تذكّر النعم الإلهية التي تغمرنا في كلّ لحظة يدفع الإنسان على طريق العبودية؛ لأنّ الإنسان مفطور على أن يبحث عن صاحب النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على إنعامه. من هنا فإنّ علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون لهذا العلم إلى (وجوب شكر المنعم) باعتباره أمراً فطرياً...

المفردات

{الْحَمْدُ}: الشكر، أو الثناء باللِّسان على الجميل الاختياري.

{رَبِّ}: مالك الشي الذي يرعاه ويهتم بتربيته وإصلاح شؤونه.

{الْعَالَمِينَ}: جمع عالم، والعالم مجموعة من الموجودات المختلفة تشترك في صفة من الصفات، سواء كانت الصفة حقيقية أو انتزاعية أو اعتبارية، كعالم الإنسان وعالم الحيوان وعالم النبات.

الحمد: إلفات إلى الجانب المضيء من الحياة

للحياة جانبان: جانب مظلم وجانب مضيء.

الجانب المظلم يتمثل في الفقر والمرض والكوارث التي تحلُّ بالفرد أو بالمجتمع، وتدخل عليه الحزن والكآبة.

والجانب المضيء يتمثل في الغنى والصحة والانتصارات التي يحقِّقها الفرد في الحياة، ونحو ذلك.

وهذان الجانبان متشابكان في الحياة.. فلا يمكن أن يخلو منهما فرد أو مجتمع أبداً.

فالدنيا كما يقول الشاعر:

حلاوتُها ممزوجةٌ بمرارةٍ

وراحتُها مقرونةٌ بعناءِ

وهنالك أفراد يركّزون النظر على الجانب المظلم من الحياة، فهم لا يرون البعد الإيجابي في الحياة، وإنّما يركّزون النظر على الجوانب السلبيّة، وذلك ما يستتبع مضاعفات خطيرة على:

أوّلاً: نفس الإنسان، فلا يستمتع مثل هذا الفرد بما في الحياة من نعم، ولا بما منحه الله تعالى من طيّبات، بل يظلّ دائم الكآبة والحزن.

يقول الشاعر:

ليس من ماتَ فاستراحَ بِمَيْتٍ

إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأحياءِ

إنَّما المَيْتُ من يعيش كئيباً

كاسفاً بالُهُ قليلَ الرجاءِ

ثانياً: وحيث إنّ النفس مؤثّرة في البدن ـ كما ثبت ذلك في علم النفس وفي علم الطب، حيث إنّ الحالات النفسية للإنسان تنعكس على الأداء الفسيولوجي للأعضاء ـ لذا فإنّ هذا الفرد يصاب بأمراض جسديّة لا يجد عنها خلاصاً.

ثالثاً: وتنعكس هذه الحالة على سلوك الإنسان الخارجي، فيكون شخصاً سيِّئ الأخلاق، عنيف النزعة، لا يألف ولا يؤلف.

أمّا الذي يركّز النظر على الجانب الإيجابي من الحياة، فإنّه على العكس سيكون مرتاح النفس، صحيح الجسم، حسن العشرة، متحمّلاً لما في الحياة من متاعب وآلام.

ينقل أن كسرى سخط على بوذرجمهر ـ وكان وزيراً له ـ فحبسه في بيت مظلم وأمر أن يصفّد بالحديد فبقي أيّاماً على تلك الحال.

فأرسل كسرى إليه من يسأله عن حاله؟

فجاء الرسول فوجده منشرح الصدر مطمئن النفس.

فقال له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال!

فقال بوذرجمهر: اصطنعت معجوناً مركّباً من أخلاط معينّة واستعملتها، وهذا المعجون هو الذي أبقاني على ما ترون!

قال الرسول: صف لنا هذه الأخلاط لعلّنا ننتفع بها عند البلوى.

فقال: نعم.

أمّا الخلط الأوّل: فالثقة بالله عزَّ وجلَّ.

وأمّا الثاني: فكلُّ مقدَّر كائن.

وأمّا الثالث: فالصبر خير ما استعمله الممتحَن.

وأمّا الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أُعين على نفسي بالجزع.

وأمّا الخامس: فقد يكون أشدّ ممّا أنا فيه.

وأمّا السادس: فمن ساعة إلى ساعة فرج.

فبلغ ما قاله كسرى، فأطلقه وأعزّه(1).

هذا مع أنّ كسرى خيّر بوذرجمهر بأن ينتخب في خلال مدّة سجنه طعاماً واحداً، وملبساً واحداً، ومكاناً واحداً، لا يتعّداها إلى غيرها.

فاختار من الطعام: الحليب. ومن الملبس: الفرو. ومن المكان: السرداب.

سأله كسرى عن علّة هذا الاختيار؟

فقال بوذرجمهر: أمّا الحليب فإنّه طعام وشراب. وأمّا الفرو: فلأنه لباس الصيف والشتاء، إن لبُس هذا الجانب كان لباس الصيف، وإن لبس من الجانب الآخر كان لباس الشتاء.

وأمّا السرداب: فلأنه حار في الشتاء، وبارد في الصيف.

وفي الحديث: أن موسى (عليه السلام) قال لله تعالى: أرني أحبَّ خلقِك إليك، وأكثرَهم لك عبادة. فأمره الله تعالى أن ينتهي إلى قرية على ساحل بحر وأخبره أنه يجده في مكان قد سمّاه له.

فوصل (عليه السلام) إلى ذلك المكان، فوجد رجلاً مجذوماً مقعداً أبرص يسبّح لله تعالى.

فقال موسى (عليه السلام): يا جبرائيل أين الرجل الذي سألت ربي أن يُرِيني إيّاه.

فقال جبرئيل: هو يا كليم الله هذا.

فقال موسى (عليه السلام): يا جبرائيل إني كنت أحب أن أراه صوّاماً قوّاماً!

فقال جبرئيل: هذا أحب إلى الله تعالى وأعبد له من الصوّام القوّام، وقد أُمِرت [أي أمرني الله تعالى] بإذهاب عينيه، فاسمع ما يقول.

فأشار جبرئيل إلى عينيه فسالتا على خدّيه.

فقال الرجل مخاطباً الله تعالى: متّعتني بهما حيث شئت، وسلبتني إيّاهما حيث شئت، وأبقيت لي فيك طول الأمل يا بارّ يا وصول.

فقال له موسى (عليه السلام): يا عبد الله، إنّي رجل مجاب الدعوة، فإن أحببت أن أدعو لك الله تعالى يّرد عليك ما ذهب من جوارحك، ويبريك من العلّة فَعَلْتُ.

فقال الرجل رحمة الله عليه: لا أُريد شيئاً من ذلك، اختياره لي أحبّ إلي من اختياري لنفسي.

فقال له موسى (عليه السلام): سمعتك تقول: (يا بارّ يا وصول). ما هذا البرُّ والصِّلة الواصلان إليك من ربّك؟

فقال: ما أحد في هذا البلد يعرفه غيري ـ أو يعبده غيري ـ فراح موسى (عليه السلام) متعجّباً وقال: هذا أعبد أهل الدنيا(2).

وعلى كلّ حالٍ. فإنّ تكرار المسلم لكلمة (الحمد لله) كلّ يوم عشر مرّات على الأقل ـ في صلواته الخمسة المفروضة ـ إلفاتٌ إلى الجانب المضيء من الحياة، ولهذا الإلفات من الآثار النفسّية والجسدّية والإجتماعيّة ما لا يخفى ـ وقد اتّضح بعضها من خلال هذا البحث ـ.

هذا مضافاً إلى أنّ تذكّر النعم الإلهية التي تغمرنا في كلّ لحظة «يدفع الإنسان على طريق العبودية؛ لأنّ الإنسان مفطور على أن يبحث عن صاحب النعمة، ومفطور على أن يشكر المنعم على إنعامه. من هنا فإنّ علماء الكلام (علماء العقائد) يتطرقون في بحوثهم الأوليّة لهذا العلم إلى (وجوب شكر المنعم) باعتباره أمراً فطرياً وعقلياً دافعاً إلى معرفة الله سبحانه»(3).

وهنالك نقطة جديرة بالالتفات، وهي: أنّ (الجانب المظلم من الحياة) متمثلاً في المرض والفقر والزلازل ونحوها ـ وإن بدا (مظلماً) في النظرة العابرة، إلاّ أنه (مضيء) في واقعة عند النظرة المتأمّلة، وهذا ما سوف نتطرّق إليه في البحوث القادمة إن شاء الله تعالى.

تفسير آخر لـ(الحمد)

وثمّة تفسير آخر للحمد، وإن لم يكن مبايناً للتفسير الأوّل(4) وهو أن الحمد يعني (الثناء باللِّسان على الجميل الاختياري). وهذا التفسير ليس مبايناً للتفسير الأوّل، بل هو أعمّ منه؛ إذ يشمل التفسير الأوّل ويشمل غيره أيضاً.

وحسب التعبير المنطقي: (الحمد) أعمّ مطلقاً من (الشكر) ـ بحسب المورد، وإن كان أخصّ منه بحسب الآلة؛ إذ قد يؤدّي الشكر بالقول تارة وبالعمل تارة أُخرى، بينما الحمد يؤدى بالقول عادة ـ.

ولتوضيح هذا التفسير نقول: الصفات على نوعين:

1 ـ صفات متعدِّية، ونعني بها ـ هنا ـ تلك الصفات التي توصف بها الذات، بلحاظ خير يُفاض منها على الآخرين، كإطعام الفقير وتعليم الجاهل، والعفو عن المسيء، ونحو ذلك.

2 ـ صفات لازمة، ونعني بها ـ هنا ـ تلك الصفات التي تكون في أُفق الذات أو تنتزع منها بدون لحاظ الاعتبار السابق، كالعلم، والقدرة، والحياة، ونحو ذلك.

وعندما نقول: (الحمد لله) فإنّنا نثني بذلك على كلّ صفة جميلة في الله سبحانه، نثني على علمه كما نثني على جوده وعلى قدرته، كما نثني على عفوه، وهكذا. ونجد في الأدعية إشارات إلى هذه الحقيقة:

مثلاً نقرأ في دعاء الإفتتاح: «الحمد لله الذي ليس له منازع يعادله، ولا شبيه يشاكله، ولا ظهير يعاضده».

ونقرأ فيه أيضاً: «الحمد لله على حلمه بعد علمه، والحمد لله على عفوه بعد قدرته، والحمد لله على طولِ أناته في غضبه وهو قادر على ما يريد»(5).

(اختصاص الحمد باللَّه)

وقد ذكر بعض المفسِّرين أنّ الألف واللام في (الحمد لله) للجنس ـ أي أنّ طبيعة الحمد مختصِّة بالله سبحانه ـ كما ذكر بعض آخر أنّها للاستغراق ـ أي أنّ كلّ حمد فهو مختصٌّ بالله تعالى ـ. والمآل على كلا التفسيرين ـ هنا ـ واحد.

ويؤيّد معنى (الاختصاص) ـ ولو في الجملة ـ الحديث المرويُّ عن النبي (صلى الله عليه وآله) وقد جاء فيه: «فإذا قال العبد: «الحمد لله ربِّ العالمين» قال الله جلّ جلاله: حمدني عبدي، وعلم أنّ النعم التي له من عندي، وأنّ البلايا التي دفعت عنه فبتطولي..»(6).

والسبب في ذلك: إنّ جميع الكمالات الوجوديّة تنتهي إلى الله تعالى -بلا فرق في ذلك بين (الفواضل)، أي: الصفات المتعدِّية، أو (الفضائل)، أي: الصفات اللازمة-.

فإنّ كلّ ما سوى الله سبحانه ممكن ـ بالإمكان الماهوي، والإمكان الوجودي ـ ولا بدّ للمكن أن ينتهي إلى (الواجب) القائم بذاته والغني بذاته، فبالضرورة ينتهي كل شيء إلى الله سبحانه، فالشمس حينما تشرق، والأمطار حينما تهطل، والنبتة حينما تنمو.. و.. و.. فكلُّ ذلك معلول لعلله التكوينية الخاصّة.

وبتقدّم العلم في كل يوم، وتتوسّع (دائرة العلّية) في نظر الإنسان، فالإنسان يكتشف كلّ يوم عللاً خفية وراء الظواهر الطبيعية التي يعايشها، وعللاً وراء تلك العلل، ولكن مهما تصاعدت سلسلة العلل، فإنّها لا بدَّ أن تنتهي إلى سبب أوّل منه صدر كل شيء، وذلك السبب لا بدَّ أن يكون غنياً بالذات، وقائماً بالذات، غير مفتقرٍ إلى غيره، لاستحالة أن تتسلسل العلل إلى غير النهاية في منظار العقل. هذا في الدائرة الجبرية.

وأمّا في الدائرة الاختيارية: فجهود المصلحين، وإنجازات العباقرة، وعطايا الخيرِّين و.. و.. لم يكن لها أن تتمّ إلاّ بفضل المواهب التي أودعها الله تعالى فيهم. فكلُّ حمد وثناء في هذا الكون ينتهي إلى الله تعالى، وبالحقيقة هو حمد وثناء لله سبحانه.

قال الله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}(7).

وقال سبحانه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}(8).

وقد ذكر العلاّمة الطباطبائي: «أنّ مفاد الآية الأُولى: أنّ كل ما هو شيء فهو مخلوق لله سبحانه. ومفاد الآية الثانية: أنّ كل شيء مخلوق فهو حسن ـ من جهة أنه مخلوق له منسوب إليه ـ فالحسن يدور مدار الخلق وبالعكس. فلا خلق إلاّ وهو حسن جميل بإحسانه. ولا حسن إلاّ وهو مخلوق له منسوب إليه»(9).

ومن هنا كان الحمد مختصّاً بذاته المقدّسة.

قال الله تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ}(10).

وقال سبحانه: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}(11).

وقال جلّ وعلا: {لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُوْلَى وَالآخِرَةِ}(12).

ومن المقرّر في (علم البلاغة): أنّ تقديم ما من حقِّه التأخير يفيد الحصر، فتقديم الجار والمجرور في الآيات الكريمة دليل على انحصار الحمد في ذاته المقدّسة.

وقد روي عن جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، قال: فقد أبي بغلته، فقال: لئن ردّها اللهُ عليَّ لأحمدَّنه بمحامد يرضاها. فما لبث أن أُتي بها بسرجها ولجامها. فركبها، فلمّا استوى عليها رفع رأسه إلى السماء فقال: «(الحمد لله) لم يزد عليها!. فقيل له في ذلك، فقال: وهل تركت شيئاً أو أبقيت شيئاً؟. جعلت الحمد كلّه لله عزَّ وجلَّ»(13).

وفي رواية أُخرى أنه (عليه السلام)، قال: «ما تركت ولا بقّيت شيئاً، جعلت جميع أنواع المحامد لله عزَّ وجلّ، فما من حمد إلاّ وهو داخل فيما قلت»(14).

العناية المستمرة

والله سبحانه لم يخلق الخلق ثمّ يتركهم هملاً؛ لأنّه أرقى من أن يفكّر في موجودات تافهة كخلقه! كما كان يتصوَّر بعض الفلاسفة.

ولا أنّه خلق الكون، لتحكمه القوانين الطبيعية التي سنّها، دون أن يستطيع التدخُّل في سير الأُمور من بعد، كما كان يتصوّر اليهود، حيث قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}(15).

ولا أنّه خلق البشر وتركهم كالبهائم، دون أن يسنَّ لهم أيَّ قانون أو نظام؛ لأنّه وهو في عرش كبريائه فوق أنهم يهتم بالإنسان الظلوم الجهول ـ كما ذهب إلى ذلك بعض الفلاسفة الجدد ـ.

بل هو ـ سبحانه ـ ذو عناية مستمرة بالمخلوقات، ورعاية دائمة بالموجودات؛ لأنّ نفس الرحمة التي اقتضت خلق المخلوقات هي بنفسها تقتضي العناية والرعاية المستمرة بهذه المخلوقات.

أجل، إنّه (ربّ العالمين) فلا تقتصر رعايته على الإنسان وحده، بل تعمّ كل العوالم، عالم الجماد وعالم النبات وعالم الحيوان وغيرها من العوالم.

وقد روي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفسير (ربّ العالمين) أنه قال: (رب العالمين) هم الجماعات من كلّ مخلوق من الجمادات والحيوانات، فأمّا الحيوانات فهو يقلّبها في قدرته ويغذوها من رزقه ويحيطها بكنفه، ويدير كُلّاً منها بمصلحته. وأمّا الجمادات فهو يمسكها بقدرته، يمسك المتصّل منها أن يتهافت، ويمسك المتهافت منها أن يتلاصق، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه، ويمسك الأرض أن تنخسف إلاّ بأمره، إنه بعباده لرؤوف رحيم.

قال: و(رب العالمين) مالكهم وخالقهم وسائق أرزاقهم إليهم، من حيث هم يعلمون ومن حيث لا يعلمون(16).

وهذه التربية نوعان:

1 ـ تربية تكوينية، وذلك بالرعاية الشاملة لكلّ ما في الكون في الدائرة القسْرية.

يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ}(17).

ويقول سبحانه: {مَا مِنْ دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا}(18). ويقول جلَّ وعلاَّ: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى *وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}(19).

ويقول جلّ جلاله: {وَمَا مِنْ دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(20).

ويقول عزّ من قائل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}(21).

لاحظ هذه الصورة الحيّة الناصعة التي يرسمها القرآن الكريم للإحاطة الإلهية، وقارنها بتلك الصورة الباهتة المهتّزة التي رسمها بعض الفلاسفة، حيث قال بعضهم: إنّه ـ تعالى ـ لا يعلم بوجود ذاته، وقال بعض آخر: إنّه ـ سبحانه ـ لا يعلم بوجود مخلوقاته!

يقول السبزواري:

قد قيلَ لا علِمَ لهُ بذاتِهِ!

وقيلَ لا يَعْلَمُ مَعلولاتِهِ!(22)

وقد نقل: إن سليمان (عليه السلام) كان جالساً على شاطئ بحر، فبصر بنملة تحمل حبّة قمح تذهب بها نحو البحر، فجعل سليمان (عليه السلام) ينظر إليها حتى بلغت الماء، فإذا بضفدعة قد أخرجت رأسها من الماء ففتحت فاها، فدخلت النملة، وغاصت الضفدعة في البحر ساعة طويلة، وسليمان (عليه السلام) يتفكّر في ذلك متعجّباً.

ثمّ إنّ الضفدعة خرجت من الماء وفتحت فمها، فخرجت النملة ولم يكن معها الحبّة.

فدعاها سليمان (عليه السلام) وسألها عن شأنها وأين كانت؟ فقالت النملة: يا نبي الله إنّ في قعر البحر الذي تراه صخرة مجوّفة وفي جوفها دودة عمياء، وقد خلقها الله تعالى هنالك، فلا تقدر أن تخرج منها لطلب معاشها، وقد وكّلني الله برزقها، فأنا أحمل رزقها، وسخّر الله تعالى هذه الضفدعة لتحملني فلا يضرُّني الماء وأنا في فمها، وتضع فمها على ثقب الصخرة وأدخلها، ثمّ إذا أوصلت رزقها إليها وخرجت من ثقب الصخرة إلى فمها أخرجتني من البحر.

فقال سليمان (عليه السلام): وهل سمعت للنملة من تسبيحة؟

قالت الضفدعة: نعم، إنّها تقول: (يا من لا تنساني في جوف هذه اللُّجَّة برزقك، لا تنسَ عبادك المؤمنين برحمتك)(23).

2 ـ تربية تشريعية: ـ وذلك بسنّ القوانين وبعث الأنبياء لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وإرشادهم إلى ما يصلح دنياهم وآخرتهم.

وقد شملت هذه التربية كلّ شيء في حياة الإنسان، حتى أرش الخدش، كما ورد في الأحاديث الكريمة(24).

وسعادة الإنسان تكمن في خضوعه ـ باختياره ـ للتربية التشريعية، كخضوعه ـ قسراً ـ للتربية التكوينية. وسوف نفصّل الحديث في ذلك في البحوث القادمة بإذن الله تعالى.

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

..........................................

(1) سفينة البحار 2: 7.

(2) سفينة البحار 1: 524-525.

(3) الأمثل 1: 32.

(4) التفسير الأول هو أن الحمد مرادف للشكر كما ورد في رواية مروية عن الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: «الحمد لله» الشكر لله، بحار الأنوار 89: 229؛ البرهان 1: 46.

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال في حديث: «.. وأمّا قوله «الحمد لله رب العالمين» فذلك ثناء منا على ربنا تبارك وتعالى بما أنعم علينا» (بحار الأنوار 89: 259) وعن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) نحوه (بحار الأنوار 89: 246). وقد أشار إلى هذا المعنى الطوسي في التبيان حيث قال: «ومعنى الحمد لله الشكر لله خالصاً دون سائر ما يعبد. بما أنعم على عباده من ضروب النعم الدينية والدنيوية. وقال بعضهم: الحمد لله ثناء عليه بأسمائه وصفاته، وقوله الشكر لله ثناء على نعمه وأياديه، والأول أصحُّ في اللغة؛ لأن الحمد والشكر يوضع كل واحد منهم موضع صاحبه، ويقال أيضاً «الحمد لله شكراً» فنصب شكراً على المصدر، ولو لم يكن فبمعناه لمّا نصبه» (التبيان 1: 31).

(5) مفاتيح الجنان، دعاء الإفتتاح.

(6) بحار الأنوار 89: 226.

(7) غافر: 62.

(8) السجدة: 7.

(9) الميزان 1: 19.

(10) التغابن: 1.

(11) الروم: 18.

(12) القصص: 70.

(13) الدر المنثور 1: 120.

(14) البرهان 1: 46.

(15) المائدة: 63.

(16) بحار الأنوار 89: 246؛ نور الثقلين 1: 17؛ البرهان 1: 49.

(17) الرعد: 33.

(18) هود: 56.

(19) الأعلى: 2.

(20) هود: 6.

(21) الأنعام: 59.

(22) منظومة السبزواري: 159 (الطبعة الحجرية). وقد نقل العلاّمة المجلسي أن بعضهم أنكر كون الله تعالى عالماً بالجزئيات. بحار الأنوار 57: 198.

(23) النور المبين: 420 (بتصرّف).

(24) بحار الأنوار 2: 170.

اضف تعليق