المتقي هو الذي يتمتع بالقوة الكاملة، وهي: القوة تجاه الذات، فما أكثر الأقوياء في اتجاه الغير الضعفاء في اتجاه الذات فالقوي القشري، هو الذي يعرف السيطرة على غيره من الأفراد أو الأشياء. أما القوي الحق، فهو الذي يستطيع السيطرة على ذاته. ومن استطاع السيطرة على ذاته...
{بسم الله الرحمن الرحيم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}. النساء: الآية 1
شوه كلمة: (التقوى) إطلاقها على الذين تعودوا ـ لسبب، أو لآخر ـ المبالغة في الابتعاد عن الجنس، والحرام العبادي. أما التقوى: فهي مشتقة من مادة: (القوة)، و(المتقي) هو: الذي يتمتع بالقوة الكاملة، وهي: القوة تجاه الذات، فما أكثر الأقوياء في اتجاه الغير الضعفاء في اتجاه الذات! فالقوي القشري، هو: الذي يعرف السيطرة على غيره من الأفراد أو الأشياء. أما القوي الحق، فهو: الذي يستطيع السيطرة على ذاته. ومن استطاع السيطرة على ذاته، فلم يورطه الضعف في خيانة نفسه أو غيره، يستطيع ـ بكل سهولة ـ السيطرة على غيره ومن أسلمه ضعفه إلى خيانة نفسه أو غيره، حري بضعفه أن يسلمه ـ بدون مقاومة ـ إلى غيره من الأفراد أو الأشياء.
ولعل الحديث الشريف، يعبر عن هذا الواقع، وهو يقول:
«من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله من كل شيء»(1).
فالعاصي، هو: الضعيف الذي لا يملك إرادته، ولا إصدار قراراته، ولا اتخاذ مواقفه... وإنما يورطه ضعفه في الخيانة، والمتقي، هو: القوي الذي يملك إرادته، وإصدار قراراته، واتخاذ مواقفه... فلا يتورط في الخيانة.
فالقوي يصدق، لأنه يملك الجرأة على مواجهة الواقع. بينما الضعيف لا يملك الجرأة على مواجهة الواقع، فيتهرب منه بالكذب.
والقوي يعتاش من الطرق المشروعة المعلنة، لأنه يقدر على اقتحام الحياة، وكسب معاشه بفكره.. وعضله.. فيما الضعيف الذي يعتاش من الطرق المحرمة الخفية، لأنه لا يقدر على اقتحام الحياة، وكسب معاشه بفكره.. وعضله..
والقوي يلتزم العدل، لأن أعصابه تتحمل التغلب على الصعاب، بدون اللجوء إلى سحق الضعفاء. بينما الضعيف يظلم، لأن أعصابه لا تتحمل التغلب على الصعاب، إلا باللجوء إلى سحق الضعفاء ـ بمقياس القوة المادية.
والقوي يؤدي حقوقه، وحقوق غيره.. لأنه يجد من النشاط ما يغطي الحقوق التي عليه. فيما الضعيف عاق، لأنه لا يجد من النشاط ما يغطي الحقوق التي عليه.
والقوي أمين، لأنه يستطيع ترتيب أموره بدون اعتداء. بينما الضعيف خائن، لأنه لا يستطيع ترتيب أموره إلا باعتداء.
فالقوة: قوة الروح، تساعد على انتهاج الحق. والضعف ضعف الروح، يدفع إلى انتهاج الباطل.
والضعيف الذي لم يتزود ـ في المبدأ ـ بالقوة التي تعينه على تسخير الحياة للحق، يستطيع التغلب على ضعفه بالتزام خط التقوى، فهذا الالتزام ينمي ما فيه من قوة حتى تبلغ مداها، وتكون قوة محترمة تساعده على الاستفادة من تجربة الحياة. فيما القوي الذي تزود ـ في المبدأ ـ بالقوة التي تعينه على تسخير الحياة للحق، تتضاءل قوته بإهمال خط التقوى، فهذا الإهمال يربي ما فيه من ضعف حتى يبلغ مداه، ويطبع وجوده، فيتحطم في تجربة الحياة.
كما أن الجبان الذي يلتزم النظام العسكري، يكون له مستقبل عسكري محترم، لأن هذا الالتزام يذوب جبنه، وينمي ما فيه من شجاعة، حتى تخلع على حياته طابعها. والشجاع الذي لا يلتزم نظاماً عسكرياً، لا يكون له مستقبل عسكري محترم، لأن هذا الإهمال يذوب شجاعته، وينمي ما فيه من جبن، حتى يخلع على حياته طابعه.
وكما أن الفقير الذي يلتزم الخط التجاري يصبح غنياً، والغني الذي لا يلتزم الخط التجاري يصبح فقيراً.
وكما أن الجاهل الذي يلتزم الخط العلمي يغدو عالماً، والعالم الذي لا يلتزم الخط العلمي يتراجع جاهلاً.
فالممارسة الملتزمة، تظهر المواهب الكامنة. وعدم الممارسة الملتزمة، يقلص المواهب الظاهرة، ويدفعها إلى مجاهل الكمون.
وهذه سنة من السنن العامة في الحياة. وكما في الإنسان، كذلك في غير الإنسان:
فالحيوانات ـ بالتربية العلمية ـ تؤهل لممارسة أدوار مثيرة والبيضة.. والحبة.. والنواة.. ـ بالتربية ـ تنمو، حتى كأنها خلقت خلقاً جديداً. والحصباء ـ بالتربية ـ تكون أحجاراً كريمة. وحبات الرمل ـ بالتربية التكنولوجية ـ تتكلم، وتنقل الصوت والصورة. وقطع المعدن ـ بالتربية التكنولوجية ـ تفكر، وتصحح ما يخطأ فيه الفكر البشري... وهكذا.. في كل شيء، فكيف بالإنسان الذي هو أكثر استعداداً ـ من غيره ـ للتطور والانفتاح؟!
فالتزام خط التقوى: يطور الضعيف حتى كأنه خلق خلقاً جديداً لا يمت إلى أصله بصلة، ويكون الفاصل بينهما كالفاصل بينه وبين النطفة التي تطورت إليه، وكالفاصل بين البذرة والشجرة، أو كالفاصل بين الرمل والمخترعات الحديثة.
صحيح: أن النسب تبقى محفوظة، فالتزام خط التقوى يطور القوي بالنسبة ذاتها التي يطور بها الضعيف، حتى يبقى الفاصل بين الضعيف المتقي وبين القوي المتقي كالفاصل بين الضعيف والقوي في التزامهما بخط التقوى. ولكن ذلك: ليس من بواعث يأس الضعيف، وإنما هو من بواعث تصعيد درجة التزامه، ونوعية التزامه، حتى يعوض بهما عن ضعفه المبدئي.
كما أن جباناً وشجاعاً، لو التزما بنظام عسكري، بدرجة واحدة، تبقى النسبة بينهما محفوظة. وكما أن فقيراً وغنياً، لو التزما بخط تجاري، بدرجة واحدة، تبقى النسبة بينهما محفوظة. وكما أن جاهلاً وعالماً، لو التزما بخط علمي، بدرجة واحدة، تبقى النسبة بينهما محفوظة... وكل ذلك: من البواعث على تحطيم النسبة بينهما، بدرجة.. ونوعية.. الالتزام.
فـ{يا أيها الناس! اتقوا ربكم} لتكونوا أقوياء، تتميزون بصفات تؤهلكم لكل ما هو أفضل.. وأبقى..
ولا تعتذروا ـ أيها الضعفاء! ـ بضعفكم المبدئي، فربكم لم يكن جائراً في توزيع مواهبه عليكم، حتى يوفرها على بعضكم ويقترها على بعضكم بلا سبب، وإنما هو حكيم في معاملة خلقه، والحكيم الذي لا ترقى إليه المؤثرات، وقد اشتقكم ـ جميعاً ـ من مادة واحدة بلا تفاضل، فهو {الذي خلقكم من نفس واحدة}، فكنتم سواسية في الخلق المبدئي، وإنما أنتم الذين تفاضلتم فيما بعد ـ ولو قبل عالم الدنيا ـ: فمنكم من سعى، وواصل مسعاه بلا تذبذب، فبدأ عمله ـ في عالم الدنيا ـ من منتهى رفيع. ومنكم من لم يسع.. أو سعى، ولم يواصل، متذبذباً، خلط الصالح بالسيئ.. أو سعى معاكساً، فبدأ ـ في عالم الدنيا ـ من الصفر، أو من تحت ركام، حمله معه إلى هذا العالم.. أو جاء إلى هذا العالم معقداً بالمعاكسات السابقة، فوجد من الصعب تصحيح مسيرته، فيواصل السعي المعاكس.
فمن جاء إلى هذا بكمال، فإنما اكتسبه بجهوده الإيجابية.. ومن جاء بقصور، فإنما اكتسبه بجهوده السلبية.. فربكم لم يتحمل قصوركم، حتى تحملوه نتائجه.
ولا تعتذرن ـ أيتها النساء! ـ بضعفكن المبدئي بالقياس إلى الرجال. فأنتن، بالنسبة إلى الوظائف المطلوبة منكن، مؤهلات، تماماً.. كالرجال بالنسبة إلى الوظائف المطلوبة منهم.
ثم: أنتن، وهم، سواء في الاشتقاق من المادة الأولى، وكما هم.
ولا تعتذرن ـ أيتها النساء! ـ بضعفكن المبدئي بالقياس إلى الرجال، لتحميل الله تقصيركن:
1ـ فأنتن مؤهلات للوظائف المطلوبة منكن، كما أن الرجال مؤهلون للوظائف المطلوبة منهم. وأنتن تتكاملن بالتزامها، كتكاملهم بالتزامها.
2ـ أنتن، وهم، سواء في الاشتقاق من المادة الأولى. فربكن الذين خلق الرجال من نفس واحدة، لم يفرط بكن فيخلقكن من غيرها، {و} إنما {خلق منها} ـ ذاتها ـ {زوجها}. فالمرأة ليست من فصيلة غير فصيلة الرجل، وإنما هما ـ معاً ـ فصيلتان متزاملتان، من منبع واحد، ومصدر اشتقاقهما واحد.
3ـ إن المرأة لم تنفصل عن الرجل في سيرها الخلقي ـ فيما بعد ـ، كما أن الرجل لم ينفصل عن المرأة في سيره الخلقي ـ فيما بعد ـ. فما من مرأة إلا وهي ابنة رجل، وما من رجل إلا وهو ابن امرأة. فالعنصران ـ المرأة، والرجل ـ موجودان في كل امرأة ورجل، ومشاطران إنجاب كل امرأة ورجل.
{و} ربكن الذي خلق الرجال من نفس واحدة، لم يكتف بخلق زوجها منها في التسوية بين العنصرين، وإنما أشركهما ـ معاً ـ في تكثيرهما العددي، فـ{بث منهما} ـ معاً ـ {رجالاً كثيراً.. ونساءً..}.
فسلبيات المرأة الخلقية: في كمية المواد الكيماوية المتركبة منها، بالقياس إلى كمية المواد الكيماوية المتركب منها الرجل.. وغزارة عواطفها.. وسائر مواصفاتها القصورية.. التي نعبر عن جميعها بـ: (الأنوثة)؛ يمكن إرجاعها إلى المرأة ذاتها. وقد تكون لها أسباب أخرى لا نعلمها.. ولكن الشيء الإجمالي الذي نتأكد منه ـ وهو سيطرة الحكمة العادلة على الكون كله ـ يدعنا متأكدين من أن كل قاصر مسؤول عن قصوره بشكل أو بآخر، كما يدعنا متأكدين من أن كل كامل سعى إلى كماله بشكل أو بآخر.
فالمرأة هي المسؤولة عن سلبياتها. والذي يولد مشوها أو قاصراً، أو من أصل متخلف، هو المسؤول عن ولادته بذلك الشكل.
كما أن الذي يولد سليماً، أو كاملاً، أو من أصل متقدم، هو الساعي إلى ذلك.
ولا يشترط ـ في هذا المجال ـ معرفة كامل التفاصيل، فالذي يكفي ـ في هذا المجال ـ هو: ما نعرفه، بوضوح، عن عدالة الحكمة المسيرة للكون. هذه العدالة التي تتجسد في جميع التصرفات الكونية، التي نبني عليها حياتنا.. وأفكارنا.. ومخترعاتنا.. سواء في تطور وتوالد الجماد، أو النبات، أو الحيوان، أو الإنسان.
وهذه العدالة تقضي بعدم إيجاد صنف قاصر وصنف كامل، وعدم إيجاد شخص مشوه وشخص سليم، وعدم إيجاد مجموعة خطاءة ومجموعة غير خطاءة... وتقضي بتسوية الجميع في الخلقة المبدئية، ثم تركهم لأعمالهم، فأعمالهم هي التي تنعكس عليهم نقصاً أو كاملاً.
وكل عمل له أثر طبيعي معين يخلعه على عامله، وبتكاثر وتنوع الأعمال تتكاثر وتتنوع الآثار، وتفاعلها يؤدي إلى اختلاف الناس، هذا الاختلاف الكبير الذي لم يترك صنفين.. أو شخصين.. متطابقين في شيءٍ من الأشياء.
اضف تعليق