إنّ التحابّ في جلال الله مفتاح من أهم مفاتيح بناء المدينة الفاضلة التي ارتأى العديد من الفلاسفة استحالتها الوقوعية، لكنها في متناول اليد تماماً إذا التزمنا بواحد من أحاديث الإمام الصادق الآتية، حيث أن العمل بهذا الحديث بمفرده يتكفل بالقضاء تماماً، أو إلى درجة كبيرة جداً، على أربعة من...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[1]
والملفت في الآية الكريمة هو حصر المؤمنين في الإخوة، لا العكس، فلم يقل جل اسمه إنما الإخوة المؤمنون؛ إذ غير المؤمنين قد يكونون إخوة أيضاً[2]، بل قال (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، فكأنهم محض الإخوة أي هم عين الإخوة، أي ان هذه الصفة بلغت من شدتها فيهم ووضوحها وجلائها حتى كأنهم ممحضون فيها ولا تجدهم إلا إخوة بجميع مظاهر الاخوة وظواهرها وتجلياتها وألوانها.
وعليه: فإن لم يكن المؤمنون إخوة فإنّ إيمانهم منزَّل منزلة العدم أي كأنهم ليسوا بمؤمنين أو ليسوا بمؤمنين أصلاً تنزيلاً نظير (يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ)[3]
والحديث يقع في ضمن محاور، على ضوء الآية الكريمة وروايات الإمام الصادق (عليه السلام).
المحور الأول: التحابّ في جلال الله.
المحور الثاني: الاستكثار من الإخوان.
المحور الثالث: هجران الإخوان[4].
التحابّ في جلال الله مفتاح المدينة الفاضلة
المحور الأول: إنّ التحابّ في جلال الله مفتاح من أهم مفاتيح بناء المدينة الفاضلة التي ارتأى العديد من الفلاسفة استحالتها الوقوعية، لكنها في متناول اليد تماماً إذا التزمنا بواحد من أحاديث الإمام الصادق (عليه السلام) الآتية، حيث أن العمل بهذا الحديث بمفرده يتكفل بالقضاء تماماً، أو إلى درجة كبيرة جداً، على أربعة من أخطر وأهم المعضلات التي كانت ولا تزال تواجه البشرية على امتداد التاريخ وهي: الفقر، الجريمة، التضخم والبطالة.
إضافة إلى ذلك فإن العمل بهذا الحديث يكفل للإنسان، على المستوى الشخصي، السعادة والنجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، وهل يوجد فينا من يزهد في السعادة والنجاح والفلاح ويرغب في الشقاء والفشل والخسران المبين؟
والحديث هو: (سِتُّ خِصَالٍ، مَنْ كُنَّ فِيهِ، كَانَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ يَمِينِ اللَّهِ.
فَقَالَ ابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ: وَمَا هُنَّ؟ جُعِلْتُ فِدَاكَ.
قَالَ: يُحِبُّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِأَعَزِّ أَهْلِهِ، وَيَكْرَهُ الْمَرْءَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ مَا يَكْرَهُ لِأَعَزِّ أَهْلِهِ، وَيُنَاصِحُهُ الْوَلَايَةَ.
فَبَكَى ابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ، وَقَالَ: كَيْفَ يُنَاصِحُهُ الْوَلَايَةَ؟...
وَأَمَّا الَّذِينَ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ، فَلَوْ أَنَّهُمْ يَرَاهُمْ مَنْ دُونَهُمْ، لَمْ يَهْنَئْهُمُ الْعَيْشُ مِمَّا يَرَوْنَ مِنْ فَضْلِهِمْ.
فَقَالَ ابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ: وَمَا لَهُمْ لَا يُرَوْنَ، وَهُمْ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ؟
فَقَالَ: يَا ابْنَ أَبِي يَعْفُورٍ، إِنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِنُورِ اللَّهِ، أَمَا بَلَغَكَ الْحَدِيثُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ يَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ خَلْقًا عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ، بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وَعَنْ يَمِينِ اللَّهِ، وُجُوهُهُمْ أَبْيَضُ مِنَ الثَّلْجِ، وَأَضْوَأُ مِنَ الشَّمْسِ الضَّاحِيَةِ، يَسْأَلُ السَّائِلُ: مَا هَؤُلَاءِ؟ فَيُقَالُ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَحَابُّوا فِي جَلَالِ اللَّهِ)[5].
وهنا إضاءات:
ما معنى جلال الله؟
الأولى: أنَّ الجلال يعني العظمة والمجد تقول أمر جلل أي عظيم خطير، وتقول: جلّ تعالى عن أن يُرى أي عظم وكبر وامتنع لذلك من أن يُرى، وجلال الله يعني عظمة الله ومجده وجبروته وقوته، وفي الآية الشريفة (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)[6]، و(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ * وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)[7]، والإكرام يعني انه ذو رحمة ولطف وكرامة بالمؤمنين وإكرام لهم (وهو الأظهر من أن يكون المراد: كونه مُكرَماً يعرف الناس كرامته، بل الظاهر إرادة معنى الفاعل).
وعليه: فمعنى (الَّذِينَ تَحَابُّوا فِي جَلَالِ اللَّهِ) الذين يحب بعضهم بعضاً لا لأجل المنفعة أو المال، ولا لأجل الرياسة، أو الشهرة، أو الجمال كما يحب الناس المشاهير ومن يسمون بالنجوم... بل إنما يحب بعضهم بعضاً في عظمة الله وجبروته وكبرائه سواءً ءأخذنا (في) سببية أم ظرفية... أي إنَّ سبب حب أحدهم للآخر لم يكن لأجل أنه ينال منه مالاً أو شهرة أو تترشح عليه منه رياسة وسلطة أو يحظى بلذة أو يتمتع بجمال أو يصل إلى منفعة شخصية، كما هو دأب أكثر الناس في حبهم وبغضهم، بل إنما يحب أحدهم الآخر لله وفي الله، وفي جلال الله: أي إنّ عظمة الله تعالى هي التي تدفعهم لكي يحب بعضهم بعضاً ويصل بعضهم بعضاً؛ فـ (في) سببية، أو هي ظرفية: حيث انهم جميعاً خاضعون لعظمته مذعنون لجلاله، بل لأنهم يستشعرون عظمته وان كلَّ شيء منه واصلٌ وكل شيء إليه صائر، ولذا إنما يحب بعضهم بعضاً في ظل هذا القاسم المشترك وتحت هذه المظلة والخيمة، وعلى السببية: أي لأنّ أخاه المؤمن مؤمن بذلك الإله العظيم، ولأنّ حب المؤمن شعاع من حب الله تعالى، وانّ الرفق به والرحمة به ظل من ظِلال رحمته بعبادة الصالحين، لذلك فإنه يحب جميع المؤمنين في الله وفي جلاله وعظمته.
والحاصل:
1- (فِي جَلَالِ اللَّهِ) يمكن أن تفيد الظرفية المجازية فكأنّ جلال الله محيط بهما وانه الخيمة التي تجمعهما فيحب أحدهم الآخر لذلك، أي المتحابون في ظل جلال الله وتحت هذه الراية واللواء.
2- (فِي جَلَالِ اللَّهِ) يمكن أن تفيد السببية أي بسبب جلال الله كما في (دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا، فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ حِشَاشِ الْأَرْضِ)[8]، وكما في (جِئْتُكَ فِي حَاجَةٍ).
وقد تكون (في) بمعنى الباء للإلصاق أو بمعنى المصاحبة، وأبعدها ثالثها ثم رابعها.
التحابّ في جلال الله يوصلك إلى عرش الله تعالى
الثانية: انّ التحابّ في جلال الله يصل بالإنسان إلى أعلى درجة من الكمال الذي يمكن وصول البشرية إليه، وهو أن يكون على يمين عرش الله تعالى وبين يدي الله عز وجل.. وهو مقام سامٍ إلى درجة لا يرقى إليها عقل بشر، ويكفي أن جميع المتنعمين بمختلف النعم لو رأوا فضل هؤلاء الجالسين على يمين العرش، لما هنأ لهم عيش ولما استلذوا بطعام مهما كان لذيذاً ولا بملبس مهما كان وثيراً ولا بالمناظر الخلابة ولا بالأزواج المطهرة ولا ولا.. مهما كانت رائعة ومميزة ومشرقة وجذابة بل ومحلّلة.. بل يكون حالهم كحال من يعيش في زنزانة ضيقة مظلمة وهو يشاهد صاحبه يتجول في أروع الرياض النضرة وأجمل الحدائق الغناء!
لماذا لا يمكننا أن نرى الجالسين عند عرش الله؟
الثالثة: انّ الإمام (عليه السلام) عبّر بـ (فَلَوْ أَنَّهُمْ يَرَاهُمْ مَنْ دُونَهُمْ) وقد استفاد الراوي وهو من فقهاء أصحابه (عليه السلام) من هذه الجملة اللّوية والشرطية أنّ من دونهم لا يرونهم أبداً، فقال: (وَمَا لَهُمْ لَا يُرَوْنَ، وَهُمْ عَنْ يَمِينِ اللَّهِ؟) أي كأنّهم في مكان عال يجب أن يُروا، وأيّده الإمام (عليه السلام) على ما فهمه فقال: (إِنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ بِنُورِ اللَّهِ) ذلك أنّ النور القوي لا تتحمله العيون.. ألا ترى انك لا يمكنك أن تنظر إلى عين الشمس أبداً؟ ولو أن شخصاً فعل ذلك لدقائق فقط فَقَد بصره، فكيف يمكن أن ينظر الإنسان إلى نور الله وهو الذي لا تقاس نورانيته وقوته وشدته بألف تريليون شمس وشمس؟
والغريب ان هذا النور الإلهي المذهل الحاجب، يستظل المتحابون في جلال الله به ويتفيأون بافيائه ويعيشون في كَنَفه مما يدلّ على وصولهم إلى مراتب عالية جداً بل يدل على حصول تحول جوهري مذهل عنهم أمكن لهم به أن يصلوا إلى اللّبث في تلك المصاف الربوبية النورانية التي لا يحدها شيء!!
التحابّ في جلال الله: أن تحبّه كأعزّ أهلك
الرابعة: ولكن ماذا يعني التحاب في جلال الله؟ يجيب الإمام (عليه السلام) في مطلع الرواية بقوله:
(قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): سِتُّ خِصَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَعَنْ يَمِينِ اللَّهِ.
فَقَالَ ابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ: وَمَا هُنَّ، جُعِلْتُ فِدَاكَ؟
قَالَ: يُحِبُّ الْمَرْءَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِأَعَزِّ أَهْلِهِ، وَيَكْرَهُ الْمَرْءَ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ مَا يَكْرَهُ لِأَعَزِّ أَهْلِهِ، وَيُنَاصِحُهُ الْوَلَايَةَ.
فَبَكَى ابْنُ أَبِي يَعْفُورٍ، وَقَالَ: كَيْفَ يُنَاصِحُهُ الْوَلَايَةَ؟
قَالَ: يَا ابْنَ أَبِي يَعْفُورٍ، إِذَا كَانَ مِنْهُ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ، بَثَّهُ هَمَّهُ، فَفَرِحَ لِفَرَحِهِ إِنْ هُوَ فَرِحَ، وَحَزِنَ لِحُزْنِهِ إِنْ هُوَ حَزِنَ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُفَرِّجُ عَنْهُ، فَرَّجَ عَنْهُ، وَإِلَّا دَعَا اللَّهَ لَهُ.
قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): ثَلَاثٌ لَكُمْ، وَثَلَاثٌ لَنَا: أَنْ تَعْرِفُوا فَضْلَنَا، وَأَنْ تَطَئُوا عَقِبَنَا، وَأَنْ تَنْتَظِرُوا عَاقِبَتَنَا، فَمَنْ كَانَ هَكَذَا، كَانَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَيَسْتَضِيءُ بِنُورِهِمْ مَنْ هُوَ أَسْفَلُ مِنْهُمْ)
وإذا كان تعامل الكل، كل شيعي أو كل مسلم، كذلك أي كان يتعامل مع جميع المؤمنين كما يتعامل مع أعز إخوته، أفهل كان يبقى فقير قط (في دائرة الكل لو التزم بذلك الكل، وفي الدوائر الخاصة بحسب حدودها وبحسب حدود التزامهم) فلنتصور لو أن كل غني وثري ومستثمر التزم بذلك، ولو أن جميع أفراد الطبقة المتوسطة التزموا بذلك أهل كان يبقى فقير قط؟
وكذلك على مستوى العشيرة أو الحزب أو المرجعية لو التزم الأثرياء والطبقة المتوسطة بذلك النحو من التحابّ والتواصل والتآزر تجاه أبناء عشيرتهم أو أعضاء حزبهم أو أتباع مرجعهم؛ أكان يبقى فقير في العشيرة أو الحزب أو المقلدين؟
ولقد ضرب لنا علماؤنا أروع الأمثلة على المواساة بل والإيثار مع الإخوة في الإيمان، التي لو تحولت إلى مسيرة عامة لاختفى الفقر تماماً، وإلا فعلى قدر من يلتزم به وعلى قدر ما يلتزمون به.
الوحيد البهبهاني وصاحب القوانين
ومن أغرب القصص وأشدها وقعاً، انّ المحقق القمي (قدس سره)، صاحب القوانين وجامع الشتات والذي صار المرجع الأكبر في زمنه، كان في أيام دراسته قد انتقل من قم إلى كربلاء متتلمذاً عند الوحيد البهبهاني (قدس سره)، الذي كان المدرّس الأكبر في كربلاء، ولعل القضية كانت في أوائل مرجعيته، ولقد لاحظ الوحيد ذات يوم أن لون تلميذه القمي منخطف وانه يمشي بتثاقل فاحتمل أن يكون مريضاً ولما سأله عما به، أجاب، محرجاً، انه يعاني من الجوع الشديد، حيث ان الخبز اليابس الذي كان يعيش عليه كان قد انتهى يوم أمس أو السابق عليه! (تصوروا كيف كانوا يعيشون وكم ضحوا في سبيل طلب العلم ولم يتراجعوا رغم الضغوط المعيشية القاسية) وعلى ضوء ذلك أجرى له الوحيد مرتباً يومياً قدره قرصة خبز صباحاً وأخرى مساءً! كما كان قد أجرى لطلاب آخرين.. والغريب أن القمي اكتشف بعد ذلك بزمن أن الوحيد رغم مكانته إلا انه كان لا يملك بدوره شيئاً وانه كان يتقبل صلوات استجارية أو صوماً استيجارياً، وكان يعطي ثمنه لتشترى أقراص الخبز للطلبة!
وأين نحن من ذاك؟ وانّ أحدنا قد يعيش عيشة مرفهة وهو لا يعطي إلا الفتات اليسير لغيره!
صاحب الكفاية مع الطالب الذي كان يغتابه
كما ينقل عن الآخوند المحقق الخراساني (قدس سره) صاحب الكفاية انه كان استاذاً في النجف، ولعل القضية كانت أوائل مرجعيته، وان أحد الطلبة كان يتناوله بالسوء ويغتابه.. لكنّ هذا الطالب ذات ليلة وجد زوجته على وشك أن تضع حملها ولم تكن له أموال ليستقدم قابلة.. بل ولا الأموال ليشتري لها طعاماً مقوياً... وحيث كان يعرف كرم أخلاق الآخوند، قصد، مضطراً، في ظلام الليل منزل صاحب الكفاية.. فطرق الباب.. وكانت ليلة شاتية مظلمة.. ولما خرج الخادم أخبره بحاجته. فقال له الخادم ليس للآخوند شيء والليلة مظلمة وشاتية.. وَصَرَفَه.. إلا أن الآخوند سمع صوت طرق الباب ثم إغلاقه فسأل الخادم ما الخبر فأخبره.. فعاتبه الآخوند على ردّ ذلك السائل.. وقال لخادمه أشعل الفانوس ولنخرج فوراً إلى القابلة لنذهب بها إلى زوجة هذا الطالب.. فخرجا وعندما طرقا الباب فتحت القابلة وقد فوجئت لمجيء الآخوند، ولعله كان مرجعها، فاعظمته لكنه قال لها تعالي فوراً لنذهب إلى دار فلان فإن زوجته على وشك وضع الحمل! فذهبوا إلى الدار.. وقد ذهل الطالب لأخلاق الآخوند الرفيعة إذ جاء بنفسه في تلك الليلة الباردة المظلمة ومعه القابلة.. ثم أمر الآخوند الخادم بأن يعطي أسبوعياً نصف كمية اللحم التي كانوا يأكلونها في المنزل إلى الطالب!
ولنتصور أية مدينة فاضلة كانت ستكون لو أن الأثرياء والطبقة المتوسطة و... بذلوا نصف أموالهم، لا.. بل حتى ثلثها للفقراء أكان يبقى فقير؟ أو على أقل تقدير كانت تنخفض نسبة الفقر بشدة.
والغريب ان معظم الناس يمتنعون عن دفع الخمس، فما بالك بالثلث والنصف؟.
حرمة الاحتجاب عن حوائج الإخوان
وإذا كان المؤمن، أي مؤمن مهما كان فقيراً أو مستضعفاً أو من الطبقة البائسة، ممن يجب أن نعتبره نحن كأعز الإخوة، فكيف يصح أن يحتجب عنه الشخص أي شخص كان ومهما كان موقعه الاجتماعي، سواء أكان رئيس الجمهورية أم رئيس الوزراء أم استاذاً في الحوزة أو الجامعة أم مرجع تقليد أم شيخ عشيرة أم قائد حزب؟
والغريب ان بدعة الاحتجاب عن الناس وعن ذوي الحوائج، بدأت تنتشر في الأوساط حتى الدينية إضافة إلى تكاثفها وازدياد غلظتها في الأوساط السياسية والحزبية وغيرها، رغم ورود روايات صريحة في النهي عن الاحتجاب:
ومنها قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (أَيُّمَا وَالٍ احْتَجَبَ عَنْ حَوَائِجِ النَّاسِ احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ...)[9].
ومنها قول أبي عبد الله (عليه السلام): (أَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُؤْمِنٍ حِجَابٌ، ضَرَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ أَلْفَ سُورٍ، مَا بَيْنَ السُّورِ إِلَى السُّورِ مَسِيرَةُ أَلْفِ عَامٍ)[10]
وعن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) قال: (قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا تَقُولُ فِي مُسْلِمٍ أَتَى مُسْلِمًا زَائِرًا، أَوْ طَالِبَ حَاجَةٍ، وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ؟
قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ، أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَتَى مُسْلِمًا زَائِرًا، أَوْ طَالِبَ حَاجَةٍ، وَهُوَ فِي مَنْزِلِهِ، فَاسْتَأْذَنَ لَهُ، وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِ، لَمْ يَزَلْ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ، حَتَّى يَلْتَقِيَا.
فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فِي لَعْنَةِ اللَّهِ، حَتَّى يَلْتَقِيَا؟
قَالَ: نَعَمْ، يَا أَبَا حَمْزَةَ)[11].
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (مَنْ صَارَ إِلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، فِي حَاجَتِهِ أَوْ مُسْلِمًا، فَحَجَبَهُ، لَمْ يَزَلْ فِي لَعْنَةِ اللَّهِ إِلَى أَنْ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ)[12].
ولذلك علينا أن نبني على اننا في أيّ موقع كنّا، وإلى أي موقع وصلنا، أن لا نحتجب عن الناس وعن حوائجهم أبداً، ولقد كان السيد الوالد (قدس سره)، رغم كثرة مشاغله وتوسع مرجعيته وامتداداته الجماهيرية والمؤسسية، قد خصص باليوم ساعة واحدة يجلس فيها لعامة الناس بدون أي حجاب أي انه كان بمقدور أي شخص أن يزوره ويلتقي به ويتحدث معه، بدون أن يسأله شخص، عضو في المكتب أو حارس مثلاً، من أنت وما أسمك ولماذا تريد اللقاء، وكان لكل شخص أن يدخل بدون استئذان إذ كانت الباب، باب الدار وباب غرفة جلوسه الخاصة، في تلك الساعة مفتوحة للكل، كما كان علماؤنا الأبرار على امتداد مئات السنين كذلك، وقضية المرجع الأكبر السيد أبي الحسن الاصفهاني والرسالة المنقولة عن الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) إليه (أرخص نفسك للناس، واجلس في الدهليز واقض حوائج الناس، نحن ننصرك) معروفة مشهورة.
ولئن صعب على بعضنا ذلك لظرف قاهر فلا أقل من الالتزام بجلسة أسبوعية مفتوحة لعامة الناس، على أقل التقادير.
كيف تقضي الإخوة على الجريمة والغلاء؟
فذلك بعض الكلام عن كيفية قضاء (الإخوة) بتلك الدرجة المميزة على الفقر، وأما تحجيمها للجريمة فإنه أيضاً بيّن؛ إذ أن كثيراً من الجرائم تنجم عن الفقر، السرقات مثلاً، وحتى الفحشاء فإن كثيرات يُسقن إليها بسبب عامل الفقر، وقد قال الرسول (صلى الله عليه وآله): (كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْراً)[13]، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (لِابْنِهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ: يَا بُنَيَّ، إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدِّينِ، مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ، دَاعِيَةٌ لِلْمَقْتِ)[14]، و(الْفَقْرُ الْمَوْتُ الْأَكْبَرُ)[15].
كما أن التكاتف والتعاون والإخوة إذا استشعرها الآخرون فإنها تمتص النقمة والقوة الغضبية المتراكمة إثر الضغوط وأنواع الحرمان، وتخفِّف من الكآبة ونظائرها، وهي بأجمعها تعد من أهم العوامل التي تقف وراء الجريمة هذا.
ثم انه مع اعتبار التاجر أو البائع والبقال والعطار و... المؤمنين كأعز الإخوة هل يعقل أن يبيع غالياً؟.
كيف تقضي الإخوة على البطالة؟
ولكن كيف تقضي (الإخوة) على البطالة أو تخفضها على حسب درجات العمل على ضوء قواعد الإخوة وامتداداتها في المجتمع؟ يمكن لنا أن نعطي الجواب عبر الحادثتين التاليتين:
اليهود في سوق الشورجة قبل عام 1948م
الأولى: نقل السيد الوالد عن أحد التجار الشيعة الذين كانوا يمتلكون متجراً في سوق الشورجة ببغداد قبل عام 1948م حيث كان اليهود قاطنين في العراق وكان لهم حضور بارز في سوق الشورجة وغيرها، انه لفتت أنظاره ظاهرة غريبة وهي انه لا يوجد تاجر من تجار اليهود ينكسر في تجارته أو يفلس أبداً، عكس سائر التجار من الشيعة والسنة وغيرهم حيث ان من الطبيعي أن يتعرض التجار لهزات وأن يفلس بعضهم وينكسر، بل وما أكثر ما يحدث ذلك.
يقول: كان أحد التجار اليهود صديقاً لي بحكم العمل المشترك، طوال سنين، فقلت يجب أن اسأله عن السرّ، ولما سألته أجاب بأن ذلك من الأسرار ولكنني سأطلعك عليه نظراً لصداقتنا الطويلة وأمانتك وثقتي بك (أقول: ولعله أفشى له السر لأنه كان يعلم اننا، ويا للأسف، لا نتعلم!) قال: السرّ اننا متكاتفون واننا نعتبر اليهود كلهم إخوة ولذا لا نسمح بأن ينكسر تاجر من تجارنا أبداً، ولذلك فإننا إذا وجدنا تضعضعاً في تجارة أحدنا أو وجدناه انكسر فجأة، فإننا نجتمع معه ونساله عن السبب فإن كان مقصراً عاتبناه وأخذنا منه كلمة أن لا يعود، على أن نقف معه ونسانده حتى تمر الأزمة.. وإن كان جاهلاً ببعض الفنون علمناه أو وضعنا له مستشاراً.. وإن أفلس بسببٍ خارج عن إرادته أو بسبب منافس حطّمه، ساعدناه.. وفي كل الصور كنا نجمع له رأسمالاً كافياً، إن احتاج، ونعيد لتجارته رونقها من جديد..
قال اليهودي: أما أنتم فإذا انكسر أحدكم، اهملتموه تماماً بل لربما فرح منافسوه انهم تخلصوا منه!.
أقول: والغريب ان آية الإخوة وردت في كتابنا العزيز (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) فعملوا بها وتركناها؟
اليهود في أمريكا في العقود الأخيرة
الثانية: ما نقله لي أحد كبار التجار قال: كنت أدرس في كلية التجارة والأعمال في أمريكا قبل حوالي ثلاثين سنة، وكان يستوقفني دوماً نجاح اليهود وانه لا يوجد فيهم فقير أو متكفف بل تجدهم كلهم عاملين ناشطين.. فحقّقت عن الأمر وسألت شباباً يهوداً من زملائي في الجامعة وتتبعت أحوالهم عبر دراسة سلوك المنظمات اليهودية وغيرها فاكتشفت أموراً متعددة، كان منها: أن أي مهاجر أو لاجئ إلى الولايات المتحدة من اليهود، إذا وصل فإن إحدى المنظمات اليهودية تجتمع به وتسأله عن عمله وتخصصه ورغباته وأهدافه.. إلخ فإن كان طالباً في الجامعة ولا مال له تكفلت المنظمة بتكاليف الجامعة، وإن كان حِرَفياً وفرّت له المحل والأدوات، أو تاجراً لا يملك الرأسمال الكافي وفروا له الرأسمال الكافي، وإن كان يفتقد الخبرة أو المهارة أرشدوه وعلموه ودرّبوه.
وفي المقابل كانوا يشترطون عليه أن يدفع لهم نسبة من أرباحه عندما يتخرج ويعمل أو عندما تنجح تجارته أو تنتج استثماراته، وقد تكون النسبة النصف أو الثلث أو ما أشبه؟
سألته: وما هي الضمانة لكي يفي بوعده؟
أجاب: سألتهم فقالوا كنا نجري عقداً معه متضمناً ماذا نعطي وماذا نأخذ وكم.. إلخ ونوثّقه رسمياً عبر المحامي..
وزد على ذلك انه لو تخلف عن وعده لحطموه تماماً..
والشاهد من القضيتين: انّ العمل على ضوء هذه الرؤية (انّ كل مؤمن أخ لنا) ينتج، فيما ينتج، أن لا يبقى عاطل عن العمل في دائرة الجماعة الملتزمة بهذا التوجه؛ إذ يتعاون الجميع حينئذٍ على توفير فرصة عمل له.
.. وهكذا تكون الإخوة مفتاح السعادة والنجاح
وهكذا نعرف من كل ذلك انّ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) لو التزموا بالعمل بما قاله الإمام الصادق (عليه السلام) من أن يعتبر كل منا كل مؤمن كأعز إخوته، أنّ المدينة الفاضلة سوف تتحقق على مستوى الشيعة جميعاً أو على مستوى الجماعة التي تلتزم بالعمل بذلك.. كما سنجد ان كل شخص شيعي سيحظى بالسعادة وسوف يتمتع بالنجاح في حياته الشخصية والأسرية مع الفلاح في الآخرة.. كيف لا؟.. والحال أنّ كل عالم شيعي ووزير ومدير وتاجر وأستاذ وطالب، لو اتخذك أخاً عزيزاً كأعز إخوته وسارع حينئذٍ إلى تلبية رغباتك وطلباتك.. وبالعكس.. الا يكون الجميع حينئذٍ سعداء وهل يُتصور أن يفشل أحد حينئذٍ في حياته؟ أو أن يشط عن الدرب؟ إلا الشاذ المشوّه الضمير والخِلقة.
العلاج في أيدينا ونحن نبحث عنه بعيداً!!
والغريب أن الوصفة الناجعة السابقة لمعالجة الفقر والجريمة والبطالة، إلى حد كبير أو مطلقاً، هي في متناول أيدينا، ولكننا ألقيناها خلفنا ظِهريّا ثم ترانا نبحث عن السعادة هنا وهناك، في كتب مكافحة الكآبة والقلق مثلاً، أو عن النجاح عند هذا أو ذاك، فكان مثلنا كمثل العِيس في البيداء التي قال عنها المتنبي:
ومِن العجائبِ والعَجائبُ جَمَّةٌ[16] --- قُربُ الحبيبِ[17] وما إليه وصولُ
كالعِيسِ[18] في البيداءِ يقتُلُها الظَّمَا[19] --- والماءُ فوق ظهورِها محمولُ
والعِيس هي الجمال البيضاء (وهي نادرة) التي تخالط شعرها شقرة وهي أندر، والعِيس جمع أعيس، ومؤنثه عيساء، وقيل العيس من الجمال الكريم الأصيل.. فإنّ النوق تتحمل العطش في الصحراء أياماً لكن إذا طال بها السير أياماً أكثر يشتد بها العطش رغم أن الماء على ظهورها لكنها تبحث عنه في أرض الصحراء الجرداء!
الاستكثار من الإخوان
المحور الثاني: استكثروا من الإخوان.. وقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (اسْتَكْثِرُوا مِنَ الإِخْوَانِ، فَإِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً)
وَقَالَ (عليه السلام): (اسْتَكْثِرُوا مِنَ الإِخْوَانِ، فَإِنَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ شَفَاعَةً).
وَقَالَ (عليه السلام): (أَكْثِرُوا مِنْ مُؤَاخَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّ لَهُمْ عِندَ اللَّهِ يَدًا يُكَافِئُهُمْ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[20].
وقال: (أَكْثِرُوا مِنَ الأَصْدِقَاءِ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّهُمْ يَنْفَعُونَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. أَمَّا فِي الدُّنْيَا، فَحَوَائِجُ يَقُومُونَ بِهَا، وَأَمَّا الآخِرَةُ، فَإِنَّ أَهْلَ جَهَنَّمَ قَالُوا: فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ)[21].
كل يوم صديق جديد.. طوال سنة كاملة!
وقد فكّرت ذات مرة، متأثراً بأمثال هذه الإرشادات الصادرة عن أئمة الهدى (عليهم السلام)، أن أحصل في كل يوم على صديق جديد لمدة سنة كاملة.. والتزمت بذلك.. وصادقت في كل يوم شخصاً جديداً.. وكان فيهم الموظف والبنّاء والنجار والتاجر والخطيب والأستاذ الجامعي والطالب والطبيب والمهندس والمحامي وهكذا.. وكانت الآلية سهلة إذ كنت في المسجد أو الحسينية أقصد أي شخص لم أعرفه من قبل وأسلم عليه وأتبادل معه الحديث ثم نتبادل الأرقام.. وهكذا التزمت بذلك طوال سنة كاملة فحصلت على 365 صديقاً جديداً.. ثم في السنة اللاحقة قررت أن اكتسب صديقاً كل أسبوع..
والغريب أن بعض تلك الصداقات عادت عليَّ، من حيث لا احتسب بفوائد كبيرة جداً في أبعاد منوعة: اجتماعية، ثقافية، فكرية، اقتصادية، حقوقية وأمنية إذ فرّجت عنّا كُرَباً في بعض البلاد التي ضايقت الحكومة الجائرة بعض أصدقائنا فاتصلت بأحد أولئك الأصدقاء الجدد، وكان محامياً ضليعاً، فتكفل بالملف متطوعاً ومتبرعاً وحل المشكلة ببراعة.. وهكذا
وكان السيد الوالد (قدس سره) يزور في ليالي شهر رمضان، في كل ليلة عشرة من الديوانيات والحسينيات.. أي 30 زيارة في شهر واحد.. وكان ذلك مدعاة للفخر عند الكثيرين.. كما كانت فرصة جيدة لإحياء أمرهم (عليهم السلام).
كيف ومتى تمتلأ المساجد بالمصلين؟
والتجربة الآتية تعد من التجارب الرائعة التي نقلها لي أحد الأساتذة في الحوزة العلمية والذي كان ولا يزال إمام جماعة لأحد المساجد الكبيرة، إذ سألته مستفهماً: إنّ كثيراً من المساجد قد تضاءل حضور الناس فيها وتقلَّص بمرور الزمن، لعوامل شتى: سياسية واجتماعية وغيرها، فهل مسجدكم كذلك؟
أجاب: كلا.. بل مسجدي عامر ممتلئ دائماً، (وكان مسجده يستوعب حوالي 500 من المصلين).
فقلت: وما السبب؟
قال: لأنني اتعامل مع المصلين جميعاً وكأنهم إخوتي
قلت: كيف؟
قال: إذا غاب أحدهم أسأل عنه فإن كان مريضاً عدته أو مسافراً زرته بعد رجوعه أو إذا مات أحدهم شاركت في تشييعه وفواتحه.
(أقول: هذا يستدعي منه، بالطبع، أن يراقب الحضور ومَن الغائب من بين مآت الأشخاص وهي مهمة شاقة ولكن بالتدريب يمكن للمرء أن يتقن ذلك.. وكانت هذه خصلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ ورد في الحديث عن أنسٍ أنه: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)، إِذَا فَقَدَ الرَّجُلَ مِنْ إِخْوَانِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، سَأَلَ عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ غَائِباً، دَعَا لَهُ، وَإِنْ كَانَ شَاهِداً، زَارَهُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضاً، عَادَهُ)[22]).
ثم قال: كما انني أقضي حوائجهم أو أتوسط لقضاء حوائجهم إذ أعدّهم إخوة لي، فإذا طلب أحدهم قرضاً توسطت له (وقد يَحسُن أن يوجّه الإمام لجنة من الثقات يتصدون لتأسيس صندوق للإقراض الخيري لرواد المسجد) وإن كان أحدهم راغباً في الزواج، فإن لنا في المسجد بعض كبار السن ممن يعرفون العوائل فيتوسطون بين الأسرتين.. وهكذا.
قال لي ذلك الأستاذ الإمام: ألا ترى أن المسجد لا بد أن يكون ممتلئاً دوماً بالحضور ماداموا يرون المسجد قد تكفل بشؤون دينهم ودنياهم جميعاً!
أقول: وهي تجربة ثرية غنية لو عمل بها كل إمام جماعة وكل خطيب وكل أستاذ بل وكل طبيب ومحامي وصحفي ومهندس وتاجر وبقال وعطار و... لوصلنا إلى درجات مميزة من التماسك الاجتماعي والتكامل.. بل قد نشهد حينئذٍ المدينة الفاضلة إن شاء الله.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق