q

ليس غريباً القول إن الجذور الفلسفية للحداثة وما بعد الحداثة إنما تتوفر في الفلسفة السفسطائية القديمة، لم يعد هذا الرأي مما يحتاج إلى برهنة واستدلال الآن، فنحن نرى أن فلاسفة الفكر الليبرالي يؤكدون بأنفسهم هذه الحقيقة، بل يفتخرون بها في الكثير من المناسبات، وكموقف شخصي فإني أعتبر الذين يصرحون باستناد الفكر الحداثي والمابعد حداثي إلى الجذر الفلسفي السفسطائي القديم هم في قمة الشجاعة، من هؤلاء الكتاب الشجعان الدكتور المرحوم علي الوردي، ونحن نخصص هذا البحث لمناقشة أفكاره التي عرضها في الفصل التاسع من كتابه ((مهزلة العقل البشري))، فلقد قدَّم الدكتور الوردي تصوره الخاص عن الفكر السفسطائي، وعلى أساس هذا التصور، عرض الإيجابيات الكثيرة التي يمكن للمجتمعات الإسلامية أن تحصل عليها فيما لو قررت أن تصبح مناهجها العلمية سفسطائية، وتخلت إلى الأبد عن التفكير المنطقي الذي يشترط وجود المعايير العقلية لأي مشروع بحثي أو فلسفي، فالسفسطائية وحدها هي الحل لكل ما تعاني منه ثقافتنا المعاصرة من تخلف وأزمات.

إن نقاشنا لما ورد في كتاب ((مهزلة العقل البشري)) ما هو إلا ذريعة في الواقع لإثارة جملة موضوعات نعتقد أن لها صلة مباشرة بتحديد الموقف من الفكر الحداثي المعاصر، إن الفكر الحداثي كله من ألفه إلى يائه يرتكز في الحقيقة على آراء السفسطائيين في نظرية المعرفة، ليس الفكر الحداثي من إبداعات مفكري عصر التنوير، كما ان الفكر الليبرالي الحر لما بعد الحداثة ليس من إبداع مفكريها الذين عادةً ما يتم التركيز على أسمائهم في الكتب التي تتحدث عن ما بعد الحداثة، نيتشه نفسه، ليس إلا واحداً من أولئك السفسطائيين الجدد الذين استوعبوا المطالب الفلسفية للسفسطائيين القدامى، ومن الوهم المتمكن من قناعات الكثير من المثقفين الآن أن يعتقدوا أن مبادئ الحداثة هي من ابتكار الذهنية الغربية في العصور الحديثة، هذا وهم كبير علينا أن نتخلى عنه، لا سيما بعد أن صدرت الدراسات الحداثية الكثيرة التي تشير إلى تلك الحقيقة، وإذن فلنشرع في نقاش الإثارات الفكرية للدكتور الوردي على هذا الأساس:

1- السفسطائية والعدالة الاجتماعية

يقول الدكتور الوردي: إن العدالة الاجتماعية هي هدف جميع المذاهب الاجتماعية المعاصرة، وهي محور الجدل القائم بينها، ولنا أن نقول هنا بأن هذه المذاهب الاجتماعية على اختلاف آرائها تفهم العدالة على أساس ما فهمه السفسطائيون القدماء"[مهزلة العقل البشري ص155] نعم، يبدو ظاهراً أن العدالة الاجتماعية هي المطلب الرئيس الذي تنادي به المذاهب الاجتماعية المعاصرة، وكذلك المذاهب السياسية طبعاً، بل إن الأحزاب السياسية كلها ترفع شعار العدالة الاجتماعية مطلباً، ولكن المشكلة ليست في الشعار المطروح، لا يمكن أن يأتي مذهب اجتماعي أو سياسي، كما لا يمكن أن يتأسس حزب سياسي لا يقول بذلك، وإلا لم يتمكن من الحصول على قناعة الناس، هل يمكن لأحد مهما كان جاهلاً أو عالماً، سفسطائياً أو غير سفسطائي، مسلماً أو يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً أو وثنياً، أن يقبل طرحك الاجتماعي والسياسي إذا كان منطلقاً من فكرة الدفاع عن الظلم الاجتماعي لا العدل الاجتماعي.

إذن ليست المشكلة في الشعار المطروح، لسنا سذَّجاً لتخدعنا الشعارات، المهم في المجال الفلسفي لأية نظرية أن يستند ذلك الشعار إلى رؤية كونية تبرر فعلاً هذا الشعار، أي إن الشعار يكون عبارة عن نتيجة منطقية لها، وليس شعاراً عائماً هكذا في الفضاء، فإذا كان الأساس النظري والفلسفي الذي تعرضه علي لا يبرر لك الشعار المرفوع، فإنه من الصعب بل من المحال أن أحمله على محمل الجد، بل سأعتبره مجرد خديعة تمارسها من أجل تسويغ طروحاتك، ولن أصدقك في هذه الحالة.

عندما نقرأ أسس ومرتكزات الفكر السفسطائي في مؤلفات من صاروا يدعون إلى اعتناق أفكارهم ونظريتهم في المعرفة حتى لو أخذوها من مؤلفات خصوم السفسطائيين، فإن ذلك يعني أنهم موافقون على صحة هذه الرواية عنهم، أو أنهم يدعون إلى ما فهموه من هذه الفلسفة على الأقل، فإنه يكون من حقنا مناقشتهم على أساسها، ولذا فأنا أسال الدكتور علي الوردي عن الأساس الفلسفي في ما تمت روايته عن السفسطائيين من أطروحات وأفكار لمثل هذا الزعم، أعتقد أن الدكتور الوردي اعتمد على الواقع الارستقراطي لواحد من ألدّ خصوم السفسطائيين وهو أفلاطون، فبما أن هذا الأخير غني ومن عائلة أرستقراطية في المجتمع اليوناني، وبما أن السفسطائيين كانوا معدمين فقراء يجوبون المدن اليونانية بحثاً عن العوائل المترفة ليقوموا بتعليم أبنائها مقابل ما يُدفع لهم من أجر، فلا بد إذن أن تكون فلسفتهم فلسفة تطالب بالعدالة الاجتماعية، لكن نسي الدكتور الوردي أن هؤلاء السفسطائيين جمعوا ثروات طائلة من تعليم السفسطة، كما ان الكثيرين منهم كانوا يعملون سفراء لدولهم حتى أنهم دخلوا إلى أثينا وأعجب بهم الشعب الأثيني عن هذا الطريق، ثم إن المرتكز الأساسي لتفكيرهم الذي يدور حول محورية الإنسان، لا يعني أنهم إنسانيون في المآل الأخير لفلسفتهم، بيان ذلك: إذا كان كل إنسان هو المقياس لتقرير ما هو صالح أو طالح من الأفكار، فمعنى ذلك أن الحقيقة لا تتمتع بأي وجود سابق على الرؤية النسبية لكل إنسان في تقرير ما هو الحقيقة، أي إن الحقيقة ليس لها وجود قبلي، بل وجودها بعدي محض، فإن هذا يعني أن لي كإنسان الحرية التامة في صياغة الحقيقة التي تناسبني عن الأشياء، فأنت ترى الصدق كقيمة خلقية مناسباً لك، وللمصالح التي ترجو تحقيقها من خلال هذه الحقيقة النسبية، لكني على النقيض منك، لا أرى في الصدق تلك الفضيلة التي تحقق لي مصالحي، أنا أرى الكذب هو الحقيقة التي تحقق لي تلك المصالح، وكذلك قل عن أية فضيلة أو رذيلة، فإن المعيار الموضوعي سيكون مفقوداً في تلك الحالة، بل ستكون جميع المعايير التي يستخدمها الأفراد نسبية غير ثابتة ولا مستقرة ولا مطلقة، فإن مثل هذا الطراز من التفكير لا يمكن أن تنتج منه أية حقيقة اجتماعية مطلقاً، لا توجد حقيقة مطلقة في مقابل الحقائق النسبية التي يوجدها الأفراد، فإذا كانت الحقيقة الاجتماعية ذاتها مفقودة فكيف نتحدث عن وجود متعلقها المتصف بها وهو العدل، الاجتماع مفقود، فكيف يوجد شيء يمكن أن نطلق عليه اسم ((العدالة الاجتماعية)).

ثم لنتحدث عن العدالة ذاتها، فعن أية عدالة يتحدث الإنسان السفسطائي، لعله يقصد العدل الذي لا يتمتع بأي مفهوم محدد سوى ما يقوم هو بطريقة مزاجية وفوضوية من فرض القيود لتحديد مفهومه، طبعاً ستكون عدالتي التي أؤمن بها أنا مختلفة عن العدالة التي تؤمن بها أنت، بل ربما تتناقض العدالتان إلى درجة انقلاب إحداهما أو كلتيهما إلى الظلم، وحتى لو انقلبتا إلى ظلم، فإننا لا نستطيع أن نتفق على تحديد مفهوم الظلم، لأن ما أفهمه أنا من معنى الظلم مختلف عما تفهمه أنت عنه، وبالتالي فإن اتفاقنا سيكون مستحيلاً في الواقع، ولسنا متناقضين لا أنا ولا أنت رغم هذا الاختلاف، لأننا لا نمتلك مقياساً نقيس به ما هو العدل وما هو الظلم سوى هذا المقياس الذاتي الذي تتحكم به القبليات غير المنقحة مضافاً إلى الميل النفسي عندي وعندك، وحتى لو قيل إننا متناقضان، إن تناقضنا نفسه لا يوجد اتفاق عليه، لا على تحديد مفهومه، ولا على مدحه أو ذمه، ليكن التناقض موجوداً، لكن المشكلة هي أني أعتبر التناقض مباحاً ولا يؤثر على سلامة التفكير، وأنت كذلك تعتبر التناقض شيئاً رائعاً، ومثمراً للنتائج الإيجابية على مستوى التفكير وعلى مستوى حياتك العملية، من الطبيعي أن يحب كلانا التناقض ويميل إليه، إن قولنا: المعيار الوحيد للحقيقة هو الإنسان مساوٍ للقول: إن المعيار الوحيد للحقيقة هو الرغبة النفسية ومصالح الأفراد، وهكذا يتخذ الفكر وتتخذ الحقيقة طابعاً أداتياً صرفاً كما هي الأسس التي يرتكز عليها المذهب البراغماتي في الفلسفة، ومع الطابع الأداتي للمعرفة لا يمكن إطلاقاً القول بأن العدالة الاجتماعية هي الهدف، الهدف هو المصلحة الفردية.

نعم، يقال إن حالة التدافع بين المصالح الفردية تؤدي في النهاية إلى أن تتحقق مصالح المجتمع، كما يوحي به قول الدكتور الوردي: "وذهب السفسطائيون إلى أن الحقيقة هي تناقض ونزاع، فكل إنسان يرى الحقيقة حسبما تقتضيه مصالحه وشهواته، وبتنازع هذه الحقائق الفردية تنبعث الحقيقة الوسطى التي تنفع النوع الإنساني بشكل عام" [مهزلة العقل البشري ص155] لكن هذا مجرد افتراض في الواقع، فإن حالة التدافع بين الحقائق الفردية التي لا تجد لها معياراً موضوعياً تحتكم إليه في حالات النزاع، يمكن أن تجر إلى نتائج وخيمة، بل سيكون الفيصل الوحيد لحل النزاعات هو القوة، فالحقيقة التي تريد أن تثبت أنها حقيقة عليها أن تفرض نفسها على الحقائق الأخرى بالقوة، وإلا فإنها ليست حقيقة.

ربما يقال إن القانون الذي هو الحصيلة النهائية لنظرية العقد الاجتماعي من شأنه أن يحدّ من هذه الحالة الافتراضية التي تجر إلى الصراع، لكن القانون لن يوجد هذه الحالة الوسطى التي يتحدث عنها الدكتور، لأن الواقع يبرهن في كل يوم أن القانون في الدولة الديمقراطية القائم على أساس هذه النظرية السفسطائية هو من صنع الأقوياء، لا يوجد قانون في أية دولة ديمقراطية الآن هو من صنع الفقراء على الإطلاق، من يمتلك عناصر القوة الاقتصادية والنفوذ العسكري وغير ذلك هو القادر على أن يفرض إرادته على القانون، هو الذي يكوِّن الأحزاب ويخوض الانتخابات ويفوز بالمقاعد النيابية ثم يفرض القانون الذي يريده هو لا الذي يريده الفقراء، فأين هو العدل الاجتماعي الذي يتحقق بهذه الطريقة التي يحدثنا عنها الدكتور علي الوردي، إنه مجرد وهم عاشه الدكتور الوردي علماً أنه ليس غافلاً عن نقطة الضعف فيه، لكن بغضه لرجال الدين الذين يستخدمون الطريقة العقلية في الاستدلال على مقولات الدين هو الذي حمله على تجاهل ما هو مطلع عليه من نقاط الضعف في القاعدة السفسطائية التي عرضها علينا، والحق أن الدكتور الوردي غالباً ما يطلق الأحكام من هذا المنطلق، دون أن ينقِّح تلك الأحكام، ودون أن يقلِّب المسألة من عدة جهات، ليعرض ما فيها من جوانب الضعف والقوة، وهو الأمر الذي يجعل الكثير من استنتاجاته في كتبه المتعددة معرَّضاً للنقد، حتى لو بدا للقارئ أحياناً أنه على حق، نتيجة تناغمه مع عوامل سيكلوجية موجودة في نفوس القراء، وهو أمر لا يليق بكاتب ومفكر وعالم اجتماع مهمّ كالدكتور الوردي بطبيعة الحال.

2- الإنسان معيار كل شيء

هذا المبدأ نادى به السفسطائيون، بل هو المبدأ الرئيس الذي تتأسس عليه فلسفتهم كلها، وهو ذات المبدأ الذي تتأسس عليه الفلسفة الليبرالية الحديثة، إن حجر الزاوية الأساس في عقلانية الحداثة وما بعد الحداثة هو هذا المبدأ السفسطائي العتيد الذي تحدث عنه بروتاغوراس، فلننظر في هذا المبدأ، فإن صحَّ فسوف تصحّ المقولات التي تنتمي إلى البنية الفوقية في فكر الحداثة، في الاقتصاد والاجتماع والقانون والسياسة، وإذا لم يصحّ، فمن الطبيعي أن تكون كل تلك الأفكار والأطروحات في تلك المجالات غير صحيحة كذلك، وكما تحدثنا عن هذا المبدأ في النقطة السابقة، فإنه لا يمكن أن يؤدي إلا إلى فوضى عارمة في التفكير، ولنقصر حديثنا في مجال الأخلاق والحريات الفردية، فماذا يمكن أن ينتج مثل هذا القانون، فما دامت الرغبة النفسية للإنسان ومشتهياته الشخصية هي المعيار، وليست هناك من رغبات للنفس البشرية في نظر هؤلاء السفسطائيين سوى ما يؤول إلى اللذة الحسية، فإن صياغة المنظومة الأخلاقية لكل فرد سوف تكون صياغة غرائزية في الحقيقة، فلا مانع من أن يرى الزنا وأنواع الشذوذ أفعالاً أخلاقية مثلاً، ودعك عن أن نتائج ذلك ستكون كارثية في الواقع مما لا يحتاج إلى استفاضة في الكلام، دعنا من هذا، لكن على أي أساس ينكر الدكتور الوردي على أفلاطون أن يكون شاذّاً طبقاً لرأيه، لنفترض أن أفلاطون شاذٌّ فعلاً، ولا نملك دليلاً على ذلك طبعاً، لكننا نجاري الدكتور الوردي فنفرض أن أفلاطون رجل شاذّ، فعلى أي أساس يعتبر الدكتور الوردي هذا العمل غير أخلاقي، ويذم أفلاطون على أساس ذلك، كان على الدكتور الوردي أن ينسجم مع دعوته الليبرالية والسفسطائية فلا يرى في الشذوذ الافتراضي لأفلاطون معنىً غير أخلاقي، لأن المعيار الوحيد لتحديد ما هو أخلاقي في نظر الفرد طبقاً للدكتور الوردي هو ميله النفسي الخاص، وأفلاطون فضلاً عن المجتمع الإغريقي الذي اتهمه الدكتور الوردي بالشذوذ، لم يفعل أي عملٍ لا أخلاقي، هو والمجتمع الإغريقي حددوا المعنى الأخلاقي الذي يناسبهم استناداً إلى شهواتهم الخاصة، والشهوات والميول النفسية للأفراد هي المسؤولة عن تحديد ما هو أخلاقي، لأن هذا الأخير أمر نسبي، وبما أنه نسبي فهو صحيح ومشروع، ما دام قد تمَّ بأطر قانونية تنظم هذا العمل الشاذّ، أرى أن الدكتور الوردي لم يصبر طويلاً حتى تناقض في ذات الأسطر التي كان يدافع فيها عن المعيار الأخلاقي للسفسطائيين، ونقض مبدأهم من حيث لم يشعر، فهو كما اتهم الفلاسفة العقليين بأنهم يدافعون عن الطريقة المنطقية في التفكير دفاعاً نظرياً، ويخالفونها عملياً، فإنه يفعل الشيء نفسه، فيدافع عن السفسطائية وبالتالي عن الليبرالية نظرياً، لكنه يخالفهما من الناحية العملية.

وحتى اعتراض الدكتور على طغاة الزمان القديم ص155 لا معنى له طبقاً لنظريته السفسطائية، لأنه اعترف أن هؤلاء الطغاة كانوا يزعمون مجرد زعم أنهم يطبقون العدل، أما هم في الواقع فلا يطبقون إلا شريعة الظلم، نعم هم تناقضوا طبقاً لمنطقٍ مضادٍّ للسفسطائية، لكنهم لم يتناقضوا طبقاً للنهج السفسطائي في التفكير، لأنه يمكن أن يقال إن هؤلاء الطغاة كان لديهم مفهوم شخصي عن العدل وقد طبقوه فعلاً، فالعدل من وجهة نظرهم هو أن يحكموا الناس بتلك القسوة التي تصادر إنسانيتهم، والعدل من وجهة نظرهم هو أن يجوع الملايين بسبب ما يبدده هؤلاء من الأموال الطائلة على الخمور والغانيات، هم يفهمون العدل بهذه الطريقة، فلماذا يعترض عليهم الدكتور الوردي ما دام متحمِّساً للنظرية السفسطائية، وما دام يعتقد بصحة المبدأ القائل إن الإنسان مقياس كل شيء؟

وأريد أن أسلِّم جدلاً بما قاله الدكتور من أن الشعوب التفتت إلى خطأ النظريات السابقة المضادَّة للرؤية السفسطائية فجنحت نحو حلِّ مسألة الحكم على أساس ديمقراطي، ليكون مفهوم العدل هو ما يراه أكثرية الناس لأنهم أعرف بحاجاتهم ومشكلاتهم [ص155] لكن من قال للدكتور أن الشعوب قررت أن تعتنق بالفعل الرؤية السفسطائية في تقرير الحقائق، فالأقرب إلى الصواب أن يقال إن الناس ما زالوا إلى الآن يتحاكمون في مسائل الخلاف طبقاً لمنهج عقلي يرفض السفسطائية، ويعتقدون بإمكانية الاتفاق على مجموعة من المبادئ العقلية التي يعرفون من خلالها ما هو صحيح مما هو غير صحيح، فمجرد أنهم اختاروا النهج الديمقراطي للحكم، لا يدل على أنهم تخلوا عن هذا الاعتقاد، لأن ديمقراطية الحكم لا تعني أكثر من أنهم قرروا أن يختاروا الحاكم بأنفسهم طبقاً لعقدٍ اجتماعيٍّ اعترفوا به، لكن مخرجات العملية الديمقراطية لن تكون سفسطائية بالضرورة، والدليل أن عدداً من التجارب الديمقراطية أنتجت حكومات ذات طابع ديني، والبعض الآخر أنتج حكومات لم تسمح بالانفلات الأخلاقي الذي هو نتيجة أكيدة للنهج السفسطائي في تقرير الحقائق النسبية، فأن يكون المجتمع ديمقراطياً في تجربته السياسية شيء، وأن يكون المجتمع قد تخلى عن الاعتقاد بوجود الحقائق المطلقة والثابتة شيءٌ آخر كما هو واضح.

نأتي الآن إلى تناقض آخر ارتكبه الدكتور الوردي، وإن كنت أعتقد أن الدكتور لا يتضايق من أن يوصف تفكيره بالمتناقض، كما لم يتضايق من أن يوصف هو نفسه بالسفسطائي، لا بأس، لا يهمنا إن كان يتضايق هو أو لا يتضايق، فالرجل في ذمة الخلود الآن، ونسأل الله له الرحمة، فقد قال "من العيوب التي اتصفت بها السفسطة أنها أثارت الشكّ في ديانة الإغريق القديمة من غير أن تؤسس مكانها ديناً جديداً، وهذا عيب لا مراء فيه، إذ إن الشك وحده لا يكفي للإصلاح، ولا بد للمصلح الذي يشكك في صحة نظام قديم أن يأتي للناس بنظام أصحّ منه"[ص157] ثم يلتمس لهم العذر بأنهم مهَّدوا لظهور هذه الديانة الجديدة على يد سقراط الذي رجَّح الوردي أن يكون نبياً لأن فيه جميع صفات الأنبياء، والحق أن الوردي ليس سابقاً في اعتبار سقراط من الأنبياء، بل اعتبره نبياً بعض الفلاسفة الإسلاميين من قبل، ويشار إلى صدر الدين الشيرازي على أنه من الذين حسموا هذا الأمر فحكم بأن سقراط وأفلاطون وأرسطو كانوا أنبياء، ويختلف معه الدكتور علي الوردي في أفلاطون فقط إذ شن الوردي حملة شعواء ضده واعتبره محرِّفاً لتعاليم سقراط، وقارنه بأبي هريرة وبمعاوية بن أبي سفيان، عموماً ليس هذا هو موضوعنا الآن، فما نريد أن نتحدث عنه هو أن الوردي يعترف بأن العيب الأكبر في فلسفة السفسطائيين هو أنهم أثاروا زوبعة من الشك ولم ينتقلوا إلى مرحلة بناء اليقين، وهنا هو جوهر المشكلة، فما لم يلتفت له الدكتور الوردي هو أن الأساس الفلسفي الذي اعتمده السفسطائيون في إثارة الشك بالعقائد الدينية الوثنية للمجتمع الإغريقي، وبجميع المبادئ والقيم الأخلاقية، وإن كان كل ذلك باطلاً ويستدعي الشك والاعتراض، لا يسمح لهم مطلقاً بهذا الانتقال.

إن مقتضى تفكيرهم هو البقاء في حالة الحيرة والشك المطلق، إنهم شكوا في أصل المعرفة نفسها، لأنهم لم يعتبروا أن هناك حقيقة موجودة ينبغي معرفتها أساساً، مثل هذا التأسيس النظري لا يمكن أن يسمح بالانتقال إلى حالة اليقين التي تتطلب منهم نقض هذا المبدأ، فإذا نقضوه أصبحت فلسفتهم كلها فارغة من المضمون، ولم يعد ثمة مبرر لوجودها، ولذا فإن الدكتور الوردي يخطئ عندما يعتبر أن هذا مجرد خلل بسيط كان بالإمكان لهم تجاوزه، السفسطائي أسس لنفسه فلسفة تحكم عليه أن يبقى وفياً لشكه إلى النهاية، ولا تسمح له بالانتقال إلى حالة اليقين مطلقاً حتى لو أراد ذلك، إلا أن الدكتور الوردي بقي غافلاً عن هذه الحقيقة مع الأسف، وربما كانت غفلته هذه-أقول ربما- سبباً في تقديره للفلسفة السفسطائية، لأنه اعتقد أنها لا تعدو كونها شكّاً منهجياً من الطبيعي أن يكون مقدمة لحصول اليقين فيما بعد، إلا أن ما حصل هو أن السفسطائيين لم يقدموا على هذه الخطوة بسبب تقصيرهم، وما يؤكد هذا الظن هو أن الوردي يعتبر سقراط سفسطائياً أيضاً، وهو يختلف عنهم في أنه استلم إشارة الوحي فانتقل إلى بناء اليقين على أسس سفسطائية، أما كيف بنى سقراط فلسفته اليقينية على أساس سفسطائي، فهو ما لم يوضحه الدكتور الوردي على طريقته في إصدار الأحكام بصفتها مصادرات لا تحتاج في رأيه إلى دليل.

الحنفاء والسفسطائيون

إن المقابلة التي أجراها الدكتور علي الوردي بين الحنفاء والسفسطائيين لا تعتمد على أساس علمي منهجي في النظر إلى الأسس المعرفية التي يعتمد عليها موقف كلٍّ من الطرفين، فمن جهة نجد الحنفاء ينطلقون من اعتقاد راسخ بالتوحيد، أي إنهم كانوا يؤمنون بأن لهذا الوجود خالقاً متصفاً بالكمال والقدرة والعلم، بل إن الآثار الواردة عنهم تدل على أنهم مؤمنون بالنبوات كذلك، كل ما هنالك هو انهم لا يعرفون الوجه المرضي عند الله للعبادة، فهم لم يؤسسوا نظرية في المعرفة تقوم على الشك المطلق، السفسطائيون يقولون إن شيئاً ما ليس موجوداً وإذا كان موجوداً فإنه غير قابل لأن يُعرف، وإذا كان من الممكن أن يُعرف، فإنه لا يمكن نقل هذه المعرفة إلى الآخرين، أما الحنفاء فإنهم ما آمنوا بوجود إله لهذا الكون إلا لأنهم آمنوا بوجود الأشياء ثم عرفوها فعلموا أن لها خالقاً هو الله، وكانت هذه المعرفة لديهم قابلة للنقل إلى الآخرين، لكنها كانت معرفة إجمالية تحتاج إلى تفصيل، الأمر الذي لم يحصل إلا مع الإسلام، فلا وجه للربط بين السفسطائيين والحنفاء من جميع الجهات، إلا رغبة الدكتور علي الوردي بأن يجد لهم مقابلاً في التاريخ الإسلامي، وهي محاولة غالباً ما يلجأ إليها الحداثيون بشكل مرتجل، يقول الدكتور الوردي: "ويبدو أن السفسطائيين كانوا يقومون في المجتمع الإغريقي بمثل ذلك الدور الذي قام به الحنفاء في مكة قبل البعثة النبوية، فكانوا يمهدون بشكوكهم طريق النبوة، وقد ظهر النبي هناك فعلاً في شخص سقراط العظيم. والمعروف عن سقراط أنه كان في أول أمره سفسطائياً ولكنه شعر أخيراً بأن الوحي ينزل عليه، فانطلق عندئذ يبشر بدعوته الإصلاحية، ويضحي بكل شيء في سبيلها، حتى أنه أهمل جميع شؤونه العائلية والشخصية من أجل دعوته"[ص15] فلو أن السفسطائيين اعترضوا على آلهة اليونان، واعتقدوا بعدم معقولية أن تكون هذه الآلهة هي المسؤولة عن إيجاد العالم وإدارة شؤونه، ثم آمنوا بأن العالم موجود بطريقة منظمة بحيث تدل على وجود الخالق لهذا النظام الدقيق، لكان كلام الدكتور معقولاً، لكن المشكلة هي أنهم وضعوا الأساس الفكري والفلسفي الذي لا يترك فرصة أمام العقل البشري للإيمان بأي إله على الإطلاق.

الواقع ليس الاعتراض على السفسطائيين بسبب ديانتهم، لتكن ديانتهم ما تكون، ليست هذه المشكلة، المشكلة معهم ليست عقائدية بالمعنى الديني، المشكلة معهم معرفية فلسفية خالصة، إن فلسفتهم ليست هي غير صالحة لتشييد أي إيمان اعتقادي بالله، بل لا يمكن تشييد أي بناء علمي أو معرفي عليه، العلوم الطبيعية نفسها لا يمكن أن تواصل مسيرتها التكاملية في معرفة الطبيعة والكشف عن أسرارها بناءً على أسسهم المعرفية تلك، ونحن إذ نقول إن فلسفة الحداثة إنما هي فلسفة تعتنق وجهات نظر السفسطائيين القدماء، لا نقصد أن العلوم التجريبية الحديثة تقوم بذلك، هذا ليس وارداً في الحقيقة، نحن نقصد أن الحداثة في بناء نظرية معرفة للعلوم الإنسانية التي تكون هي المسؤولة بشكل مباشر عن رسم معالم الرؤية الكونية للإنسان الحديث تفعل ذلك، وإلا فإن العلوم التجريبية الحديثة لا تستند في مناهجها إلى السفسطة، بل هي تعمل بالضد تماماً من تلك الفلسفة.

نعم كل ما هو موجود في الفلسفة السفسطائية هو الجوهر الواقعي لما يطلقون عليه اسم عقلانية الحداثة، فقد اعتبرت الفلسفة السفسطائية أن المطالبة بالحريات المتنوعة ركن أساسي فيها، وكان هذا طبيعياً في الواقع، وليس امتيازاً، لا لها ولا للحداثة، أن تطالب بهذا الشكل من الحريات غير المنظمة بحيث تكون النتيجة هي التضحية ببعد أساسي من أبعاد الإنسان، لينتج لنا إنسان ذو بعد واحد هو البعد المادي، سهل جداً على أي إنسان أن ينكر وجود أي أساس موضوعي للأخلاق، وأن ينطلق بعد ذلك في طلب الشهوات والسعي خلفها وتحصيلها بلا حدود، إن السفسطائية لم تؤمن بنسبية الحقائق على أساس عدم وجود هذه الحقائق أصلاً، وليس على أساس أن هذه الحقائق موجودة ولكن جهاز الإدراك عند البشر لا يتصل بالحقيقة إلا ذلك الاتصال الذي تكون من خلاله معرفته بالحقيقة معرفة نسبية.

نحن غير السفسطائيين جميعاً نقول إن إداركنا البشري لا يوصلنا إلا إلى معارف نسبية بشأن تلك الحقائق التي تمتاز بالثبات والإطلاق، ونحن جميعاً نقول أيضاً إن الواقع متغير، وبما أنه متغير فإنه يفرض اشتراطاته على تلك الحقائق فيدعوها إلى إجراء التغيير على تمظهراتها ومصاديقها بحيث تكون متناسبة مع تلك الحالات المتغيرة، ليست النسبية في الإدراك هي النقطة التي نختلف فيها مع السفسطائيين واقعاً، نحن وهم نسبيون نتيجة الاعتقاد بنسبية المعارف البشرية، لكن جهة الاختلاف تتمثل في أننا نعترف بالوجود القبلي للحقيقة، بينما لا يعترف السفسطائيون للحقيقة بأي وجود قبلي، إن الحقيقة توجد فيما بعد من خلال عمليات الفهم التي يقوم بها الإدراك، لكن لا أصل لهذه الحقيقة في عالم الواقع، بل تطرفوا فأنكروا وجود الواقع من الأساس، ولا يمكن تكوين أية معرفة، حتى تلك المعرفة النسبية التي يتحدث عنها المتحمسون للسفسطائية الحداثية في العصر الحديث إلا بعد الاتفاق على أن هناك واقعاً منه يبدأ العقل سير المعرفة.

اضف تعليق