30.

(28) الطلاوة: الرونق والحسن.

(29) أغدق الشجر أي صارت له غدوق وشعب أو أزهر.

(30) بحار الأنوار 17: 211-212 (بتصرف) نقلاً عن اعلام الورى 27-28.

(31) يوسف: 80.

(32) الحج: 73.

(33) الأنبياء: 22.

(34) هود: 44.

(35) الإسراء: 88.

(36) بحار الأنوار 17: 213-214 (الهامش)، نقلاً عن الإحتجاج: 205.

(37) فصلت: 1-5.

(38) فصلت: 37.

(39) السيرة النبوية 1: 293-294.

(40) السيرة النبوية 1: 382-383.

(41) الإسلام يتحدّى: 109.

اضف تعليق