القانون الإلهي يشكّل حلقة في سلسلة متكاملة ولِبنة في بناء تشريعي تكويني شامل الإخلال به يشكّل إخلالاً بالمنظومة التشريعية التكوينية الإلهية بأكملها وبذلك تكون الجريمة في إهمال هذا القانون العظيم أو استبداله بغيره، جريمة مزدوجة فهو يعد من جهة إعراضاً عن قانون إلهي، وهو يشكل...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً)(1) وقال جل اسمه: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ)(2).
في هاتين الآيتين الكريمتين بصائر كثيرة وفيهما مباحث عديدة أيضاً، ولنبدأ ببعض البصائر:
(الأرض للناس) حلقة في منظومة عالم التشريع والتكوين
البصيرة الأولى: ان هذا القانون الإلهي (لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) يشكّل حلقة في سلسلة متكاملة ولِبنة في بناء تشريعي – تكويني شامل يشد بعضه أزَر بعض ويعضد بعضه بعضاً بل ويتوقف بعضه على بعض.. وعليه: فان الإخلال به يشكّل – لا محالة – إخلالاً بالمنظومة التشريعية – التكوينية الإلهية بأكملها.. وبذلك تكون الجريمة في إهمال هذا القانون العظيم أو استبداله بغيره، جريمة مزدوجة فهو يعد من جهة إعراضاً عن قانون إلهي، وهو يشكل من جهة إخلالاً بالمنظومة كلها.
وذلك يعني ان هذا القانون يشكل مع سائر القوانين الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية الإسلامية، ما يشبه (الحقائق الارتباطية).
ولعل لذلك، لأجل ان حقائق عالم التشريع، حقائق ارتباطية ورد قوله تعالى: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(3) ويقول (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(4) و(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)(5) و(وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(6) فانه إذا لم يحكم حتى بواحد من أحكام الله تعالى فهو كافر بالمنظومة كلها لا بهذه الآية فحسب، وهو بذلك نظير أيضاً للإيمان بالرسل فانه حقيقة ترابطية إذ يقول تعالى (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)(7).
الهندسة الإلهية العامة لحياة البشرية
والنظر إلى الآيتين الكريمتين اللتين تضمنت احداهما هذا المقطع (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) يدلنا بوضوح على المشهد كله وان قانون (خَلَقَ لَكُمْ) لهو جزء لا يتجزأ من هندسة الله تعالى البالغة الحِكمة والإتقان، لعالمي التشريع والتكوين، فلاحظ مجموع الآيتين الكريمتين في سورة البقرة (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ)(8) والاستفهام الاستنكاري في الآية الكريمة منصبّ على إستبشاع الكفر بالله تعالى معلّلاً ذلك بان أ- مبدأكم بيد الله تعالى (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) فله عليكم فضل الحياة بعد الموت، ب- كما ان منتهاكم بيد الله تعالى (ثُمَّ يُميتُكُمْ ثُمَّ يُحْييكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، ج- كما ان حياتكم الدنيا هذه، وهي بينهما: بين المبدأ والمعاد، بيد الله تعالى حيث كان منه رزقكم وفي نعمته قراركم وتحت سمائه مستقركم ومثواكم (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) فكيف تكفرون بالله تعالى وحلقات نِعَمِه عليكم لا تنقطع بدواً ووسطاً وختاماً؟
مبررات الكفر ثلاثة
وذلك يعني فيما يعني، فيما يستشمّ منه، ان مبررات الكفر، ولو فيما قد يتوهم الكافر لأن الخطاب لهم (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ...) هي هذه الثلاثة: (إذا لم يكن الله تعالى هو الخالق والمبدأ، أو لم يكن هو الرزاق والمنعم، أو لم يكن إليه الحشر والنشور والمعاد والمصير) مادام ان الإنسان لا يحق له عقلاً ان يكفر بالله تعالى وقد أحكم جل اسمه حلقات الإنعام عليه.. فإذا استهدف أحدهم، كبعض الفلاسفة أو كالحكومات الجائرة، احدى هذه الحلقات فانه يفتح بذلك باب الكفر على الله تعالى للكثير من الناس على مصراعيه!
ألا ترى ان الفيلسوف إذا انكر مبدأ الخِلقة وادعى الصِّدفة واننا خلقنا لا بسبب فاعلٍ ولا بعلة مدّعياً إمكان تحقق المعلول بلا علة والممكن ذاتاً بلا سبب، فانه يعبّد بذلك الطريق إلى الكفر بالله العظيم؟
ومن عوامل الكفر مصادرة حق الناس في الأرض!
فكذلك إذا صادرت الحكومات حقهم في استثمار الأراضي وإحيائها فمنعتهم عن زراعتها وحجبتهم عن استصلاحها وإحيائها وعمرانها والاستمتاع بخيراتها واستخراج معادنها واستثمارها، فانها ستفتح بذلك، عملياً، الباب للكفر بالله العظيم؛ ألم يقل الإمام عليه السلام: ((كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً))(9) و((الْفَقْرُ هُوَ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ))(10).
ويشهد على ذلك العكس أيضاً إذ يقول جل اسمه (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ * الَّذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(11) فان (الَّذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) كأنه واقع موقع التعليل (فَلْيَعْبُدُوا) لأن شكر المنعِم بأعظم درجات النعِم حيث تنتهي إليه تعالى كل النعم، لا يكون إلا بأعظم درجات الشكر وهي العبادة.
وصفوة القول: ان الله تعالى خلق الخلق وضمن لهم أرزاقهم وما به قوام معاشهم وحياتهم إذ خلق لهم ما في الأرض جميعاً من أشجار وأثمار واطيار ومن حيوانات برية وبحرية ومن معادن وثروات مختلفة، وكان من مقتضيات حكمته البالغة ان يصب كل ذلك في الهدف من الخلقة (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(12) ولذا عاقبهم وأنكر عليهم بقوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ).
وعليه: فان نقض قانون ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا))(13) و(خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) هو نقض لواحد من أهم السبل التي تسير بهذا الإنسان نحو تحقيق الغرض من الخلقة، فليست جريمة هدم هذا القانون ونقضه، جريمةً محدودة بحدود نقض قانون إلهي واحد (وإن كان نقض أي قانون لله تعالى فانه جريمة لا تغتفر، فكيف بمثل هذا القانون الذي وضع لسعادة كافة البشر؟) بل هو إخلال بالمنظومة الإلهية وبهدفها الأسمى كونه عملية عرقلة لسير الخلق إلى عبادة الرب الذي اعتبره جل اسمه الغرض من الخلقة.
الاجتهاد في مقابل حكم رب العباد!
وقوله تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليمٌ) مرشد عظيم إلى مدى جهل البشر إذ يحاولون تغيير القوانين الإلهية متذرّعين بألف دليل ودليل وألف حجة وحجة، بل يقومون بذلك فعلاً، مستندين إلى قاعدة (الاجتهاد في مقابل الرب جل اسمه)! ولسان حالهم يقول: (قال الله وأقول!): قال الله (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) وقال على لسان رسوله العظيم صلى الله عليه واله وسلم ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) وأقول: الأرض للحكومات! سواء أقال بان الأرض ملك للحكومات أم قال بانها تحت سلطنتها، مع انه، وكما سبق، لم ترد آية ولا رواية بان الأرض للحكومات ملكاً أو سلطنة، مع انه وردت عشرات الآيات والروايات بمضمون (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) و(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَميعاً مِنْهُ إِنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(14).
هل ينافي مقام الامتنان مقام التشريع؟
البصيرة الثانية: ان قوله تعالى (هُوَ الَّذي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) وارد في مقام الامتنان فان الله تعالى يمنّ علينا ويتفضل بان خلق كل ما في الأرض لنا وبان وضع الأرض للأنام، فذلك التشريع القانوني الاستراتيجي هو مما امتنّ به تعالى علينا جميعاً.
وقد توهم بعض الأعلام التنافي بين مقام الامتنان ومقام التشريع فقال: (بيان: الآية الكريمة مسوقة في مقام الامتنان أي إكرامه تعالى لخلقه بكلّ ما يحتاجون إليه في معاشهم وحياتهم، والآيات الواردة في سياق الامتنان لا يصح أن يستدلّ بها على حلّية شيء من موارد الامتنان، فلا يجوز أن يقال في قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) أنّ جميع الناس مالكون للأرض على حدّ سواء. وكذا الآيات الكثيرة منها قوله تعالى: (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ)(15).
وكم فرق بين ما ورد في سياق الامتنان وبين ما ورد في مقام التشريع.
فما ذكره في جوامع الجامع: "وفي هذا دلالة على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة إلى أن يمنع الشرع بالنهي وجائز لكل أحد أن يتناولها ويستنفع بها"
في نهاية الضعف فإن الإباحة مستندة إلى أصل مسلّم آخر ذكره الفقهاء – رضوان الله عليهم – في الأصول العملية)(16).
مقام الامتنان يؤكد مقام التشريع
لكنه غير تام بل غريب؛ فانه لا تنافي بين المقامين ولا تضاد، بل ان مقتضى مقام الامتنان هو تشريع مثل هذا القانون الذي يسهّل على البشر أمور معاشهم ويتيح لهم الحرية في الاستمتاع بخيرات الدنيا التي خلقها لأجلهم (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ)(17) ألا ترى ان الأعلام استدلوا بحديث ((لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ))(18) الوارد مورد الامتنان على انه لا يوجد حكم ضرري في الإسلام أو انه نفي للحكم بلسان نفي موضوعه أو ما أشبه (من الأقوال الستة) وجامعها انّ (لا ضرر) امتنانيٌ.
وبعبارة أخرى: مقتضى رحمته وفضله ومنّه ان يمنحنا ذلك كله إذ انه (الرَّحْمنِ الرَّحيمِ) و(يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)(19) و((بُعِثْتُ إِلَيْكُمْ بِالْحَنَفِيَّةِ السَّمْحَةِ))(20) و(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)(21).
وكأنّ الذي دفعه إلى توهم انه ليس تشريعاً لكونه امتناناً، ان كونه تشريعاً يقتضي ان يكون الناس جميعاً مالكين للأرض على حد سواء! وقد أجبنا عنه سابقاً بأجوبة عديدة، فراجع لكن إجمال عنوان بعضها: ان اللام للنفع لا للملك الفعلي أو هي للعاقبة لا للملك الفعلي، وانها لو كانت للملك لما أفادت ملك الناس بالفعل لكل الأراضي، إذ هي انحلالية مشروطة بما تذكره سائر الآيات والروايات مثل ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) فقد خلق الله تعالى الأرض لينتفع بها الناس أو ليملكوها لكن بشرط حيازتها وإعمارها فـ(من حاز ملك).
والحاصل: ان سياق الامتنان فيما كان تشريعه مِنّة وفضلاً يؤكد تشريعه ولا يضاده! هذا
قانون (الأرض للناس) يقضي على الطلاق والإدمان والكآبة والانتحار
وقد سبق ان قانون ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) يشكل أحد أهم عوامل إعمار الأرض وتطور الزراعة والتجارة والقضاء، بدرجة كبيرة جداً، على الفقر والتضخم والبطالة، وحتى على الأمراض وإلى حد كبير، ونضيف: ان هذا القانون الإلهي يتموّج إيجابياً على حياة البشرية بأكملها، فانه، لدى التدبر، من أهم عوامل السيطرة على النِّسَب والمعدلات الآخذة في الارتفاع من الطلاق وتفكك العوائل، وبعبارة أخرى: انه يعدّ واحداً من أهم عوامل استقرار الأسر والعوائل ورفاهها وسعادتها مما يؤدي طبيعياً إلى تقليص مساحة الطلاق بشكل كبير جداً، كما انه، إضافة إلى ذلك، عامل من أهم عوامل تحجيم إقبال الناس على المخدرات، وهو إلى ذلك عامل من أهم عوامل القضاء، إلى حد كبير، على أنواع عديدة من الفساد الأخلاقي والمالي والإداري وشبه ذلك.
والسبب في ذلك واضح جداً؛ فان الطلاق، ومرض الكآبة، والانتحار، وحتى الكثير من أنواع سوء الخلق والتوترات في العوائل، وشبه ذلك، تنجم فيما تنجم عنه من العيش في البيوت الضيقة وجوّ المدن الخانق وفقدان فرص العمل وشبه ذلك، وقد سبق ان تطبيق قانون ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) يوفّر مساحات هائلة من الأراضي للناس وبذلك يكون من السهل للعوائل امتلاك أراضي بمساحة ألف متر أو أقل أو أكثر وبناء دور ومنازل عليها أو مزارع أو حظائر للدجاج أو للماشية وغير ذلك ومن الواضح ان ((مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ الْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ))(22) ومن شقائه الدار الضيقة، فإذا كانت الدار وسيعة وكانت إلى جوارها مزرعة أو حظيرة أو شبه ذلك، وانشغل الرجل وزوجته في الزراعة والرعي وغير ذلك، فان الأمراض ستنحسر بشكل كبير جداً، وستكون صحة العوائل في حالة مثالية، كما نجد ذلك جلياً في القرويين وأصحاب المزارع بالقياس إلى الحضريين، كما سيتمتع أعضاء الأسرة بأعصاب هادئة؛ إذ توفر الزراعة بيئة نفسية مريحة إلى أبعد الحدود، كما تؤثر على سلامة البيئة ونقاء الجو إذ تمتص الأشجار ثاني أوكسيد الكربون وتعطي الأوكسجين النقي..
كما ان الفساد الأخلاقي سيفقد مبرراته إلى درجة كبيرة جداً إذ سيكون بمقدور الشباب الزواج حينئذٍ ببساطة عكس ما لو كانت الارض للحكومات إذ ترتفع أسعار المنازل ويكون شراء الأرض أو استئجار المنزل فوق طاقة الملايين من الشباب، بينما لو كانت الأرض متاحة بالمجان فان الزواج سيكون حينئذٍ من أسهل ما يكون: فإما في بيوت الوالدين والتي لا بد ان تكون واسعة على المفترض إذ اتيحت لهم فرصة حيازة أراضٍ كبيرة مجاناً، وإما في بيوت يبنونها بأنفسهم من دون ان يتحملوا أعباء تكلفة مرهقة جداً وهي شراء الأرض.. وقد أوضحنا ذلك فيما مضى وسيأتي مزيد إن شاء الله تعالى.
وبذلك أيضاً يتضح لنا بُعد آخر من أبعاد البصيرة الأولى الآنفة في الآية الشريفة: من ان هذا القانون الإلهي هو جزء من منظومة متكاملة تصبّ في تيسير تحقق الهدف من الخلقة، وهو عبادة الله تعالى وإطاعته، حيث ظهر لنا ان تنفيذ هذا القانون يسهل الزواج ويحاصر الفساد ويزيح الأمراض ويقضي على أكثر مبررات الانتحار والإدمان وغير ذلك.
وهل لفاعلية قانون (الأرض للناس) من برهان تجريبي؟
ولكن ومع ذلك كله: قد يشك بعض الناس في مدى فاعلية هذا القانون على المستوى التطبيقي ويقول: ان الفلسفة التي ذُكرت عن جدوائية (الأرض للناس) وفوائدها ومنافعها، ما هي إلا بحث نظري لكننا لا نعتمد على النظريات والأفكار والبحوث العقلية المجردة! بل نريد دليلاً تجريباً ملموساً..
وهنا نقول لهم: هَبْ اننا سلّمنا ذلك (وان الاستدلال العقلي والآيات والروايات فرضاً غير كافية كبرهان على صحة نظرية أو فكرة أو مبدأ أو قانون) لكن التجارب التاريخية تشهد لصحة هذه النظرية بشكل مذهل! وقد استشهدنا سابقاً بالبصرة والمدى المذهل الذي وصلت إليه زراعتها وعمرانها إبّان حكومة قاعدة ((الْأَرْضَ لِلَّهِ وَلِمَنْ عَمَرَهَا)) قبل قرون، فلنستشهد الآن بمصر لنرى بوضوح الأثر الكبير بل والمذهل الذي تركه قانون الأرض لمن عمرها في القرون الماضية على توسع الزراعة واكتساحها لمساحات شاسعة جداً من الأراضي لا يرقى إليه الخيال المعاصر أصلاً! وذلك رغم بدائية آلاتهم إلى أبعد الحدود ورغم تسلح الحكومات في الحال الحاضر بالأموال الهائلة ورغم التطور التكنولوجي الكبير جداً في مختلف عوامل الإنتاج كآلات الري والحرث والتعقيم وحفر الجداول والترع والآبار وشق الأنهار وبناء السدود وغير ذلك، فلنلاحظ الأرقام التالية:
مقارنة الزراعة في مصر الآن وقبل ألف عام
أ- فلقد كانت مساحة الأرض المزروعة في مصر حوالي عام 1800م مليون فدّان (والفدان يساوي 4200 متراً) أي حوالي 1600 ميل مربع.
ب- ثم ازدادت المساحة خلال حوالي قرن من الزمن فوصلت في عام 1910م إلى ثمانية ملايين فدان (وقيل ستة ملايين ونصف المليون) أي ما يعادل 12.976 ميلاً مربعاً...
قال في تاريخ التمدن الإسلامي (القطر المصري اليوم (حوالي سنة 1910م) في نهضة مالية تضاعفت فيها الثروة إلى حد استغربه الناس وخافوا رد الفعل لأنهم رأوا غلاءً في الأسعار، مفاجئاً لم يعهدوا مثله، وزادت مساحة الارض الزراعية ستة أضعافها في قرن واحد. فبعد أن كانت مساحتها في أيام المماليك نحو مليون فدان وبعض المليون صارت ثمانية ملايين فدان. وبعد أن كان الفدان يباع ببضعة عشر جُنيهاً بِيع بمائة جنيه أو مائة وخمسين جُنيهاً أو أكثر)(23)
ج- لكن مساحة الأرض المزروعة قبل ذلك بأكثر من ألف سنة، كانت عدة أضعاف ذلك حيث بلغت فترة تراجعها 24 مليون فدان وبلغت فترة أوجها (عام 107 هـ) 30 مليون فدان أي حوالي أربعة أضعاف عام 1910 وثلاثين ضعف عام 1800! وذلك رغم ان الآلات في ذلك الزمن لم تكن تتجاوز محراثاً بسيطاً جداً تجره الثيران والتي يديرها المزارع، اما الأجهزة الحديثة فصار بمقدورها زراعة مائة ضعف بل أكثر من الأرض في نفس المدة الزمنية وبإدارة مزارع واحد فقط! ومع ذلك نرى هذا الفرق المذهل لصالح الزمن القديم!
قال في تاريخ التمدن الإسلامي (ويقال نحو ذلك في الأرض الزراعية، فانهم استخرجوا مساحتها بالإحصاءات الرسمية لأجل تعديل الخراج. منها إحصاء لعبيد الله بن الحبحاب سنة 107هـ فبلغت مساحة الارض الزراعية مما يركبه النيل 30.000.000 فدان، أي نحو أربعة أضعاف ما بلغت إليه مساحتها اليوم، مع اجتهاد حكومتنا في تعميم وسائل الري ببناء الجسور والخزانات وما لدينا من آلات الحرث والزرع. فإذا سبق إلى أذهاننا الاستخفاف برواية العرب حكمنا لأول وهلة وبلا تردد انها مكذوبة أما إذا نظرنا فيها نظر الناقد المحقق فلا نعدم الوصول إلى الحقيقة فالمقريزي وغيره من رواة هذا الإحصاء لم يقولوه عرضاً ولا تركوا في قولهم التباساً، وذكروا في أمكنة أخرى أن الأرض الزراعية نقصت في أيام ابن المدبر، أي بعد قرن ونصف قرن، إلى 24.000.000 فدان، ولم يكتفوا بذكر المساحة ولكنهم ذكروا عدد العمال الذين كانوا يشتغلون بالحرث والزرع، واشترطوا عدداً معلوماً منهم فإذا نقص نقصت غلة الأرض)(24) وقال: (لأن مساحة مصر الجغرافية اليوم، وفيها الواحات والبادية الواقعة بين النيل والبحر الأحمر والعريش، نحو 400.000 ميل مربع، معظمها صحراء قاحلة. أما الأرض الزراعية فمساحتها 17.826 ميلاً مربعاً، يخرج منها 4.850 ميلاً مسطحات النيل والترع والمستنقعات والبحيرات ونحوها، فالباقي 12.976 ميلاً مربعاً، أي نحو 8.000.000 فدان وهي الأرض المزروعة الآن فلا سبيل إلى المزيد.
ولكن يؤخذ مما نقله العرب عن أحوال مصر في ابان تمدنهم، ومما جاء من أخبارها القديمة، أن حدودها الزراعية كانت أوسع من ذلك كثيراً – ذكروا أنها كانت تمتد من الغرب وراء صحراء الاسكندرية إلى برقة وتتصل من الشرق بحدود السويس إلى العريش، ومعظم المسافة هناك اليوم رمال قاحلة ولكنها كانت تزرع قديماً بالزعفران والعصفر وقصب السكر وكان ماؤها غزيراً، ولا تزال آثار العمارة باقية في تلك البقاع، فان تحت الرمال تربة سوداء زراعية يعرفها من اختبر الأرض بالمسبار)(25).
ولم يكن السبب وارد ذلك إلا ان الحكومات في ذلك الزمن لم تضع أياديها على تلك الأراضي الشاسعة (وإن كانت تقتطع أحياناً أراضي قليلة أو كثيرة للمحسوبين عليها لكنه كان الاستثناء ولم يكن الأصل ان يحتاج من يريد حيازة أرض أو إعمارها إلى ان يأخذ إجازة وإذناً من الحكومة وان يدفع رسوماً وأن يطارد الأوراق الرسمية من دائرة إلى أخرى) وهذا كله رغم ان الحكومات كانت تأخذ الخراج من الأراضي هذه (وكثيراً ما كان مجحفاً) إلا ان الناس اقبلوا على عمارة الأرض وزراعتها بشكل مذهل إذ لم يكن هناك إصر وغل يمنعهم من زراعتها، والقاعدة العامة هي انه كلما رفعت الأغلال والآصار أو خفضت وقللت، كلما انطلق الناس نحو الزراعة والبناء والعطاء والتقدم أكثر قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتي كانَتْ عَلَيْهِمْ)(26).
ولو ان حكومة مصر والسودان وسوريا والعراق وإيران وغيرها رفعت يدها عن أراضي الله الشاسعة ولم تمنع الناس عن زراعتها واستثمارها إلا بإذن وإجازة والغت الشروط والقيود والروتين والرسوم، لرأيتم نهضة مذهلة تعمّ شرق البلاد وعرضها، وستجدون الحياة تدبّ فجأة في الناس كافة فينطلقون بالملايين لزراعة الأراضي ولبناء المنازل والمصانع والمحلات والحظائر وغير ذلك، وسوف لا تمضي خمس أو عشر سنين إلا وتتحول الأرض (مع العمل ببعض القوانين الأخرى المعاضدة – كما سنتحدث عنها في بحث قادم) إلى جنة غنّاء خضراء يانعة قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)(27) وإن من الإيمان الإيمان بقوانين الله تعالى الحيوية التي صرح بها في القرآن الكريم ومن تقوى الله تعالى العمل بها ومن التكذيب الإعراض عنها ومنها الآية مورد البحث (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَميعاً) وذلك ما سيحدث في زمان الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف حيث ورد ان المرأة تخرج من بيتها ومعها زنبيلها على رأسها فيمتلأ، وهي ماشية، من الثمرات التي تتساقط من الأشجار المثمرة على حافتي الطريق، هذا.
وقد سبق في البحث السابق:
(التدخل الحكومي يُفسِد أكثر مما يُصلِح، لجهاتٍ خمس
أولاً: لأن الحكومة تميل بطبعها إلى التمركز وإلى المزيد من الاستئثار والاستبداد فيحتكر المسؤولون، شيئاً فشيئاً، الأراضي الكثيرة الجيدة لهم ولأقربائهم وأحزابهم وجماعاتهم.
ثانياً: لأن الحكومة بطبعها تميل إلى قول (لا) لأي طلب يطلب منها، إلا بابتزازٍ ورشوة ومحسوبيات ومنسوبيات.
ثالثاً: لأن الحكومة بطبعها تميل إلى المزيد من البيروقراطية والروتين والتعقيدات والتقييدات الإدارية.
رابعاً: لأن الحكومة تتركز في أيديها سلطات وقوى مذهلة: كقوة السلاح، عبر الجيش والشرطة والاستخبارات وشبهها وكسلطة التحكم في العلاقات مع سائر دول العالم عبر وزارة الخارجية، وكالقوى المذهلة التي تخوّلها إياها وزارات الزراعة والتجارة والصناعة وغيرها، فكلما أضيفت لها صلاحية جديدة وقدرة جديدة (كقدرة ضبط الأراضي والتحكم فيها) كان خطر انقلابها إلى سَبُع ضارٍ يغتنم أكلهم كما قال الأمير عليه السلام ((وَلَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُم))(28) أكبر فأكبر، وقد فصّلنا طريقة تقسيم السلطات بشكل أكثر تطوراً في كتاب (السلطات العشر والبرلمانات المتوازية) فراجع.
وخامساً: لأن الحكومة هي أقل كفاءة، بدون قياس، من مؤسسات المجتمع المدني والشركات الأهلية والنظام اللامركزي للسوق)(29).
سيكولوجية الحكومات: (لا) للطلبات والعمل والإنتاج!
ويوضح النقطة الثانية: اننا عند دراسة سيكولوجية الحكومات، نشهد هذه الحقيقة تتجلى كأوضح ما يكون.. إذ ان شاكلة الحكومات هي قول (لا) لأي طلب يطلب منها، إلا بألف شرط وقيد، وإلا بروتين وبيروقراطية، وإلا بعد رشوة أو شبهها.. وبعبارة أخرى: ان الحكومات تتميز بالبخل الشديد كأشد ما يكون البخل!
وكان السيد الوالد قدس سره يقول: بان الحكومات الاستبدادية شأنها الرفض لأي طلب أو مشروع أو مبادرة تقدّم لها، ولذلك فان 98% مما يقدم للحكومات والمسؤولين يُرفض (إلا بشروط وتعقيد وتأخير ورشوة وغير ذلك كما سبق) ولذلك فانه قدس سره كان يوصي الكل بتجاهل وجود الحكومة الظالمة قدر المستطاع وتأسيس المشاريع الخدمية والتجارية والمؤسسات الإنسانية والإسلامية دون استئذان منها، لتكون كأمرٍ واقع، والتجربة تقول ان ذلك لو تمّ بحكمة وبدون ضجيج فان 98% من المشاريع ستستمر وستبقى وستغلق الحكومة 2% منها فقط على العكس مما لو جرى استئذان الحكومات.. وقد جربت ذلك شخصياً حيث استشارنا أحد العلماء في احدى البلاد المجاورة في تأسيس حوزة علمية هناك.. فشجعته على الفكرة جداً.. فقال لكن الحكومة لا تسمح! فقلت: إن استأذنتموها فانها سوف لا تسمح لأنه مخالف للقانون بزعمهم.. ولكن ابدأوا ببناء المدرسة، بعنوان سكنٍ شخصي مثلاً، ثم ابدأوا الدروس فيها بدون ضجيج، والأمل بالله ان يُعمى أبصارهم عنكم.. وقد فعل كما أوصيته.. وقد مضت حوالي عشرون سنة على بناء تلك المدرسة وقد تخرّج منها المئات من الخطباء والكتاب والعلماء ولم تغلقها الحكومة ولله الحمد!
حكومة الكوربوقراطيات المعاصرة!
ومن الضروري في الخاتمة ان نشير إلى ان الحكومات في العالم الديمقراطي ليست بمنأى عن القاعدة الكلية التي ذكرناها (وهي ان الحكومات تفسد أكثر مما تصلح، لأكثر الجهات الخمس السابقة) وهذا مما يحتاج إلى عقد بحث مستقل ومستوعب ومطوّل، ولكن نكتفي ههنا بإشارة واحدة مقتضبة فقط، وهي ان الحكومات الديمقراطية قد تطورت جداً في العصر الحديث إذ أضحت مزيجاً من تحالف الحكومة (السلطة التنفيذية) والشركات الكبرى (الكارتلات) والبنوك المركزية، فهذا المجموع هو الذي يدير، في الواقع، الدول المسماة بالديمقراطية، وهذا النمط من الحكومة سمي بالكوربوقراطية Corporatocracy وسيكون من المذهل حقاً لنا إن اكتشفنا حجم الجرائم بحق الإنسانية التي اضطلعت بها كوربوقراطيات عالم اليوم، ومنها القضية التالية:
شركة شيفرون ترمي يومياً ملايين النفايات السامة في الاكوادور!
فعلى سبيل المثال في 7 مايو عام 2003م تقدم مجموعة من المحامين الأمريكيين يمثلون حوالي ثلاثين ألفاً من الأهالي في الإكوادور، ورفعوا قضية تعويض بمليار دولار على شركة شيفرون تكساكو، وتؤكد القضية انه بين عامي 1971 و1992م كان هذا العملاق البترولي يلقي حوالي أربعة ملايين جالون(30) يومياً من النفايات المسمّمة بالبترول والمعادن الثقيلة ومخلفات حيوانات قشرية في الأنهار، وفي حفر في الأرض، كما أن هذه الشركة تركت وراءها 350 حفرة مكشوفة من المخلفات والتي ما زالت تتسبب في مقتل البشر والحيوانات على حد سواء)(31) (ولكم ان تتصوروا الملايين من البشر والأطفال والشيوخ والشباب المتضررين بذلك التسميم الرهيب للمياه وللبيئة).
وهذا هو غيض من فيض مما كُشف لنا إلى جوار بعض القضايا الأخرى، لكن ما خفي أعظم فأعظم! ولولا ان مجموعة من المحامين الأمريكيين تصدوا للملف وفضحوا الشركة (بعد ان دفع لهم موكلوهم من أهالي الأكوادور مبالغ جيدة) لما سمع بهذه الجريمة الكبرى بحق الإنسانية أحد.
بل لو نقل مثل ذلك ناقل لاتهم بالكذب أو الوهم والخرافة أو على الأقل لشكك الناس في صدق روايته واكتفوا باننا لا نجد دليلاً عليها فلا نصدق ولا نكذب!
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق